قولوا للثوّار يضلّن ثوّار/تدمر انتهت من الأرض/صارت الصرخة وصارت النار/ محمود الزيباوي
بعد دخول “تنظيم الدولة الإسلامية” مدينة تدمر، ورفع علم الخلافة فوق قلعة من قلاعها، احتل الموقع الأثري الواجهة الاعلامية في العالم أجمع، وتردّد اسم زنوبيا، الملكة الذائعة الصيت التي استعاد الرواة سيرتها في قصص متعددة امتزج فيها الواقع بالخيال، حتى صارت الأسطورة أكبر من الشخصية التاريخية، وبات السؤال: ومن تكون زنوبيا؟ ومَن هي في المصادر العربية التراثية؟
في خريف العام 1971، قدّم الأخوان رحباني على خشبة “معرض دمشقي الدولي” مسرحية “ناس من ورق”، وتضمّن هذا العرض لوحة غنائية بديعة لعبت فيها فيروز دور زنوبيا ملكة تدمر. تبدأ اللوحة مع اعلان تمهيدي من “المهرّجة” جورجيت صايغ: “طلّو من الشبابيك/ وقفو على الطرقات/ ودّعو زنوبيا/ الملكة العظيمة/ بدّا تترك تدمر/ لأنها حبّت تدمر”. تخرج المهرّجة، وترتفع أصوات الأبواق. يظهر ممثلون في حال من الذعر وهم يمدّون أيديهم من الشبابيك، وترتفع أصواتهم، وتطل فيروز مع ارتفاع هذه الأصوات: “زنوبيا زنوبيا اسمعي يا زنوبيا/ أبواق الرومان عم تعلن نهاية تدمر/ تدمر يا نجمة المشارق/ حاصرتك روما واستشهدو أبطالك/ لبترا عم ينسمع نحيبك يا طفلة الممالك/ اهربي يا زنوبيا بين العواميد بالممر السري/ بتياب الدراويش ولا تذلك روما/ زنوبيا اهربي”.
ترفض زنوبيا الهرب، وتردّ بشكل قاطع: “لا، إذا أنا بهرب/ الأرض ما بتهرب”. يردّ الجمع: “كل شي عم يهرب/ المملكة السعيدة طفلة الممالك هربت من أيدينا”. يحضر المستشار الروماني ويضيف: “خمس سنين حكمت زنوبيا/ بنيت حضارة ثارت على روما/ خمس سنين يا غفلة سريعة يا خمس سنين”. وتردّ زنوبيا: “خمس سنين، ميّة سني، بيمرّو متل الطير/ بياكلهم الزمان، الزمان اللي بياكل كلس الحيطان/ بس اللي بيبقى، اللي وحدو بيبقى/ شرف الوقفة، الصرخة بوجه الظلم”. تتكرر الدعوة إلى الهرب، ويرتفع صوت البطلة: “أنا زنوبيا ملكة المملكة النبيلة/ لأجل الحرية بختار الموت، عطوني كاس الموت”. يقترب الجمع بشكل احتفالي من زنوبيا، حاملاً إليها كأس الموت، فتأخذه وتضع فيه سمًّا من خاتمها. يدخل الجنود الرومان، ويطلق أحدهم سهمه، فتقع الكأس من يد الملكة. يطلّ الأمبراطور أورليانوس، ويدخل في حوار مع الملكة المتمردة. يقول لها: “لا تخدعي الناس/ صارحي الناس/ قوليلن انكسرتِ انكسرتِ انكسرتِ”. تردّ زنوبيا: “الانكسار بيمضى والانتصار بيمضى/ وبكرا بالإيام تدمر اللي انكسرت وروما اللي انتصرت تنينتهن حجار/ وانت وانا تمثالين بساحة الآثار/ لكن بكل زمان ومكان/ بدا تطلع روما تطغي وتظلم/ وبدا تطلع تدمر ترفض الظلم/ بآخر الآخر بسهول الزمان/ بتنتصر تدمر، تدمر الحرية، تدمر الصرخة اللي بقلب الإنسان”. يكبّل العسكر الروماني زنوبيا بسلاسل، ويصدح صوتها: “لوحو بإيديكن ودعو زنوبيا/ قولو للشعرا يكمّلو الأشعار/ قولو للثوار يضلّن ثوار/ المملكة تدمر انتهت من الأرض/ صارت بالقلوب صارت بالمدار/ صارت الصرخة وصارت النار/ أورليانوس عجّل خدني على روما/ عليت الصرخة كبرت على الموت/ لا عسكرك اورليانوس ولا قوة روما/ ولا كل روما بالدهر بتسكّت هالصوت”.
