صفحات الرأي

قيلولة فوق جمر يشتعل/ موسى برهومة

 

يحقّ للعرب العاربة المرميين من الماء إلى الماء أن يتساءلوا عن سورة الغضب المقيم في نفوسهم، وعن مفارقة الطمأنينة والأمان حيواتهم المشدودة إلى أقصاها كقوس نشّاب إما أن يُطلق سهامه فيُصيب من يصيب، أو يتمزق قهراً وكمداً.

«على قلق، كأن الريح تحتي»، هو لسان العربي في هذه القنطرة المحيّرة من تاريخ العرب الملتبس الى حد التناقض والعماء. إنه ليس قلق جدّه المتنبي الذي كان قلقاً خلاّقاً ينزع إلى السيادة والتفوق بحكم أهليّته وتمايزه عن الآخرين. القلق الراهن هو أنك لا تدري ماذا سيجري معك غداً، ولا تتمكن من التخطيط الذي يضمن أن تسير أمورك ومشاريعك من دون أن تحيطها العقبات والعراقيل من كل حدب وصوب.

وإذا كان المرء، في خريف العمر أو شتائه، قد خسر الرهان على أن يبدّل بيده ولسانه وقلبه، المنكرات، فأقله ألا يخسر الرهان على مستقبل أبنائه الذين من حقهم أن يعيشوا في مناخ غير مدجج برائحة الموت والبارود. من حقهم أن يتنفسوا هواءً خالياً من رائحة التكفير والتخوين والأبلسة وقتل الناس على الهوية الإثنية أو الطائفية.

ولا تراود المرء، الذي في خريف العمر أو شتائه، هذه الأفكار المتشائمة إلا لأن الواقع قد أقفل أمامه كل نوافذ الأمل، وإن كان ثمة ضوء في آخر النفق، فإن النفق طويل طويل، حتى إن زرقاء اليمامة ربما تجد صعوبة في إدراك، ولو خفقة من بريقه النائي.

وإن كان الكاتب الفلسطيني غسّان كنفاني حذّر، قبل خمسين عاماً، أبناء شعبه من الحلول الخلاصية الفردية في رائعته الروائية «رجال في الشمس» التي حوّلها المخرج المصري توفيق صالح إلى فيلم «المخدوعون»، فإن مرور خمسة عقود، جعل الخديعة صنواً للقفز من السفينة العربية الهالكة، ما لم تترفق البحار باستغاثات الضحايا، على رغم أن البحر في الوجدان الشعبي العربي اقترن بالغدر!

قبل أيام، وحين كنت أقضي إجازة بين الأهل في عمّان، أبلغني صديق، بحزن، أنه قرر وأبناءه العودة إلى أميركا، فهنأته على الفور، بعد أن كنتُ من قبلُ أوبّخه وأتّهمه بالهزيمة إن هو فكّر بمثل هذا الخيار اليائس، ملقياً عليه وعلى نفسي المواعظ الوطنية بأن البلاد تطلب أهلها، وأن الأوطان لا تعمّرها إلا سواعد أبنائها، لنكتشف أن الأوطان عبارة عن شركات كبيرة، وأن الحاكم العربي ظلُ الله على الأرض، وأن الفساد «شطارة» والخيانة «وجهة نظر»، وأن الرصاص الحي يملأ المنازل، وأن الجيوش على أهبة الاستعداد لمواجهة الشعوب، وكبت تطلعاتها في العدالة والحرية والكرامة.

وما دام الإنسان غير مدرج على أجندة التفكيرالعربي الراهن أو «الإستراتيجي»! فإن أي مشروع، ولو كان فتح بقالة صغيرة أو محل لبيع الفلافل أو الشاورما، سيبقى مهدداً، وقصيرَ العمر، فما بالك بغياب مفهوم الإنسان من فضاء التداول العمومي؟

وحتى لا نغرق في العدميّة، فإن ترميم فكرة الإنسان في الآفاق العربية الحيوية منوط بالدفاع عن كينونته ووجوده والحفاظ على حريته، بحيث تكون الأرض فردوسه يعمرها، ويغمرها بالحب، ويبدّد الخرافات المزروعة فيها، بمنجل عقله، وسيف تفكيره الخلاق، وهذا لا يتأتى إلا بإشاعة الحرية، وإطلاق التفكير على مصراعيه من دون رقابة أو حجر أو نطق بلسان السماء أو المقدّس.

ولنتذكّر أن الديموقراطية، التي هي حلم الإنسان، انبثقت من أثينا الحرّة، وليست من إسبارطة العسكرية.

* كاتب وأكاديمي أردني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى