قنّاص أكياس البرغل/ عزيز تبسي *
مدثراً بمعطفه الثقيل، عبر الساحة الواسعة المفضية إلى الأمكنة الجديدة للمؤسسات الحكومية، المنقولة بسبب جغرافيا الحرب من خطوط التماس إلى الجغرافيا الأقل حربية، حاملاً بين يديه حزمة من الأوراق تخص المركز الإغاثي الذي يشرف عليه، والتي عمل من الصباح الباكر على تثبيت التواقيع والأختام على متونها وهوامشها، علّها تكتسب أقداماً وسيقاناً، وتضخ في شرايينها دماء جديدة لتسير إلى منتهى طريقها الوعر.
حين النظر في عينيه الباديتين كرتي رماد مشوبتين بزرقة خامدة، لن ترى التماعات ملامح المستقبل الطافح بغنائية عذبة، كما هي الحال في الأناشيد المدرسية وأغاني الإذاعة، بل نسيس الحيرة ودخانها المخنوق، الجاثم على صدور الناس المدثرين بألبسة متقشفة، اللاهثين بعماء في الشوارع. انحدر من تلك السلالات الآدمية المنذورة للقتل والتهجير في زمن الحروب، والمساقة بالقيد إلى السجون في زمن السلم.
لم تسعفه الدعاءات اللاهبة من صدر أمه للتحرر من حزمة المصائر التي تربصت به كأقدار عمياء، وخال كما الكثيرون، أن الالتزام المنضبط بتعاقب إضاءات الإشارات المرورية كاف ليجنبه الدعس الأرعن من سيارات تتعجل العبور الهائج كنذائر حربية.
يجلس في الصباح المبكر مع فنجان قهوته أمام النافذة الواسعة في صالة بيته، التي تأخذه زواياها الثلاث إلى ثلاثة أماكن ذات معنى، إلى الجنوب حيث ساعة “باب الفرج”، أي إلى ذاك البزوغ المتأخر للتحديث المديني في أواخر الحكم العثماني، التي بدأت تظهر بواكيره في المدينة قبل أن يوقفها الإعداد للحرب العالمية الأولى، وإلى الغرب حيث الإطلالات العالية لذرى أشجار الصنوبر في “الحديقة العامة”، أي إلى الاستهلالية المبهجة لعهد ما بعد الانتداب، لتلك المبادرات الأهلية التي كانت تتسابق مع الحكومات المتعاقبة التي سعت لتمييز نفسها عن الانتداب بتوفير فسحات من الفرحة الوطنية، وإلى الشمال “سنتر العزيزية”، حيث المركز التجاري والخدمي.. الذي ارتفع بناؤه في مرحلة زمنية غير بعيدة، وأقلع باحتيالات مزدوجة على العقارات وعلى المشترين، واستكمل بمخالفات بيّنة في البناء، ليدخل الاستثمار بعد ذلك بوصفه مركزاً للبضائع المهربة والمحمية، والتلاعب بمواصفات السلع.. مشفوعاً بتقليد تجاري راسخ، يُستهّل بذكر أسماء الله قبل البيع وحتى لحظة وضع السلعة في كيس المشتري وقبض ثمنها.. وبقي الشرق خلفه، شرق المدينة، حيث الجغرافيا المفتوحة لأهوال الحرب.
– ما الذي يمكن أن نكونه في أوضاع الثورة؟
– أن نكون ثواراً!
استكمل تبكيل أزرار كنزته الصوفية،” تأخرت الثورة”، قال محدثاً نفسه وكأنه يسترد أقوالاً قديمة ثاوية في أعماقه من مثل “تأخرت حافلة العمل” و “تأخرت عودة الغيّاب” و”تأخرت عودتنا إلى أراضينا المحتلة، أو عودتها إلينا” و”تأخر تحقيق حيز واقعي لحزمة من الأناشيد العذبة التي كان يستدفئ بها طلاب المدارس في صباحاتهم الباردة”.. لكنه عنى بـ “تأخرت الثورة”، أنها وقعت بعدما تجاوز سنه أعمار الثوار.
تيقن أن الثورات لا تحتاج فكراً ثورياً فحسب، بل عضلات مطواعة مدربة على الركض الطويل.. عله ينجو من مطاردات الشبيحة وسيوفهم.. بعدما اتجهت الحتميات إلى تأكيد دور السيوف والسكاكين والاعتقال في قمع التظاهرات. ويبقى كما في حيرة من يستدرجه في هذه الشروط الحارة إلى تلك السجالات العدمية، “الأسبقية للدجاجة أم للبيضة”، ويعمل على تدويرها في صيغ أقل سذاجة “هل الأسبقية للطرق أم لقطاع الطرق”، وكأنها وسائل لا يأتيها الملل ولا الكساح في تبديد الزمن واستنزاف المعرفة.
تجاوز الستين من عمره.. “سوء تقدير” تسبب قبل عام في اعتقاله، احتمل عذاباته هناك، وكان يصفها حين السؤال عنها بـ “كانت خفيفة” أمام ما رآه بعينيه.. خرج بعد شهر، وقد خسر أكثر من عشرين كيلو من وزنه، ومجموعة من أسنانه، وعاد ليقف أمام النافذة الواسعة ويدّور السؤال الذي لم يبارحه: ما الذي يمكن عمله في مثل هذه الشروط الجديدة. وجد الطريق سالكاً نحو العمل بـ “المراكز الإغاثية”. منحها وقته كله، وهو المتقاعد بعدما أتم سنوات عمله الحكومي. وكان العمل الجديد سانحة للإطلالة على الأوضاع التي خلّفها الصراع، بعدما توضع على شكله الحربي مقتحماً المدينة دون تبصر بأحوالها المعقدة. استقبل مئات العائلات في المكتب المتواضع الذي تبرع به صاحبه للأعمال التي لما تزل توصف بقاموس المدينة بـ “خيرية”، نساء مع أطفالهن بغياب أزواجهن، رجال بغياب نسائهم.. ساعده شبان متطوعون في تدوين الاستمارات التي تُبيِّن وضع العائلة الحالي، عدد أفرادها، عمل الأبوين، مكان الإقامة، وسبب طلب المساعدة.
يقف ليحصي أكياس البرغل والأرز والعدس وعبوات الزيت، ويفرزها على فسحات قبل أن يفتح الجداول الطويلة ويعيد ترتيبها في مجموعات تعرف بـ “السلة الغذائية”، تراعي وضع الأسرة وعدد أفرادها. أنهكته الأرقام وقساوتها وتأويلاتها المفجعة، حين تقترب من الحقائق كلها أو بعضها: “يساند برنامج الأغذية العالمي شهرياً نحو 4.25 مليون شخص متضرر من الأزمة في سوريا”..
في طريق عودته إلى مكتب الإغاثة عابراً الساحة الواسعة شرد مع السؤال، وحزمة الأوراق التي حملها من الصباح الباكر “أن نبدأ بنداءات الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية والوطنية، وننتهي بتوزيع أكياس البرغل على النازحين”.. لكن القناص الرابض في الأعالي لم يشرد، سدد نحوه طلقته لترميه كما بلاده وثورتها، جريحاً على الحصباء.
* كاتب من سوريا
السفير