صفحات العالم

قناة السويس وتحدي القطب الشمالي

 

عفيف رزق

طريقان يحيطان بالقطب المتجمد الشمالي، الأول من الغرب يمر بكندا، والثاني من الشرق ويمر بروسيا ؛ وإذا كان الطريق الأول ما زال مقفلاً امام الملاحة الدولية لأسباب عديدة من أهمها النزاع الأميركي الكندي حول السيادة على هذا الممر البحري، فالولايات المتحدة تعتبره ممراً دولياً، في حين تعتبره كندا ممراً داخلياً، ومنها ايضاً العوامل المناخية غير المساعدة، وأخيراً عدم الاهتمام الضروري لتجهيزه بما تطلبه الملاحة البحرية الآمنة… فإن الممر الثاني، الذي يُطلق عليه الطريق الشمالي الشرقي، ويمتد على طول السواحل الروسية وخصوصاً السيبيرية منها، فانه محط انظار قادة الكرملين وفي رأس اولوياتها الاستراتيجية لجهة التطوير والتجهيز.

يعود الاهتمام الروسي بالطريق الشمالي – الشرقي، كممر بحري، الى عصر القياصرة، إذ بدأت الرحلات الاستكشافية لهذ الممر في العام 1877، والهدف كان نقل المنتجات الزراعية والمعادن من سيبيريا الى الداخل الروسي، ويعتبر السويدي “أوتو نوردينسكجاد” هو أول من عبر هذه الطريق ما بين عامي 1778 و1979 ملاحظاً ان الشروط الصعبة العائدة للجبال والكتل الجليدية في القسم الشرقي للطريق لا تسمح أبداً للاستثمار. لكن وبعد قرن ونصف القرن، ومع ارتفاع حرارة المناخ على الارض، أو ما يُعرف بـ”الانحباس الحراري” العائد لإنبعاث ثاني اوكسيد الكاربون، اخذت الكتل الجليدية بالذوبان ما سمح للسوفيات عام 1922 باستخدام هذه الطريق بوجود كاسحة جليد وتم عبور الطريق من مدينة “أرخانجيلسك” الواقعة على شاطئ بحر “بارينت” الى مضيق “بيرنغ” في الشمال، ومع ذلك لم يتم الاستفادة من هذه الطريق، في تلك الفترة، بسبب عدم صلاحية البنى التحتية وغياب الموانئ المتطورة… وانطلاقاً من العام 1970 اخذت السفن تعبرالطريق بعد تجهيزها بما تحتاجه، وانصب الاهتمام السوفياتي بإستثمار آبار الغاز والبترول في “الشمال الكبير”. وفي تموز 1991 صدر قرار رسمي بالسماح للسفن الاجنبية بإلإبحار، لكن انهيار الاتحاد السوفياتي جمّد أي نشاط يتعلق بالممر البحري المذكور.

في مطلع هذا القرن شهدت المنطقة اهتماماً ملحوظاً من قبل القيادة الروسية، وفي العام 2010 أعلن الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” عن خطة مهمة تقضي بتنظيف هذه الطريق من البقايا، وخصوصاً النووية منها، المتجمعة خلال العقود الماضية في المياه العميقة والمدن والقرى القطبية وجزر المحيط المتجمد الشمالي، وتجددت هذه الخطة بعد ذلك بإتخاذ القيادة الروسية قراراً برصد اكثر من 40 مليار دولار لتحديث طرق الوصول عبر الأنهارالسيبيرية، وانشاء طرق وخطوط سكك حديد، وتحسين أحوال الاتصالات والمطارات في المناطق الشمالية، مع إقامة تجهيزات لإستخراج البترول والغاز.

تغيرت المعطيات المتعلقة بالممر البحري الشمالي الشرقي جذريا، في المرحلة الراهنة، من تسارع ذوبان الكتل الجليدة، والاعتماد على كاسحات جليد حديثة ومجهزة بمستشفى عائم وآلات مخصصة لعمليات بسيطة وقيادة متخصصة.. وبكل ما تحتاجه السفن لمقاومة العوامل الطبيعية المفاجئة كإتجاه الرياح الشمالية وقوتها… وتبعاً لهذه المستجدات امتدت فترة الملاحة البحرية في هذا الممر، هذه السنة ولأول مرة، من حزيران الى منتصف تشرين الثاني، في حين أن الاستخدام كان من تموز الى أيلول طيلة العشر سنوات الماضية، وكانت آخر سفينة سلكت الطريق الشمالي – الشرقي في 18 تشرين الثاني الماضي وعلى متنها غاز سائل من أحد المرافئ النروجية الى أحد الموانئ اليابانية. وفي سجل هذا الممر أن عشر سفن استخدمته عام 2010 و34 في العام التالي وهذه السنة 46 سفينة، كانت محملة بمنتجات بترولية وغازية ومعادن واسماك مجلدة.

يرى المهتمون بهذا الممر الشمالي الشرقي انه لا تجوز، في المدى القريب، المقارنة بينه وبين قناة السويس التي تعبرها سنوياً نحو 18 الف سفينة محملة بأكثر من الف مليون طن من المنتجات المتعددة الانواع والاحجام، انما تصبح المقارنة، ان لم نقل المنافسة، في المدى البعيد جائزة وضرورية، استناداً لما يقوله القيمون على الموانئ الشمالية، وعلى الأخص الروس والنروجيون الذين يركزون على عاملين رئيسيين هما: عامل الوقت وعامل كلفة المحروقات التي تحتاجها السفن في ملاحتها البحرية. فالملاحة بين أحد الموانئ اليابانية – ميناء بوسان مثلاً – في المحيط الهادئ لتصل الى الميناء الروسي – مورمانسك – في بحر بارينت في المحيط المتجمد الشمالي، على السفينة ان تقطع، عبر قناة السويس، مسافة 19740 كيلومتر و37 يوماً، في حين انها تحتاج، عبر الممر الشمالي – الشرقي مسافة 9812 كيلومتر و18 يوماً. يضيف هؤلاء عاملاً مهماً آخر هو أن سعر طن المحروقات التي تستخدمها هذه السفن ارتفع من 200 دولار الى 700 دولار. وهناك عوامل اضافية كبوليصة التأمين وارتباط هذا العامل بحوادث السطو على السفن من قبل القراصنة وخصوصأ على الساحل الصومالي..

ما لا شك فيه أن المجهود الذي تبذله القيادة السياسية الروسية في ميدان تطوير الممر الشمالي – الشرقي سيؤدي الى جعل هذا الممر ليس منافساً فقط، لا بل بديلاً محتملاً لقناة السويس، وقد تظهر نتائج هذا المجهود خلال السنوات المقبلة، إذا ما أخذنا في الاعتبار الثروة النفطية والغازية المهمة والهائلة التي تتواجد في منطقة القطب المتجمد الشمالي، ويشهد على ذلك الاستثمارات الاجنبية الوافدة اليها، والتنافس الذي تبديه شركات النفط العملاقة المدعومة من حكومات مالكيها والمخططين الاستراتيجيين.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى