قعود القاتل على نكرانه/ روجيه عوطة
أجلس الفنان الكردي أحمد نبز رؤساء العالم، بأنظمته ودوله ومنظماته، على كراسيهم أو بجانبها، وخلفهم. علق صوراً، تظهر إرتكاباتهم فيها، من تدمير وقتل وجثث. توليفة الألبوم، الذي أعدّه نبز ونشره في صفحته في “فايسبوك”، بسيطة وقاطعة في آنٍ معاً. إذ تركب الشخصية، القائد أو الرئيس، واقترافاته، الإعدامات أو المجازر أو الاعتقالات، داخل إطارٍ واحدٍ، بحيث يحل الفاعل في الأمام، وفعله في ورائه.
موطئ القاتل هو الكرسي، وموطئ القتلى هو الصورة. وبينهما، فواصل خالية من أي صلة مثبتة. القتلة يديرون ظهورهم للقتلى، ويتربعون عليهم، من دون أن ينظروا صوبهم، أو يعتري ملامحهم أدنى شعور، يدل على أنهم يدركون أفعالهم، أو يحاولون التبرؤ منها. فهم يجلسون على مقاعد النكران، النكران الكلي، الذي يشغلون “سياساتهم” به.
يساوي نبز بين القتلة، الذين أقعدهم في مواضع مماثلة. كما يساوي بين القتلى، الذين بلغوا حالهم في نتيجة المقيمين بأمامهم. القاتل يجلس، والقتيل يُنفى، والعلاقة بين الجلوس والنفي طردية، لا يعرقلها حدٌ، ولا توقفها مسؤولية.
كلما قعد القاتل أكثر، يتضاعف موت المقتولين في الصورة المعلقة على الجدار ورائه. وكلما ظل في مكانه، يُبعدهم ويقصيهم، حتى يبدون كأنهم ينتمون إلى ماضٍ لا يعرفه، لأنه مضى قبل حضوره.
هنا، النكران في أوجّه. لكنه، سرعان ما يحيل إلى معاني أخرى، أولها، أن أمام القاتل مستقر على إثر ورائه الدموي. وثانيها، أن هذا الوراء بمثابة إنجاز، أتمّه القاتل لكي يتصور قدامه، فيكون عليه قائداً أو رئيساً. وثالثها، بعد التثبيت والإنجاز، هناك، في بعض الصور، كلام يوشك القاتل على التفوه به في أثناء خطبة أو مؤتمر صحافي أو حوار ما.
ومن الممكن الإعتقاد أنه كلام ينفي القتل، أو يرمي مسؤوليته على طرف غير مسؤول عنه. فهؤلاء، الذين يحضرون في ألبوم نبز، لا يقولون أنهم قتلوا، بل يتكلمون عن مكافحة أو حرب أو تصدي إلخ… وأحياناً لا يعلقون كأن جرائمهم لم تحصل. هذا، بدون غض النظر عن اختلاف مسار وسياق ممارساتهم القاتلة، التي وقعت في حقبات قريبة أو بعيدة من بعضها البعض.
إذاً، الكلام الوشيك جزء من حضور القاتل، لأنه جحودي أو نافي. وهو، لما يبدأ بابتسامة مثل ابتسامة صدام حسين، وقد ظهرت مجزرة حلبجة خلفه، يحمل إحساس الإبتهاج بالقتل. ولما يبدأ برفع الرأس، كما في وضع معمر القذافي، يحمل إحساس بالإعتزاز. وفي هذا المطاف، لا بد من الإشارة إلى العلاقة بين الظهر، الذي يديره القاتل للقتلى، والوجه، الذي يظهر موشكاً على الكلام به، إذ أنهما يتطابقان بسبب توجهما نحو غاية واحدة، أي النكران الكلي: “أدير لك ظهري وأنفيك بوجهي”. تالياً، ظهر القاتل هو وجهه، الأول مُدار والثاني مُشاح، وبذلك، يجري الإنصراف عن الجريمة.
لا شك أن أحمد نبز، بتوليفته الفوتوغرافية، يطمح إلى تصويب المسؤولية نحو القتلة، وهو تصويب من الوراء، حيث يظل القتلى في صورهم، فلا يلقون القبض على الحاضرين أمامهم. ومن ناحية ثانية، ثمة تحديد للجرائم بتظهيرها، حتى لو جرى ذلك من خلف مرتكبيها، الذين لا يقفون وجهاً لوجه مع القتلى، بل ظهراً لوجه، ليقترنون بهم عبر إلغاء وجودهم.
“هؤلاء هم المسؤولون”، يقول الفنان. لكنه، يدرك في قرارة تركيبه الفوتوشوبي، أن القتلة، في صوره، لا ينظروا إلى القتلى، ولا يكترثون لهم على الإطلاق، فهم لا يقعدوا أو يقفوا داخل الإبادات والمجازر والمعتقلات والمناطق المدمرة، كما لم يُحاطوا بالقتلى من كل حد وصوب، بل واصلوا حضورهم أمامهم، في أمامهم الإنكاري.
إنهم القتلة الذين ينفون خلفهم بظهورهم، وينكرون قدامهم بوجوههم، الأول يحولوه إلى ماضٍ يجهلوه، والثاني، إلى مجالٍ لا سياسة فيه، لأنه ببساطة مضاد لها.
المدن