رشا عمرانصفحات الناس

قليلاً من الموضوعية، أيها السادة/ رشا عمران

 

 

في منتصف عام 2012، ومع ازدياد عدد الهاربين من سورية، بسبب بطش النظام السوري، وانتقال آلة الموت من منطقة إلى أخرى، امتلأت القاهرة بالسوريين، حتى كنت لتمشي في وسط البلد في القاهرة، وتسمع اللهجة السورية، كما لو أنك في وسط دمشق. لم يكن السوري يحتاج إلى تأشيرة مسبقة (فيزا) للدخول إلى مصر، لم يكن الحصار الدولي ضد السوريين قد بدأ. في ذلك الوقت، كان يمكن لسورية مثلي تعيش في القاهرة أن تسمع من سوريين قادمين حديثا الكثير من الحنين لسورية، والكثير من الأحاديث عن جمالها وجمال طبيعتها وسهولة الحياة فيها، والتعليم والطبابة والنظافة، وإلى ما هنالك من مخيال الحنين وقاموسه، إلى حد أنني كنت أستغرب، أنا السورية التي عاشت ما يقارب نصف القرن في سورية، عن أي سورية يتحدث هؤلاء، وما دامت سورية والحياة فيها على هذا القدر من الجمال، فلماذا انتفض السوريون ضد النظام؟! ولماذا يقف هؤلاء النوستالجيون أنفسهم مع الثورة ويشتمون النظام، إذ من البديهي أن حياةً على مثل هذا الجمال الذي يتحدثون عنه لا يمكن أن تكون في ظل نظام قمعي وفاشي كالنظام السوري.

استمرت نغمة “الحياة الجميلة” قبل الثورة في سورية حتى اليوم، وظهر مصطلح “كنا عايشين”، لينتشر بين أوساط الرماديين، أو من أتعبهم ما حصل خلال خمس سنوات، وكثيرون منهم يعيشون الآن خارج سورية في بلاد اللجوء والأمان. في مقابل هؤلاء، تنتشر على صفحات التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت أخبار عن سوريين تفوقوا في الدراسة، أو في مهن معينة، أو في إبداعات ما في بلاد لجوئهم، ويتم الاحتفاء بهذه الأخبار وترويجها وتناقلها، حتى ليظن القارئ أو المتابع أن هذا شيء استثنائي، وأنه ما كان ليحصل، لولا خروج السوريين من بلادهم وانتشارهم حول العالم في بلاد اللجوء، ويتم ترويج هذه الأخبار مع محاولاتٍ كثيرةٍ، لنسف كل ما أنجزه السوريون قبل الثورة في بلدهم، وتشويهه وتسفيهه. وليس كلامي هنا رداً على أحد بعينه، عن ظواهر ثقافية أو فنية. أتكلم عن حياة بأكملها عاشها السوريون خلال تاريخ طويل، قدموا خلاله الكثير من الإبداع والتفوق في مجالات مختلفة في الحياة. أقرأ أحياناً كثيرة مقالات لسوريين عن سورية ما قبل الثورة، تظهر السوريين كما لو أنهم كانوا مجموعاتٍ بشريةً تعيش في مجتمعٍ مقفلٍ ومحدود، ولم يستطع إنتاج أي شيء مهم أو مفيد أو ذي قيمة، والسبب برأي كتابها، أن القمع المفرط خنق كل محاولات التفوق والإبداع.

نعم، بمعنى ما هذا صحيح، إذ لا يمكن في مناخٍ تنعدم فيه الحريات الفكرية والسياسية التعويل على ظواهر خلاقة ومبدعة ومؤثرة وحافرة في الحضارة الإنسانية. ولكن، هل حقا لم ينتج السوريون شيئاً في العقود الماضية؟ ألم يكن في سورية أطباء ومهندسون ومحامون وتكنولوجيون متميزون؟ ألم يكن لدينا أصحاب مهن وحرف حرة متميزون؟ ألم يكن لدينا معلمون وأساتذة جامعات متميزون؟ ألم يكن لدينا موسيقون ومغنون وتشكيليون ومسرحيون وفنانون وكتاب متميزون؟ ألم يكن بين أبناء السوريين في بلدهم طلاب متفوقون؟ ألم يكن بيننا من هم أصحاب ضمير وأخلاق؟ صحيح أن النظام الأمني الاستبدادي حاول تدجين المجتمع، وتحويله إلى مجتمع رمادي فاسد ومشوه، ولا منفذ فيه لأي فسحة لونٍ مختلف أن تظهر. ولكن، لم ينجح كثيرا في فعلته، ولا يمكن لأي نظامٍ مهما بلغ من الاستبداد والقمع أن يفعل، لأن هذا ضد منطق الحياة أصلاً، إذ لا يستطيع أحد أن يوقف سيل الحياة، مهما صنع من سدود، والسوريون، مثل غيرهم من شعوب هذا الكوكب البشري، متنوعون ومختلفون وقادرون على صياغة سبل يومياتهم، مهما كان الظرف الذي يعيشون فيه، ولو أن السوريين كانوا على هذا السواد الذي يصورهم به بعضهم قبل الثورة، فهل كانوا يخرجون أصلا في ساحات سورية وشوارعها في أعظم ثورة سلمية، قبل أن يجتمع زنادقة الأرض عليها، لحرفها وتشويهها؟

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى