صفحات الرأي

قوى الدولة العميقة والعداء للدولة/ ماجد الشيخ

 

 

على أنقاض أنظمة مستبدة، أو بالتوازي مع وجودها واستمرارها، والقيام بتسلطها الاستبدادي المغالي في تطرفه، ينشأ استبداد جديد على أيدي نخب تريد وراثة الاستبداد القديم أو تجديده، أو التواصل معه من حيث انتهى شكلاً، واستمر ويستمر جوهراً، وتلك مهمة النخب التي تتماهى والاستبداد القديم، لتقيم بنى جديدة لاستبداد يواصل مفاعيله وسردياته في كل البنى التي عشعش فيها الخراب، خراب الاستبداد وهو يطور نوعياً أدواته، عبر ما آلت إليه السلطة والدولة في بلادنا اليوم.

تلك آلية لاستمرار قوى «الدولة العميقة» على حالها، من الإقامة عند حدود الاحتفاظ بالسلطة أولاً، والحفاظ على نوع من (استاتيك «الاستقرار» من أجل الاستمرار) في المهمة الوظيفية التي أناطها الاستبداد بموظفي الدولة، مهمة الخضوع لآليات استبداد خاصة داخلية، وعلى مستوى الوطن. ذلك أن الاستبداد لا يمكنه أن يدوم من دون أن يحلق بأجنحة قوى «الدولة العميقة» كقوى وظيفية، مهمتها الأساس حماية الاستبداد من هجمات الثائرين عليه، وكقوى احتياط مهمة دفاعاً عن «رب نعمة» ما تجسده الدولة أو السلطة من «رب عمل وظيفي»، لكل أولئك الذين يجسدون القاعدة الاجتماعية والسياسية للنظام السياسي الاستبدادي السائد، في أروقة الدولة الريعية والزبائنية التي لم تعد تنتمي الى شعبها ومجتمعها، بقدر ما أصبحت أكثر هجنة، تغرق في الرثاثة حتى العظم.

لا تختلف قوى الدولة العميقة في أروقة نظام تسلطي ديني (إسلاموي)، وبين نظام عسكري، يعتقد أنه بشعبويته المزعومة يمكنه الاستيلاء على مشاعر وعواطف بعض الجماهير الجياشة والمتعطشة لنموذج حكم شعبي، على ما كانه نظام عبد الناصر يوماً، وما أريد لنظام السيسي أن يكونه كشبيه لذلك النظام؛ وهذان نموذجان لم يختلفا عن نموذج أقامه الإخوان في مصر قبل الإطاحة به على يد العسكر في ثورة جرى الاستيلاء والانقلاب عليها، لتستمر «قوى الدولة العميقة» في نقل سلاحها من كتف إلى كتف، ومن تغيير شعاراتها ويافطاتها من النقيض إلى النقيض، وتلك هي القاعدة الاجتماعية الرثة للاستبداد على اختلاف هوياته وانتماءاته وتلوناته. وفي الأنظمة السياسية المدنية، لا تختلف الطبيعة الاستبدادية عن مثيلاتها في أنظمة دينية أو عسكرية، ذلك أن المصالح التمثيلية لا تعترف بالفروق، إذا كان هناك من فروق؛ بين أنظمة لا تحمل في تكوينها الطبيعي، أو ما تكتسبه بفعل سطوتها وغلبتها التسلطية، سوى سمات شبه موحدة، يغلب عليها طابع الاستبداد، الأمر الذي تنتقل عدواه إلى قواعد تلك الأنظمة، وهو ما نطلق عليها في حالة الأنظمة القائمة السياسية والدينية والأهلية، «قوى الدولة العميقة»، وهي في الغالب الأعم قوى سلطة تسلطية، طموحها الرئيس بقاء الحال على ما هو عليه، ومقاومتها أي تغيير محتمل أو ممكن، ومواجهتها الحركة الشعبية دفاعاً عن مصالحها أولاً، وهي مصالح تتماهى والنظام القائم، بغض النظر عن طبيعته وتكوينه الطبقي، فهي والحالة هذه بروليتارياه الرثة، البروليتاريا التي تقوم منافعها على الاكتفاء بنيل الفتات.

لقد فشلت الثورات في إنجاز عملية التغيير والتحول التاريخي، وهي فشلت أولاً بإسقاط النظام أو الأنظمة القديمة، حتى وهي تسقط بعض رموزها، ما أبقى عملية التغيير مهمة ملحة وآنية على جدول أعمال الحركة الشعبية، وقواها الطليعية الشبابية، بطموحها الخلاق للتغيير الحقيقي، ولإنجاز أهداف المرحلة الثورية. المرحلة التي يتحقق فيها غياب الاستبداد والتسلط السياسي والديني والثقافي على حد سواء، حيث تستعيد المجتمعات عافيتها وألق صيرورتها مقرراً أساساً في بناء وتشكل النظام السياسي. وإن كان لتونس الأسبقية في إنجاز ما أنجزته حتى اللحظة، فهي لما تبلغ بعد مرحلة النضوج التغييري، في ظل وجود قوى وتيارات تحاول العودة إلى الخلف، وهي بتأثيراتها ستبقي التجربة ناقصة، كما وبوجود عناصر وازنة من النظام القديم، يمكن أن تستدعي ارتكاساً ونكوصاً لا نتمناه للأشقاء في تونس.

لكن الأخطر هو ما يجري في ليبيا واليمن وسورية والعراق، حيث قوى التخلف الماضوي تحاول الإمساك بلجام التغيير، مانعة الحركة الشعبية وقواها الطليعية والشبابية من المضي في درب الثورة واستكمال مسيرة التحول، بل ويجري منع بناء مؤسسات لدولة من الضرورة قيامها، قبل أن تقرر الحركة الشعبية الاحتفاظ بها أو إسقاطها. وتلك هي المهمة الراهنة في بلدان يبلغ التفتيت والتجزئ فيها وتقاسمها حصصاً ومغانم، مديات عليا من الصراع الضاري على السلطة. وهذا ما لم يكن خليقاً بأن تقود إليه الثورات، أو تهدف لتحقيقه. ومثلما هي في الحقيقة ما تسمى «قوى الدولة العميقة»، قوى تعادي الدولة الحقيقية، كذلك يقف اليوم العديد من الجماعات والتيارات الطائفية والقبلية والعشائرية والجهوية والسياسية والحزبية، على ما هو الحال في كل من العراق وسورية واليمن وليبيا، لتعادي الدولة من حيث هي جوهر النظام السياسي والانتظام المجتمعي والثقافي في بنية الدولة الوطنية الحديثة.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى