صبحي حديديصفحات مميزة

قيادات الاسد وقانون السقوط: ما طار طير وارتفع…


صبحي حديدي

أشارت تقارير حديثة العهد إلى أنّ حلقة النظام السوري الأضيق، بشار الأسد وشقيقه ماهر بصفة خاصة، أخذت تميل أكثر فأكثر إلى إعادة تأهيل قيادات أمنية شائخة، تولّت مسؤوليات أجهزة أمنية رئيسية طيلة عقود، منذ أواسط السبعينيات وحتى الأشهر الأخيرة قبيل وفاة حافظ الأسد. يتصدّر هؤلاء اللواء المتقاعد علي دوبا (الأمن العسكري)، واللواء المتقاعد محمد الخولي (مخابرات القوى الجوية)، وأفادت التقارير أنهما عُيّنا مؤخراً بصفة مستشارَين للشؤون الأمنية، والتحقا بمكتب خاصّ في القصر الجمهوري، ومُنحا التخويل باستدعاء أو فرز عدد من الضباط المتقاعدين أو الإحتياط أو العاملين في مواقع أمنية وعسكرية أخرى، للإنضمام إلى ذلك المكتب.

وكان الأسد الابن يرفض هذا الحلّ بشدّة، لثلاثة أسباب تبدو مرجحة من زاوية انطباقها مع مزاجه، ومع المنطق السليم أيضاً: 1) أنّ هذه العودة تشكّل ‘إهانة’ لصورته الشخصية، التي سُوّقت ضمن صفات ‘الشباب’ و’الحداثة’ و’الإنفتاح’ و’التجديد’، ومن غير المعقول، أو المقبول، أن يلجأ إلى الديناصورات، خاصة في هذه المرحلة القاتلة من أحوال نظامه؛ و2) هي طعنة، فضلاً عن كونها إهانة، للفريق الأمني ـ العسكري الذي صعد معه بعد التوريث، أو جرى تصعيده في حياة الأسد الأب، لكي يتحمّل مع الوريث الشابّ أعباء مرحلة بالغة الخطورة، وحافلة بالمخاطر، بعيداً عن أطماع ‘الحرس القديم’ في اقتناص الحصّة الأدسم من مغانم نظام كانوا في عداد كبار صنّاعه وحماته؛ و3) كيف للوريث أن يعيد الثقة بأناس شاء المورِّث نفسه، الأسد الأب، أن يبعدهم عن مواقعهم، خشية أن ينقلبوا على سيرورة التوريث، أو يستغلوا نفوذهم في غير صالح الوريث؟

قبول الأسد اليوم بإعادة تأهيل أمثال دوبا والخولي هو، إنْ صحّ وتحقق في الميدان العملي، مزدوج الدلالة: أنه تسليم بفشل الحلّ الأمني ـ طبعة بشار وماهر الأسد، وترحيل حاضر هذا الحلّ إلى طبعة أخرى يتولاها الديناصورات (وكأنّ الزمن هو أواخر السبعينيات ومطالع الثمانينيات!)، قد لا تكون البتة أقلّ وحشية، من جهة، ولكنها أيضاً قد لا تكون أقلّ فشلاً، من جهة أخرى؛ وأنه، في الدلالة الثانية، أقرب إلى التسليم القدري بأنّ عجز النظام عن كسر الإنتفاضة، التي تدخل شهرها السادس أكثر تجذراً ونضجاً وتصميماً، يمكن أن يذهب إلى أكثر الخيارات يأساً، وأدناها إلى سلوك الإنتحار. فما الذي يمكن لدوبا أن يجترحه من ‘معجزات’، أفضل ممّا فعل ويفعل ضبّاط من أمثال ماهر الأسد وذو الهمة شاليش وحافظ مخلوف وعلي مملوك وعبد الفتاح قدسية ومحمد ديب زيتون وجميل حسن وعلي يونس وزهير الحمد وتوفيق يونس وعاطف نجيب وثائر العمر وناصر العلي وإياد محمود وعلاء سعّود وغسان بلال…؟

وسوى هذه وتلك، ثمة ما يذهب بالدلالة إلى مستوى المقامرة المفتوحة التي تعمّم معضلات الفرقة الرابعة (وهي ‘جيش النظام’ الأوحد، حتى الساعة، في مواجهة الإنتفاضة)، بحيث تنسحب على فصائل النظام كافة، من الكتائب الأمنية ـ العسكرية، إلى الشبيحة والميليشيات، مروراً بـ’اللجان الشعبية’ المسلحة. وتلك المعضلات تنطوي على الهجنة مقابل الإنتخاب الطائفي والعشائري، واختلاط الولاءات بين تلك القديمة الراسخة والأخرى الجديدة الهشة، وتضارب المصالح بين بندقية على هذا الكتف وأخرى على الكتف الثاني، واهتراء المعنويات إلى مستوى يجعل القتال إلى جانب النظام بمثابة طغيان أقصى لغريزة في البقاء عمادها السلوك الوحشي وحده…

