“قوميو طهران وموسكو العرب”/ فادي محمود
لم تنسق القوى القومية العربية للعمل فيما بينها، لا في داخل أقاليم الربيع العربي، ولا على امتداد الساحة العربية، ولا من أجل استيعاب أو تصويب لهذه الحُمى “البوعزيزية” الشعبية، والتي كان وقودها ودينامو انتشارها الشباب في كل ساحات التحرر من الاستبداد الرسمي العربي.
هذه الساحات المرتبطة ارتباطاً عضوياً؛ تجاوز الجيوسياسي والديموغرافي؛ ارتباطها عبر ذات الدوافع؛ في التخلص من القمع الاجتماعي والسياسي، ارتباطها بالغايات عبر التحرر والخلاص وعبر ذات الآليات السلمية الشعبية، والتي دفعت الملايين للتحرك بأجسادها عبر المظاهرات والاعتصامات؛ لتجسد أكبر حالة حراك سلمي تشهدهُ المنطقة العربية، والعالم مع مطلع العقد الثاني من هذا القرن.
فانخرط كل من يؤمن ببساطة هذه الحقوق كونهُ رقماً طبيعياً في عدّاد المظاهرات وأساليب العمل المدني، فأخذت أشكالاً رائعةً في مصر عبر التخييم في ميدان التحرير، حتى الغناء في سورية، والذي أخذت تعم أناشيدهُ اليمن وميادينهُ، مع تغيير في هدف الشعار بين رموز القمع الممتدة عبر عقودٍ في هذه الساحات.
وفي حين أجبرَ “معمر القذافي”، كما “بشار الأسد”، الناس على التسلح دفاعاً عن أنفسهم وابتعاداً عن المؤسسات العسكرية في كلا البلدين، والتي مثلت سُخط السلطة في محاولاتها تدارك انهيارها، فلم تشهد المنطقة أيّ كيانٍ عسكريٍ ثوريٍ قومياً كان أو يسارياً في أي من الساحات؛ لأسباب عديدة أهمها الاختلاف حول ضرورة الإطاحة بهذه الأنظمة، فشكلوا جمهوراً عريضاً عبر وسائل الإعلام والتواصل؛ للتمجيد بالقذافي بدايةً ثم ببشار الأسد جمهور “ممانع” ورأي عام على مزاج الطاغية وبنكهة شعاراتهِ، فوُوجهوا بهذا الحراك الشعبي وتحرره.
وكان لرغبة الكثير من الأنظمة الإقليمية والمجتمع الدولي الأثر الكبير والمباشر في ضرورة حصر السلاح بالاسلاميين فقط، و”الأكراد” في سورية والعراق مثالاً، قبل أن تتشكل عدة تشكيلات ترفعُ شعارات تنبئ باعتدالها، وإن توافقت مع المقاييس الأميركية، الداعمة لها بالتقطير، ومع استمرار الصراع في سورية، عبر جيش النظام وشبيحتهِ والجيوش الداعمة لهُ “إيران وروسيا”، ومليشيات في مقدمتها “حزب الله” اللبناني، عبر محور “قومي-فارسي” يرفع شعار العداء لـ “إسرائيل”.
ولإجهاض ثورة سورية ذهبت أحزاب وشخصيات عربية تأخذُ مناحيٍ شتى في انزلاقهم مع أعداء التحرر العربي؛ داعمين موقف إيران ومليشياتها “الحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان” باسم العداء للصهيونية ومناهضة “الرجعية العربية”، هذا المصطلح الآخذ بالظهور مجدداً؛ مُتهمين المملكة العربية السعودية بممارسة هذه الرجعية -خاصة- بدعمهم لتحرر سورية في وجه إيران، ولشرعية اليمن ضد قوات صالح وأنصار الحوثي.
وحينما مالت الكفة نحو ضرب قوات التحالف متعددة الجنسيات لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” مالوا مع هذا التيار، بتبنيهم والنظام وأعوانه لمحاربة الإرهاب من “أبي بكر البغدادي” المنصب نفسه خليفة في تنظيمهِ، حتى أصغر طفل من أطفال الوعر ومضايا ودير الزور..، عبر الحصار على الأرض واتباع سياسة التجويع الجماعي، وبالطائرات الروسية التي كما يبدو لا تقدر على التفريق بين تجمعات المقاتلين المتشددين والمدارس والمستشفيات، حتى غدا كل من لا ينتمي لمحور موسكو وطهران وممثليها في المنطقة، إرهابيا بالضرورة!
فما كان من الجوقة المحترفة بالتغني بأمجاد رئيس النظام السوري كما تغنت بأبيه طيلة عقود، إلا أن تعتبر روسيا -التي تفردت لحل “الأزمة السورية” على طريقتها-، الحليف الأكبر والمدافع الأوحد عن هذا التوازن الدولي، بين معسكر “الإسلاميين الإرهابيين” ومعسكر “المقاومين” المدافعين عن فلسطين والعروبة؛ بارتكاب طائراتها لمئات المجازر بين صفوف المدنيين، حيث لم تؤلم تنظيم الدولة الاسلامية في أي موضع، وبالتنسيق مع الطائرات الإسرائيلية التي لا يكاد يمضي أسبوع بدون أن تغير على موقع من مواقع النظام ومليشيا حزب الله في سورية، دونما أن يفسر أحد من وجوه الإعلام والمقاومة لهذه الظاهرة الغريبة حيث الوصال المتواصل بين محورٍ يرفع شعار عداء “إسرائيل” برعاية روسيا الحليف، وروسيا التي يجمعها الود والتنسيق الدائم مع “إسرائيل”!
برعَ النظام السوري في الإحاطة بالامتداد الطائفي والنزعة الأقلوية، والخيوط الإقليمية والدولية المتشابكة، بطريقة اشتغل فيها “حافظ الأسد” لعقود ممثلاً أفضل الظروف التي تتوافر في عميل قادر على التعبئة الشعبية والقومية، لملايين ممن يرون المقاومة والتحرير يتأتى عبرَ أوامر الدكتاتور ولدرجة “طغيانهِ المغتفر”.
ثم ما كان من المنتمين للفكر القومي العروبي منه والناصري، من الذين شاركوا في ساحات التحرر العربية والسورية، إلا أن أصبحوا موضع اتهام نتيجةً لانتمائهم، فالأحرار منهم اعتُقلوا وهُجروا واستشهدوا، وضاقت بهم السبُل، حالهم في هذا حال كل السوريين الخارجين على ناموس خلود الطاغية.
فالمشكلة التي تُعد بالنسبة للتاريخيين من رموز العمل السياسي المعارض؛ القوميين واليساريين منهم خاصة في سورية، تكمن في الأسلوب الذي لا يتلاءم مع الكثير من خططهم وأيديولوجياتهم ورؤى الأقدمين منهم، التي -مع كامل براءتها- لم ترَ للتطبيق من مجال في ساحاتٍ اتسعت للأمّي والنخبوي وللمتدين والعلماني جنباً إلى جنب في سبيل حرية وَحدتهم بقدر ما هي فرقت نصوص المتعالين عن صياح الساحات، وهتاف التحرر، فأخذوا مأخذ البعد والامتناع بدايةً، ثم الانقلاب الكارثي والذي جعلهم والطغاة في الخندقِ ذاته بحجة تأسلُم الثورات؛ فخانوا في هذا أول ما خانوا شعاراتهم التي ظلوا ملتصقين فيها طيلة عقود!
وذهب طيفٌ واسعٌ “للوسطية” في الادعاء والعمل؛ بتفضيل القومي على الوطني، وكأن أي مشروع تحرري وطني لأي إقليم عربي لا يخدم بالضرورة التوصل لأهدافهم والتي منذ أكثر من نصف قرن يَتبعون ذات الأسلوب في تسويقها!
من هنا لم يستغرب الكثيرون الوثيقة المُسربة عن النصائح التي قدمها الراحل “محمد حسنين هيكل” للمخابرات السورية؛ للعمل على إثبات الإرهاب على جماعات المعارضة المسلحة والجيش الحر في سورية، وعن ضرورة إضفاء الإرهاب على أي حراك شعبي في سورية، فهذا هيكل الذي كان اليد اليمنى للراحل “جمال عبدالناصر” زعيم القومية العربية عبر التاريخ، فلن نفاجأ بعد هيكل بالمتلونين لأن بداية التذبذب الإنساني والأخلاقي ستقود حتماً للانحلال القومي العربي في آخر مطافاتها، ولنا في “قوميي طهران وموسكو العرب” عِبرٌ للتاريخ وللمستقبل يصعب حصرها كما يصعب نسيانها.
(سورية)
العربي الجديد