أعادت هذه اللوحة الغنائية إلى الذاكرة الجماعية قصة زنوبياـ وتلتها أعمال أخرى. في العام 1974، قدم التلفزيون السوري قصة زنوبيا في مسلسل عنوانه “انتقام الزباء”، من تأليف محمود دياب وإخراج غسان جبري وبطولة سلوى سعيد وعبد اللطيف فتحي. بعد ثلاث سنوات، تقمصت نضال الأشقر هذا الدور في مسلسل من انتاج التلفزيون الأردني حمل اسم “زنوبيا ملكة تدمر”. بعدها، قامت الفنانة رغدة بدور زنوبيا في أول تجربة لها مع الدراما السورية في العام 1996، وذلك في مسلسل “العبابيد” الذي كتب له السيناريو والحوار الراحل رياض سفلو، وأخرجه بسام الملا. في العام 2007، استعاد منصور رحباني هذه القصة في مسرحية غنائية قُدّمت في دبي، أدت فيها كارول سماحة دور زنوبيا، وجسّد أنطوان كرباج دور أورليانوس. ضمّت هذه المسرحية مئة وثلاثين ممثلاً وممثلة، وعُرضت على خشبة مسرح خاص في “مدينة دبي للاستوديوات”، وطغى عليها الجانب الاستعراضي حيث تخللتها معارك بالمنجنيقات والأسهم والنيران المشتعلة، إضافة إلى مبارزات بالسيوف على الخيول والجمال.
تمزج الرواية العربية الحديثة بين زنوبيا التي اكتشفها الغرب قبل أن يكتشفها الشرق، والزباء التي تناقل أخبارها أهل الأخبار في كتب التراث العربية. بحسب هذه الرواية المبتكرة، كانت الملكة التدمرية غزيرة المعارف، وكانت تجيد اللغات الشائعة في عصرها، وكانت تجالس أعوانها وتباحثهم، وكانت تتفوق عليهم بقوة برهانها وفصاحة لسانها، كما أنها كانت تجيد الصيد والقنص، ولم تكن تركب في الأسفار غير الخيل، وكانت عادلة في رعاياها على اختلاف أجناسهم، ولا سيما العرب منهم. اقترنت الزباء من أذينة ملك الشرق، وتسلمت زمام الحكم بعد موته باسم ولدها القاصر ولي العهد وهب اللات، وامتد حكمها فبلغ مصر وأطراف الجزيرة، وحين سعت إلى الاستقلال عن روما، واجهها أورليانوس، فقاد جيوشه إلى تدمر وحاصرها، وقبض عليها قرب الفرات، ونُقلت إلى روما حيث أمضت بقية حياتها في منزل متواضع.
تضارب الروايات
مَن هي زنوبيا؟ ومَن هي الزباء؟ قُتل أذينة في ظروف يكتنفها الغموض، وترك ثلاثة أولاد أكبرهم ابنه الصغير وهب اللات، فقامت أمّه زنوبيا بالوصاية عليه، وشرعت في تنفيذ مشروعها الكبير في الاستيلاء على الشرق ثم الغرب، فضمّت سوريا بكاملها ومصر وآسيا الصغرى. ثم اتّخذت وابنها لقبَي الأمبراطور في حدود العام 270، وسكّت في أنطاكيا والإسكندرية قطعا من العملة تحمل اسمها واسم ابنها وصورتيهما، وعندما تسلم الأمبراطور أورليانوس الحكم، تقدم لمواجهتها بجيش قوي، وانتصر في معركتي أنطاكيا وحمص، فتحصن التدمريون مع ملكتهم في عاصمتهم وقاوموا، وأدى ذلك إلى نهب مدينتهم بعد وقوع زنوبيا في الأسر. تتضارب الأخبار في نهاية هذه الملكة. يخبرنا فلافيوس فوبيسكوس في”التاريخ الأوغستي” أنها أنهت حياتها بهدوء في دار كانت قائمة بين قصر أدريان الشهير في التيفولي، قرب روما، في موقع كان يحمل في أيامه اسم “زنوبيا”. في المقابل، يقول زوسيموس أنها مرضت في الطريق بعدما امتنعت عن تناول الطعام، وظلت على تلك الحال إلى أن ماتت. يروي مالالاس أنها قُتلت بعد المعركة مع أورليانوس، وتناقض هذه الرواية خطاب أورليانوس الذي يؤكّد فيه أنه أبقى حياتها ليستفيد منها في التعامل مع الفرس.
تحضر الزباء في روايات عربية نقلها عدد من المؤرخين، منهم الطبري والمقدسي وابن خلدون وحمزة الأصفهاني. تَقاتَل جذيمة الأبرش بن مالك اللخمي، مع عمرو بن الظرب بن حسان بن أذينة بن السميدع بن هوبر، وأسفر هذا القتال عن مقتل عمرو بن الظرب، فملّك قومه مكانه ابنته الزباء، فعزمت على الثأر من قاتل أبيها، ودعته إلى قصرها، ولما لبّى الدعوة، قبضت عليه وقطعت “راهشَيه”، والراهشان عرقان في باطن الذراع يتدفق الدم منهما عند القطع. هلك جذيمة الأبرش نزفاً، فصمم خليفته عمرو بن عدي على الثأر من الزباء، ونجح في دخول مدينتها من طريق الحيلة، ولما بلغها، مصّت السمّ الذي تحتفظ به في خاتم من خواتمها وهي تقول: “بيدي لا بيد ابن عدي”. تختلف الروايتان في الكثير من التفاصيل. عُرف والد زنوبيا باسم زباي، ولم يكن ملكاً. أما والد الزباء، فهو عمرو بن الظرب، وكان ملكاً على الجزيرة وأعمال الفرات ومشارف الشام، وهو في بعض المصادر ملك العراق. كانت زنوبيا متزوجة ولم يكن لها أخت، وكانت الزباء عزباء وكانت لها أخت تدعى زينب. كانت زنوبيا تتقن لغات عدة، أما الزباء، فكانت تتكلم العربية فقط وتُضرَب بها الأمثال. حكمت زنوبيا سوريا بأكملها، وطاول حكمها مصر والأناضول، وبقيت الزباء ضمن حدود شمال الجزيرة العربية وجنوب سوريا والعراق. واجهت زنوبيا الأمبراطور أورليانوس، وواجهت الزباء الملك جذيمة الأبرش ومن بعده عمرو بن عدي، وفي الختام، أُسرت زنوبيا، وانتحرت الزباء بالسم.
مثل كليوباترا، سحرت زنوبيا الغرب، وألهمت الكثير من الرسّامين والنحّاتين على مدى قرون من الزمن. افتتن الروائيون بسيرة الملكة الأسيرة، ونسجوا حولها قصصاً، فحجبت الأسطورةُ الرواية التاريخية. استعاد الباحثان الفرنسيان آني وموريس سارتر سيرة زنوبيا، وأعادا كتابتها بعد تنقيحها في كتابهما “تدمر مدينة القوافل” الصادر لدى “غاليمار” في العام 2008، وتناولا هذه السيرة من جديد في كتاب صدر عن “دار بيرين” عنوانه “زنوبيا، من تدمر إلى روما”. يرى الباحثان الأكاديميان أن شهرة زنوبيا الملكة تعود إلى كونها أسطورة أكثر منها حقيقة تاريخية، وأن الرواية العلمية الموثّقة تتعارض مع هذه الأسطورة بشكل كبير. تؤكّد هذه الدراسة الأكاديمية أن المعلومات والوثائق التاريخية التي تتناول سيرة زنوبيا قليلة، وترجع في غالبيتها إلى ما بعد وفاتها بمرحلة طويلة، وقد ساهمت هذه الروايات المعدودة في صناعة أسطورة زنوبيا الملكة السورية. بعيداً من الأسطورة المتوارثة منذ أجيال، سعى آني وموريس سارتر إلى إعادة قراءة المراجع التاريخية وفق منهجية علمية، وانكبّا على دراسة الاكتشافات الأثرية التي حصلت في القرن العشرين، وما حملته من كتابات وردت على أعمدة الصروح المعمارية في تدمر وعلى النقود التي ترجع إلى مرحلة حكم زنوبيا.
في الخلاصة، عاشت زنوبيا في القرن الثالث الميلادي، غير أننا لا نعرف بالتحديد تاريخ ولادتها وموتها. ظهرت زنوبيا يوم كانت سوريا خاضعة للأمبراطورية الرومانية طوال أكثر من قرنين، وكانت سليلة أسرة من الأعيان ذات ثقافة هيلّينيّة، كما يستدلّ من اسم والدها أنطيوكوس. وفقا للرواية المعروفة، ورثت الحكم في العام 267، بعد وفاة زوجها أذينة الذي لُقّب بـ”ملك الملوك” اثر انتصاره على الفرس، وحملت عنه لقب الملكة. حكمت تدمر مع ابنها الفتى، وكانت المدينة في عهدهما ميناء ثرياً يقع وسط سوريا، بين وادي الفرات والبحر المتوسط. كانت القوافل التجارية تحطّ في هذا الميناء الصحراوي، وكان أهالي المدينة يؤمّنون للتجّار وسائلَ النقل والسفر بسلام وسط البادية، مما ساهم في إثراء تدمر، يوم كانت المدينة واحدة من مدن الأمبراطورية الرومانية، وكان لها جيشها الخاص لحمايتها. واصلت زنوبيا السياسة التي انتهجها زوجها في الدفاع عن سوريا والتمدد في شبه الجزيرة العربية وفي مصر. على عكس ما يُقال، لم تحاول الاستقلال عن الأمبراطورية الرومانية، بل طمحت بالسيطرة على عرش روما والجلوس عليه. تولى أورليانوس الحكم في روما في العام 270، ورأى أن زنوبيا تشكل منافساً له، ورفض أن تشاركه السلطة، فخاض ثلاث حروب ضدها انتهت بهزيمتها. اقتيدت حاكمة تدمر اسيرة إلى روما، لكننا لا نعرف كيف كانت بعد أسرها. شكلت هزيمتها أمام أورليانوس أساساً لأسطورة الملكة السورية التي حاربت روما طمعاً بالاستقلال عنها.
هكذا تنفصل زنوبيا عن الزباء عند أهل العلم والتاريخ، غير أنها تبقى في الذاكرة الجماعية العربية تلك الملكة التي جسّدتها فيروز في دمشق في العام 1971، وهي ملكة “عربية اللسان حسنة البيان شديدة السلطان كبيرة الهمة”، كما روى ابن الجوزي في “الأذكياء”، و”لم يكن في نساء عصرها أجمل منها، وكان اسمها فارغة، وكان لها شعر إذا مشت سحبته وراءها، وإذا نشرته جللها، فسُمّيت الزباء”.
النهار