فإذا احتسبنا على مكتب دوبا والخولي ذلك المؤتمر الذي عقده، قبل نحو شهر، وزير الإعلام الأسبق محمد سلمان، ونفر من البعثيين القدماء الذين تقاطروا إلى بيته لاقتراح حلول إنقاذية، فإنّ الحال تردّنا إلى مطلع وراثة الأسد الابن، حين كانت القاعدة الذهبية تقول التالي: ما لا يخسره ‘الحرس القديم’، بفئاته العسكرية والأمنية والحزبية، لا يكسبه ‘الحرس الفتي’ بفئاته الموازية في المواقع ذاتها؛ وما يكسبه أمثال ماهر الأسد وآصف شوكت وذو الهمة شاليش، في الشريحة الثانية من معمار السلطة التوريثي، ليس بالضرورة خسراناً مبيناً وبائناً لأمثال دوبا والخولي وعلي حيدر وشفيق فياض (ورفعت الأسد، قبلئذ وبعدئذ!) في معمار السلطة ما قبل التوريث.

أجدني، في هذا السياق، مدفوعاً إلى إعادة مناقشة مصطلح ‘القيادة السورية’، بالمعنى المفهومي والمؤسساتي، وليس بمعنى الأسماء في حلقات السلطة الأضيق، إذْ أنّ من الطبيعي أن تتبدّل تلك الحلقات بمرور الزمن، وأن تتغيّر مكوّناتها طبقاً للمعضلات والمشكلات التي جابهها النظام. فالمصطلح ذاته بات غائماً ومبهماً وغير ملموس بعد وفاة الأسد في حزيران (يونيو) 2000، فاكتنفته الأسئلة التالية: مَن هي هذه القيادة على وجه التحديد؟ كيف تشكلت، ومتى؟ ومَن، وما الذي، يمنحها سلطة اتخاذ القرارات بلا أساس دستوري؟ هل هي متماسكة منسجمة متفاهمة، سياسياً وأمنياً وعلى مستوى المصالح والتوازنات بين أطرافها؟ هل بقيت على الحال التي بدأت عليها حين تشكّلت، أو أعادت إنتاج نفسها، بعد غياب الحاكم الوحيد الأوحد حافظ الأسد؟

وفي تلمّس بعض الإجابة على هذه الأسئلة، ثمة تفسير أوّل، هو أيضاً ذاك الذي اعتمده أنصار السلطة، يقول ببساطة إنّ النظام متماسك ومستقرّ، وما جرى ساعة وفاة الأسد الأب لم يكن سوى محاولة بارعة لتطويق الأمور سريعاً، وتنفيذ القرارات والإجراءات التي كانت ‘القيادة السورية’ قد أجمعت عليها في الأساس، ومنذ وقت طويل، في عهد الأسد الأب، وبرعايته. وهذا التفسير يضرب صفحاً تاماً عن طبيعة جولات التطهير التي شهدتها البلاد في الأشهر الأخيرة قبيل رحيل الأسد، ويغفل المغزى السياسي والأمني لاستبعاد رجال من أمثال دوبا وحكمت الشهابي (رئيس الأركان الأسبق، وأبرز أعضاء مجلس الأمن القومي حينذاك)، واللواء علي حيدر (القائد التاريخي لـ’الوحدات الخاصة’)، وقادة فرق عسكرية من أمثال شفيق فياض وإبراهيم الصافي وعلي الصالح، فضلاً عن انتحار محمود الزعبي (رئيس الوزراء الأسبق، والأطول ولاية في عهد الأسد).

التفسير الثاني يقول إنّ الحرس الفتي (الذي توجّب أن يمثّله الأسد الابن، مبدئياً) تصالح سريعاً مع الحرس القديم الذي مثّله عبد الحليم خدّام في الواجهة، وضمّ جميع الذين يطالبون بحصّة في الإرث، من قادة الأجهزة الأمنية الأربعة (المخابرات العسكرية، المخابرات العامة، مخابرات القوى الجوية، الأمن السياسي)، إلى رئاسة أركان الجيش وقادة الفرق العسكرية، وصولاً إلى الأفيال والتماسيح الكبار والصغار في قيادة الحزب ومؤسسات القطاع العام. وإذا صحّ هذا التفسير فإنّ سورية تكون قد فقدت حافظ الأسد جسداً فقط، وليس منهجاً أو سياسات: مات الأسد! عاش الأسد! وبالطبع، سوف تتكفّل السنوات اللاحقة بتفكيك هذا التفسير إلى مستويات أبسط، وأدقّ، مفادها أنّ نظام الابن محض استمرار لنظام أبيه، وليس ما تغيّر إلا ذاك الذي استوجبته فوارق الزمن والشخوص والوقائع، داخل سورية وخارجها.

التفسير الثالث يقول إنّ الحرس القديم سارع إلى ‘امتطاء’ حدث الوفاة، وسعى مباشرة إلى تطويق الموقف بما ينطوي عليه من احتقان في المشاعر وتضارب في الولاءات، فوضع الأسد الابن في قلب السيناريو الذي كان يدور على الألسن منذ ستّ سنوات. وإذْ بدا ذلك بمثابة ‘وفاء’ لنهج الأسد الراحل، وتنفيذ لوصيّته غير المعلنة، فإنه في الآن ذاته أسفر عملياً عن وضع الأسد الابن في فوهة المدفع مباشرة، وأظهر البلاد وكأنها ملكية فردية لأسرة حافظ الأسد وحدها (وليس حتى لآل الأسد مجتمعين، بدليل ما وقع آنذاك من مطالبة رفعت الأسد بحصّته الشخصية في الكعكة). ذلك الوضع كان كفيلاً بإثارة المزيد من مشاعر السخط على مستوى القواعد التحتية في السلطة والجيش، وعلى مستوى الشارع السوري، وكفيلاً بوضع الوريث وفريقه في موقف دفاعي صرف، بدلاً من الموقع الهجومي الذي كانوا يرتاحون إليه لأنه الأفضل من الناحية التكتيكية. وفي سياق هذا التفسير، كان من الطبيعي أن ننتظر من الحرس القديم شنّ هجوم معاكس لاحق، بعد أن تهدأ الخواطر وتصبح وفاة الأسد مجرّد ذكرى، وهذا ما جرى بالفعل عند وأد ‘ربيع دمشق’.

التفسير الرابع يقول إنّ القوى التي تمكّن الأسد الأب من حشدها خلف نجله، بما توفّر له من وقت آنذاك، هي التي تحرّكت بسرعة قصوى وفرضت سيناريو التغيير كما تابعه العالم بدهشة. وتلك القوى كانت تبدأ من وحدات الحرس الجمهوري ذات الولاء المطلق لشقيق الوريث، ماهر، قبل الوريث نفسه؛ وكانت تمرّ بعدد من الفروع الأمنية، في المخابرات العسكرية والمخابرات العامة تحديداً؛ وكانت تنتهي عند هذه أو تلك من أفواج القوات المسلحة، وهذا أو ذاك من كبار ضباط الأركان. والتفسير هذا بدا وكأنه يصف انقلاباً عسكرياً وليس مرحلة انتقال ‘سلسة’، ويصحّ فيه ما يصحّ في الإنقلابات العسكرية من سيادة منطق داخلي خاصّ، متقلّب تماماً، ليس الإستقرار ضمن خصائصه.

وفي مناسبات سابقة، أو بالأحرى في انعطافات حاسمة شهدها نظام التوريث، خضع مفهوم ‘القيادة السورية’ إلى اختبار عناصره التكوينية الكبرى، من حيث الأشخاص والسياسات، فبدا أنّ فتيانه مثل شيوخه يخضعون بالتساوي للقانون الذي تختصره الحكمة الشهيرة: ما طار طير وارتفع، إلا كما طار وقع! خذوا، في مثال واحد فقط، تركيبة هذه ‘القيادة السورية’ عشية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري: الأسد، شقيقه ماهر، اللواء غازي كنعان وزير الداخلية، واللواء آصف شوكت رئيس الإستخبارات العسكرية، واللواء بهجت سليمان الرجل الأقوى في جهاز أمن الدولة، وعبد الحليم خدّام النائب الأوّل للرئاسة. وخذوا ما انتهت إليه ‘حلقة الستة’ هذه: خدّام بدّل تجارة الفساد بتجارة ‘الإنشقاق’، وسليمان سفير في الأردن عاجز عن تنظيم وليمة يحضرها صحافي أردني واحد شريف، وكنعان نُحر أو ‘انتُحر’ كما في التعبير الطريف، وشوكت صار خارج الحلقة يزعم ‘الحرد’ لكنه يشتغل لحساب مشروعه الخاص، فلم يبق في الميدان إلا… الشقيقان!

واليوم، كما في الماضي ساعتئذ، في وسع المرء اختيار أيّ من تفسيرات مفهوم ‘القيادة السورية’، أو تركيب عناصرها في كلّ متداخل أقرب إلى تحصيل الحاصل، وسينتهي المرء دون عناء إلى أنّ مصالح الحرس القديم التقت بمصالح الحرس الجديد، وكان لا مناص من استيلاد تحالف كهذا لكي لا تُصاب بنية النظام بشقوق وصدوع وانكسارات قاتلة تذهب بشوكته، وتخلّ بتوازناته الداخلية، ومحاصصات النهب التي تُبقي أواصر الولاء المشترك حيّة في نفوس أهل النظام ودوائر السلطة الأعلى والأضيق. فهل من غرابة، إذاً، أن يعود الأسد الابن إلى تراث أبيه، على ما فيه من مخاطر ومزالق، فيتكىء على الديناصورات في الميمنة، مثلما يُبقي على الفتيان في الميسرة؟

لا غرابة، ولا غريب يمكن أن ينتظره المرء من نظام متهالك سائر إلى مأزق شامل تامّ، ولن تزيده الحلول المتناقضة التي يعتمدها ـ ويستبدلها أو يستعيدها بين يوم وآخر، في صورة مموّهة أو في نسخة طبق الأصل ـ إلا السقوط أكثر فأكثر نحو هاوية سحيقة دانية.

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى