قيامة كواكبيّة!
خيري منصور
قبل مئة وعشرة اعوام كتب نهضوي عربي طورد من الباب العالي في مسقط رأسه حلب ولاذ شأن الكثير من أقرانه بمصر، ما لم يكن يقوى احفاده على كتابته حتى نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، وفي مقدمته لكتابه الذي عاش بفضل ديمومة الاستبداد وارتهان العباد قال انه فتح بابا صغيرا من أسوار الاستبداد عسى الزمان يوسعه.
لكن ما اتسع ليس الباب الذي فتحه الكواكبي الذي مات مسموما، بل الاستبداد ذاته، فقد ولد من صلب الفساد ذي الرؤوس المتعددة، وأصبح القرن التاسع عشر بكل محاصيل الشقاء التي غمرت الناس مجرد مسودات اولى او دوزنة اذا قورن بما تفاقم من بؤس واستحواذ واستعباد للبلاد والعباد في القرن العشرين، وحين تصدر طبعة جديدة من كتاب ‘طبائع الاستبداد’ للكواكبي بعد قرن من صدوره فدلالة ذلك ليست مجرد ضرب من احياء التراث بقدر ما هي تلبية لحاجة ومحاولات للاجابة عن اسئلة تناسلت دونما اجابة شافية. يقول الكواكبي في تعريف الاستبداد انه غرور المرء برأيه والأًنَفة من قبول النصيحة او الاستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة، وهذا التعريف لم يطرأ عليه في حقبة الحداثة وما بعدها غير اضافات كمية، فالغرور بالرأي وصل عبر متوالية احتكار السّلطة، الى ادعاء المعصومية وتحويل امة بأسرها الى أسرى ورهائن في عقر دورهم وأوطانهم، بحيث تبادل الوطن والمنفى الأدوار، واتسع المنفى ليشمل الملكوت كله، ومرادفات الاستبداد كما يقدمها الكواكبي عديدة، لكن الجوهر واحد.. فالعسف والتسلط والاستعباد هي مجرد تنويعات على الوتر المشدود ذاته، ما دام العزف الدائم هو النشيج، وأنين من فقدوا الحول والقوة وأسلموا امرهم لأولي القهر، وقد لا يجد من ولدوا بعد رحيل الكواكبي بعقود طويلة ما يضيفونه الى ما يقوله عن المستبد، ومن هذه الأقوال ان المستبد يضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق وهو عدو الحق والحرية بل قاتلهما، وبالنسبة للمستبد فإن العوام صِبية أيتام والعلماء هم اخوتهم الراشدون، ان أيقظوهم هبّوا وان دعوهم لبّوا، والا فيتصل نومهم بالموت… والصورة المثلى للعباد كما يحلم بها المستبد هي ان تكون رعيّته كالغنم وكالكلاب، ومن أقبح انواع الاستبداد استبداد الجهل على العلم واستبداد النفس على العقل، وهو ما يسميه الكواكبي استبداد المرء على نفسه، فالجاهل بالفعل هو عدو ذاته اولا.
* * * * * * * *
للاستبداد شجرة عائلة ايضا، وله أقارب من درجات متفاوتة، كما انه يولد من تزاوج الظلم والخديعة، لهذا فهو كالفساد ليس مجرد طحالب تطفو على سطح الماء الآسن والواقع الذي ركد حتى استنقع، والقليل منه سرعان ما ينتشر ويتمدد حتى يسمم الدورة الدموية كلها للمجتمع، وتحلّ منظومة مضادة من القيم مكان المنظومة الأولى، ولا أدري لماذا تذكرت على الفور واثناء قراءة ‘طبائع الاستبداد’ تلك التعاليم الشيطانية التي بشّر بها الوزير ابن الفرات ذات خريف عباسي عندما جهر بالرشوة واشترطها بابا للفرج، ثم تحولت هذه التعاليم الى شرائع في أزمنة التسلط والسّطو على مصائر العباد. ولكي تكون مقاربة هذا النهضوي الاشبه بزرقاء يمامة رأت في نهاية القرن التاسع عشر ما جرى في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين بانورامية، وليست موضعية، عالج اشكالية الصلة بين الامية والاستبداد والتربية والاستبداد والترقّي، فوجد ان الدين بريء مما ينسب اليه من تشريع الاستبداد، وانتقى من القرآن عشرات الايات ليبرهن على هذه البراءة، لكن ما قاله الكواكبي عن ثنائية المال والاستبداد هو رؤية مبكرة وخلاقة لما يسمى الان تزاوج السلطة والمال، بعد أن أصبح المال سياسيا بامتياز واتّسخ وغُسل مرارا ليرسخ مفاهيم هجينة عن فلسفة الحكم، يقول: حفظ المال في عهد الادارة المستبدة أصعب من كسبه، لهذا أفرزت هذه الذهنية مثلا يقول: ان حفظ درهم من الذهب يحتاج الى قنطار من العقل، لكن المفارقة هي في ان الاستبداد في مرحلة ما يفرض على الموسرين ان يتظاهروا بالعُسر، وعلى من يملك ان يزعم الفقر حفاظا على ما لديه، لكن التطور الذي طرأ على ثنائية المال والسلطة خلّف مثل هذه الاحترازات وراءه، فالمستبد عثر على حلفاء يشاطرونه شهوة السّطو، وتشكلت من هذا التحالف سلطة من طراز جديد، يتحول الناس من خلالها الى سلعة ولكل كائن تسعيرة، وحين يشذ فرد ما عن هذه القاعدة القصديرية المغمورة بالصدأ فإن مصيره معروف، وقد يتحول الى عبرة لآخرين اذا قرروا ان يقتفوا خطاه!
* * * * * * *
لست ممن يجتذبهم تقويل النصوص بدلا من تأويلها المنطقي، كي تلبي الرّغائب كأن يقال بأن عالما رياضيا او فيلسوفا قال أقوالنا كلها قبل ألف عام، فهذا الهاجس الاستباقي يتطلب تعذيبا بروكوستيا للنصوص على طريقة قاطع الطريق الاغريقي بروكوست، الذي كان يعذّب ضحاياه فيبتر سيقانهم اذا فاضت عن مساحة سريره ويمطّها حتى تتفسخ اذا قصرت عن تلك المساحة، لكن حين نقرأ الان ما كتبه الكواكبي قبل اكثر من قرن نجد انفسنا مضطرين للمقاربة بين ما يقول وبين ما كتبه اريك فروم بعده بزمن طويل، يقول الكواكبي: ان عبيد السلطة لا حدود لها هم من غير المالكين لأنفسهم ولا هم آمنون بأنهم يريدون أولادهم لهم، بل هم يربّون أنعاما للمستبدين واعوانا لهم، عليهم وفي الحقيقة ان الاولاد في عهد الاستبداد هم سلاسل من حديد يرتبط بها الآباء على أوتاد الظلم والهوان والخوف والتّضييق، فالتوالد من حيث هو زمن الاستبداد حُمق والاعتناء بالتربية حٌمق مضاعف كما قال الشاعر:
إنْ دام هذا ولم تحدُث له غِيَرٌ لم يُبك مَيْتٌ ولم يُفرح بمولود
وحين نقرأ ما كتبه اريك فروم في كتابين على الاقل هما ‘ان تملك او ان تكون’، و’الخوف من الحرية’، نجد ان الكواكبي كان ذا حدس اشراقي وكأنه يرى عن بعد الرأسمالية في ذروة توحشها ويشم رائحة العطن الذي تفرزه، فإريك فروم بعنوانه الساخر ان تملك او ان تكون قام بتحوير العبارة الشكسبيرية الشهيرة وهي ان تكون او لا تكون، فالملكية وما تستدره من لعاب على المزيد من السطو هي البديل الأدنى والغريزي للكينونة بمعناها الوجودي العميق. ما قاله الكواكبي هو ان من يتوهمون الامتلاك لا يملكون حتى انفسهم لأنهم عبيد ما يمتلكون! والخائفون من الحرية هم أسرى الارتهان لاستبداد يشملهم ايضا، بل يمارسون استبداد أنفسهم من خلاله وهم لا يعلمون!
* * * * * * *
ينتهي الكواكبي الى تقديم وصفة يراها نموذجية للتخلص من الاستبداد، وتتلخص الوصفة الكواكبية في خمسة وعشرين مبحثا تشمل الاستبداد من ألفه الى داله وليس الى يائه كما يقال. ويجزم بأن أعظم مدرسة هي مدرسة التاريخ الطبيعي، وما من برهان أقوى من الاستقراء، ورغم انه لم يذكر مصطلحات من طراز الخلايا الزواحفية للدماغ التي يتداولها علماء النفس والاحياء في ايامنا الا ان مجمل ما قاله يصب في هذا المعنى، اما التصعيد والتسامي اللذان يدعو اليهما فهما ليس مجرد وسيلتين للتفوق على الغرائز وفق النهج الفرويدي، لأنهما ليسا مرانا ذاتيا معزولا عن نمط انتاج اقتصادي وتربويات وثقافة، مات الكواكبي مسموما في منفاه، وآخر عبارة قالها لابن اخيه: سموني يا عبد القادر، وبعد قرن من اجهاض النهضة التي كان عبد الرحمن من ابرز اعلامها حاول احفاده البحث عن قبره من دون جدوى!
اما ما يستحق الكواكبي ومن كانوا معه على اعتاب القرن العشرين فهو ليس اعادة طبع كتبهم فقط بل الثورة العارمة على استبداد تناسل وتفاقم وأنجب فسادا أوشك ان يحول الأمّة الى (أَمَة) والوطن الى قبر جماعي يعج بالاحياء! فهو حين كتب عن طبائع الاستبداد كان على بعد قرن من (صنائعه)!
القدس العربي