حسام موصلليصفحات المستقبل

قيد الانتظار في قاعة المغادرين/ حسام موصللي

ذروة الألم التي قد تتملّك من أُجبِر على التنقّل بين بلدانٍ سقط الوطن من قائمتها سهواً أو عمداً، هي لحظة تسلّمه تذكرة السفر من الموظف في مكتب الحجوزات. لأكن أكثر تحديدا: عندما يبتسم الموظف في وجهكَ قائلاً: “شكراً”.

لم أستطع يوماً أن أدرك سرّ اختيار هذه الكلمة، مع أن من الواضح جداً أن كلّ كلمة عزاء ستكون أكثر جدوى في لحظةٍ كهذه. يغادركَ جزءٌ من الروح ليهيم تائهاً دونما وجهة، بينما تصعد أنتَ في سيارة الأجرة لتتأمّلَ اللامكان إلى أن تدرك أنّ ما يمسك برقبتكَ الآن ليس تشنّجاً عَضلياً بعد ثلاث ساعات ونصف الساعة من الجلوس المتواصل في السيارة بين الاسكندرية والقاهرة، بل هو جسدكَ يحاول عبثاً أن يتشبّث بما بقي من ذاتك.

* * *

يترامى الناس في مطار القاهرة كطابور غير منتظم من الجثث المؤجّلة. فكلّ أربعة كراسٍ تكفي لأن تأخذ شكل التابوت. الفارق أن الصالة هنا مكيّفة.

شاشات المطار لا تعرض أخبار الوطن، لذا فإنك تستطيع ممارسة القلق والخوف على ما يحصل في البعيد، مع شعورٍ ضئيل بأن مجزرةً أخرى لم تحدث بعد، طالما أن أحداً لم يتصل بك ليخبرك بالفجيعة. حظر التجول سيجعلكَ نزيلاً في المطار عندما تكون رحلتكَ في الساعة الثالثة صباحاً، لأنك مضطر للوصول إليه قبل التاسعة مساءً. ستّ ساعات هي وقت جيد لمشاهدة البشر بأشكالهم وألوانهم. مع أنهم كُثُر، قلائلَ يعرفون أنهم يتشاركون المكان مع معتقلين ومعذّبين وعائلات لشهداء ومفقودين تفصل بينهم وبين بلادهم ساعة ونصف ساعة من الغيوم، وأجَلٌ غير مسمّى من الخراب والموت. كُثُرٌ هنا لا يدركون أنهم أينما جالوا بأبصارهم فسيرَون لاجئاً مضاعفاً، كان منذ أشهر خلت ضيفاً لدى أصحاب المطار، والآن أصبح متّهَماً حتى لو ثبتت براءته.

* * *

وحدهم الأطفال يشبهون الحياة بين الجثث المؤجلة التي تناثرت هنا وهناك. ربما لأنهم لم يلحظوا الشبه الكبير بين عربات الأمتعة التي يتراكضون بها حول الغرباء، وبين العربة ذات العجلات الثلاث التي حملت ذات يوم أشلاء عشرات الشهداء على أرض الوطن. لم أفكّر قبلاً بتلك العربة ، كل ما أذكره عنها أنها مخصّصةً لحمل الحجارة والإسمنت في ورش البناء.

لم يتعوّد الأطفال هنا أن يلوّحوا للطائرات، فهي في مخيلتهم ليست سوى طائرٍ حديدي مفترس، كلّما حلّق فوق رؤوسهم فقدوا أباً أو أماً أو ربما طفلاً آخر كان في اليوم السابق حارساً للمرمى في لعبة كرة القدم اليومية أمام ما بقي من مدخل البناء.

* * *

في الساعة الربعة والنصف بعد الحظر، تدرك أنك قد أصبحتَ جزءاً من المطار، وأنك قد امتلكتَ القدرة على تمييز العاملين المدنيين من الضيوف والنزلاء. بل أن خجلاً سوف يصيب الشرطي على الباب عندما يراك خارجاً للمرة الثلاثين لتدخّن سيجارة، فيحلف عليك أن تأخذ واحدة من علبته، لعلّها تكون فاتحةً لحديث قصير يحاول فيه ذلك الرجل، الذي سئم صوت احتكاك الحقائب بالعتبة الحديدية، أن يوصل إليك رسالةً مفادها أن البلاد تعيش حالاً من الفوضى!

* * *

في كل مرة ينادي الموظف على الرحلات، يشعر كلّ من في المطار بيأسٍ خانق. كأنه عندما توظّف في المطار لم يكن في نيته العمل، بل كان يبحث عن رحلته الخاصة، لكنه بعدما نادى على ألوف الرحلات ولم يجد لنفسه اسماً في قوائم المسافرين، أدرك بعد فوات الأوان أنّه – عدا الموت – لا توجد رحلة أخرى تأتي إلى المسافر من تلقاء نفسها.

* * *

في الوقت الضائع في قاعة الانتظار، أقول لأحد الأصدقاء في قارّةٍ أخرى، بينما أقرأ نصاً كتبته إحداهن ونال ما نال من إعجاب ومشاركة: “هل شعرتَ مثلي باضطرابٍ معوي عندما مرّت عيناكَ على كلمة “تبدو” بعدما اغتصبتها ألفُ التفريق بغير وجه حقّ أو حتّى مذكرة قانونية في غياب قانون الطوارئ؟ أتعلم أن هذه اللغة كانت يوماً لطرفة بن العبد؟ صدِّق أني أكاد أرى الآن امرأ القيس قد انتفض في قبره ثم ضرب رأسه في الشاهدة ليموت مرّة أخرى”. أجل يا صديقي، الحقيقة ليست نسبيةً دوماً، فلو كان لـ “تبدو” هذه أيّ قدرة ذاتية على التّصرف، لأحالت بنفسها كامل أوراقها على أقرب مُفتٍ.

كاتب سوري

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى