صفحات العالم

قمة بغداد: عودة العراق عربياً… وغياب سورية

عبدالوهاب بدرخان *
يختلف سكان بغداد عن سكان العواصم العربية التي استضافت قمماً عربية، بكونهم يتذمرون منذ أعوام من أوضاعهم الأمنية والمعيشية الصعبة، وليس فقط من الإجراءات الاستثنائية المبالغ فيها لضمان القمة الخاطفة من دون أي مفاجأة مأسوية. ويختلف العراقيون، لا سيما المثقفين والكتاب والشعراء، عن نظرائهم من العرب بأنهم أطلقوا العنان لألسنتهم في هجاء القمة والمشاركين فيها ولعنهم، سواء بسبب المضايقات التي تعرّض لها الشعب أو حتى لأسباب سياسية مفادها الواضح أن لا جدوى من هذه القمم.
كانت القمة الثالثة والعشرون تأجلت من العام الماضي بعدما دهمها «الربيع العربي» وتحوّلاته، ولا شك في أن انعقادها في العراق يلمّع اعتبارات رمزية عدة، وأهمها أنه مؤشر لعودة العرب والعراق بعضهم الى بعض. كان الغزو والاحتلال الاميركيان فلشا ملفات العرب والعراق ووضعاها في محاسبات مريرة، فالمعارضة السابقة أصبحت حكماً جديداً في سبيله الى اقامة نظام مستقر بديل من النظام البعثي السابق، لكنها لم تنسَ مَن ساعدها ومن لم يساعدها خلال عهد صدام حسين، ولا من خاصمه ومن صادقه أو حالفه، مستخلصةً أن العرب كانوا عموماً أقرب الى الطاغية ولو مع استثناءات قليلة. ثم إن الحكام الجدد حمّلوا العرب مسؤولية العنف الإرهابي الذي ضرب العراق ولا يزال يخترق أمنه، في حين أن الشائع بل المثبت بالوقائع، أن المصدرَين المشتبه برعايتهما لهذا الارهاب هما سوريا وايران. أما أي رعاية عربية (حكومية) مفترضة، فلو وجدت لما تهاون الأميركيون قبل العراقيين في كشفها ومعاقبة مصدرها، واذا وجدت على نحو غير مباشر، فمن خلال الأطراف العراقية المتصارعة نفسها، لأن المعادلة السياسية الراهنة تشي بأن أنصار ايران مستقوون وأنصار العرب مستضعفون.
من الرموز التي يظهّرها أيضاً هذا الاستحقاق العربي، أن قمة بغداد السابقة عام 1990 كانت عملياً الأخيرة قبيل انهيار «النظام العربي الرسمي» بمساهمة آثمة من نظام صدام حسين، اذ شاءها اختباراً لـ «شعبيته» العربية عشية تفجيره أزمة مع الكويت، ومن ثمّ إرساله قواته لاحتلال بلد عربي. يومئذ طُرحت تساؤلات عن أسباب غياب الراحل حافظ الاسد عن القمة، ومما جرى تداوله أنه كان مرتاباً بنيّات صدام، وبأنه يريد استغلال القمة لهدف ما. أما قمة اليوم، فتأتي بعد اثنتين وعشرين عاماً فيما لا تزال بغداد ماضية في «مرحلتها الانتقالية» وتحاول الدفاع عن تجربتها بخطاب مفعم بمصطلحات ومفاهيم «ربيع-عربية» تعتبر أنها باشرت تطبيقها قبل ثمانية أعوام من نزول الشعوب الى ساحات التغيير. ليس مؤكداً بعدُ أن بغداد صنعت نموذجاً تستطيع الدعوة الى التمثّل به، بل على العكس، يثير نموذجها بشكله الراهن مخاوف التشرذم والتفتيت والعودة الى الدويلات الطائفية والعرقية، خصوصاً اذا أُسقط على الوضعين الليبي واليمني، ناهيك عن السوري. غير أن قمة بغداد ستشهد عرضاً للاستخلاصات الأولية التي توصل اليها «فريق حكماء عرب» دعاه الامين العام للجامعة العربية الى درس اعادة هيكلة الجامعة لتكييفها مع التحوّلات التي طرحها الحراك الشعبي.
لن تكون إعادة الهيكلة هذه ذات معنى اذا لم تقترح تنزيل حمولة جديدة على العقل السياسي الذي يدير الأنظمة والحكومات، والعلاقات بين الدول العربية، كما يدير الجامعة استطراداً. فهذه ظلّت حتى الآن مجرد نقطة التقاء بروتوكولي بين تلك الأنظمة. ولعل الدرس الأول في اعادة الهيكلة ينبغي أن يستمد من تجربتي الجامعة في تجميد عضويتي ليبيا وسورية. كان هذا الإجراء ضرورياً في ضوء الانتفاضات الشعبية، وبالأخص بسبب السفك المنهجي للدماء، لكنه اتخذ استنسابياً من دون أن يكون في ميثاق الجامعة ما يطرحه أو يحتّمه أو حتى يستوجبه، نظراً الى ان الجامعة درجت على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء. من هنا، إن أي تعديل للميثاق يجب أن يوضح بلا لبس أي مرجعية قانونية واخلاقية وحقوق-إنسانية ستلتزم بها الأنظمة لتكون لها عضوية مقبولة في كنف الجامعة. وانطلاقاً من وجود قيم عصرية ثابتة تجمع بين الأعضاء يمكن تفعيل المنظمات المنبثقة منها والمتخصصة بشؤون العدل وحقوق الانسان، اذ لم يعد ممكناً ولا مستساغاً أن يكون أي نظام مشاركاً في الجامعة لمجرد أنه «عربي» أو لمجرد أن الصدفة أوصلته الى حكم بلده. ولا يعني ذلك أن تصبح الجامعة حكماً فوق سيادة الدول -ففي الاتحاد الاوروبي مثلاً لم تفقد أي دولة سيادتها إلا أن مفهومها للسيادة تكيّف مع متطلبات الانضمام الى الاتحاد–، بل يعني أن الجامعة لا بد أن تكون حارسة المعايير الأساسية لـ «النظام العربي الرسمي» المقبل، ولا بد أن تكون الجهة المعنيّة أولاً بالتدخل كما فعلت في ليبيا، وكما حاولت وتحاول في سورية. كل ما هو خلاف ذلك سيترجم دائماً باللجوء الى مجلس الأمن وتعريض البلدان العربية لـ «بازارات» الأعيب الأمم، وباستغاثة الشعوب اليائسة بأي تدخل عسكري أجنبي لتخليصها من الحاكم المستبد، على نحو ما حصل في العراق ثم في ليبيا، والآن في سورية.
يبقى رمز مهم آخر، وهو سياسي، فالعراق أدرك أن استضافته هذه القمة توجب عليه استبعاد أي مظاهر أو ظهور للنفوذ الإيراني، وسيلزمه ترؤسه للقمة طيلة السنة المقبلة بأن يكون المدافع الرئيسي عن مصالح العرب حتى في تناقضها مع مصالح ايران، وبالتالي فهو أمام محك واختبار بمقدار ما هو ازاء فرصة لرسم حدود للمصلحة العراقية بين ما هو صداقة مع ايران وما هو نفوذ لها في العراق. ثم إنها قمة لم تدعَ سورية اليها، لكنها ستكون حاضرة في الأحاديث والأذهان والهواجس، كما في البيان الختامي. ولا تزال الدعوة الى وقف القتل هي القاسم المشترك العربي، بمعزل عن القرارات وسيناريوات التنحي ونقل السلطة والحل السياسي. إلا أن القاسم المشترك المكتوم يتمثّل بالضيق بهذا التهوّر الذي اعتنقه النظام السوري في ادارته لأزمته، أو بالأحرى في مفاقمتها. لا شك في أن قلق الدول الثلاث المتاخمة للمقتلة الدائرة في سورية يفوق قلق الآخرين، ومن شأن القمة لا أن تكتفي بالتحذير من التداعيات بل عليها أن تبدي تضامناً قوياً وواضحاً بمنع النظام السوري من تصدير أزمته للعبث بأمن دول الجوار. فثمة من كان يراهن على أن عراق ما بعد الانسحاب الاميركي سيكون أحد أعمدة تحالف اقليمي ثلاثي مع ايران وسورية، بل قيل ان هذا الرهان ساعد النظام السوري على اطالة الأزمة ريثما يمكن تفعيل هذا «التحالف». لكن الحسابات الحالية لبغداد لا تبدو مطابقة لتمنيات «الحليفين» الآخرين، فأولاً لا مصلحة واضحة لها في تسخير نفسها لنجدة نظام سوري آفل، وثانياً لأن متطلبات ذاك «التحالف» ستنعكس سلباً على الوضع العراقي الداخلي.
* كاتب وصحافي لبناني
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى