في بدايات الحرب السورية، نشر الفنان تمام عزام لوحة بعنوان “غرافيتي الحرية”، اذ ركَّب لوحة “القبلة” الشهيرة للرسام غوستاف كليمت على صورة حائط مبنى شبه مدمر، غير معروف المكان في سوريا. وضع تمام عزام وهج الزخرفة التي أرساها كليمت على خلفية هي صورة توثِّق المأساة السورية، تظهر جدار مبنى نهشته القذائف وجعلت غرفه عارية وكارثية، إذ تبين الأحوال الاجتماعية السورية في ظل الحرب، من مشهد حبل الغسيل إلى الأثاث المحطم…
حظيت لوحة تمام عزام باهتمام مواقع التواصل الاجتماعي، حين نظر الجمهور الى الواقع السوري من خلال اللوحة، واليوم ربما ينظر العالم الى الواقع السوري من خلال الصورة التي التقطها المصور استفنان زيروس عند محطة القطارات الرئيسة في بودابست، لشاب وصبية من اللاجئين السوريين يتبادلان قبلة في خيمة صغيرة، ينام خارجها أطفال ونساء ولاجئون آخرون، وسط الحقائب وأغراض المسافرين ونظرة رجل بطرف عينه وانهماك امرأة بأولادها، ولحظات انتظار تظهر على ملامح البعض…
قبلة في زمن الحرب السورية، شيء “سريالي” اذ جاز التعبير، خصوصا حين نقارنها بواقع الحرب السورية، القبلة لناحية الحضور الميديائي تبدو اشبه بـ”قنبلة” في زمن السكون، كأن احتكاك شفاه الشاب والصبية صرخة ذاتية ضد الحرب، أو صرخة النجاة من الحرب، وقد قرأنا كثيراً عن القُبلة (بضم القاف) في وقت كانت الصحف تركز كثيراً على أن أوروبا قِبلة (بكسر القاف) اللاجئين السوريين. قال زيروس أنه لم يسأل الشاب والصبية عن اسميهما، لكن الأيام كفيلة بكشفهما. ربما تنال الصورة جائزة وتتحول أيقونة تؤرخ لمرحلة النزوح والهجرة في زمن الحرب السورية. فصورة القُبلة مشهد نادر لشعب يعيش مرحلة أوديسة النزوح والهجرة والجحيم الأرضي، فبعد الهرب من بالبراميل المتفجرة والصواريخ، يكون نصيبه الغرق في البحر المتوسط في رحلة مراكب الموت. وإذ كانت صورة القبلة حضرت في الصحف العربية بشكل ثانوي، ولاقت رواجاً كبيراً في مواقع التواصل الاجتماعي، فهي في بعض الصحف الغربية حصدت عناوين من نوع “القبُلة لا تعرف الحدود” (“الغارديان”)..
ستبقى هذه الصورة لزمن في الوجدان، وهي تتسم بإشارات جديدة في لغة القُبل التي ترتبط بالأحداث والحروب، وتختلف في الزمان والمكان والشكل عن صور القبل السابقة التي يحضر فيها شبح الحرب. فكثيراً ما نشاهد في الصور القديمة، قبلات لجنود يودعون أو يستقبلون حبيباتهم في محطة القطار، أو تكون القُبلة تعبيراً عن نهاية الحرب، خصوصاً الحرب العالمية الثانية.
من ينسى قبلة مارلين ديتريتش لحبيبها العائد من نهاية الحرب العالمية الثانية العام 1945؟… وقُبلة البحار(مكدوفي) للممرضة في ساحة تايمز سكوير وقد نشرت صورتهما، التي التقطها ألفريد أيزنستادت، في مجلة لايف- توفي؟ وإذا كنا نجهل هوية صاحبيّ القبلة السورية، فالأميركي كان يجهل من هي الممرضة. وفي 2007 قال مكدوفي لصحيفة كرونيكل فى 2007 إنه لم يتحدث أبدا إلى الممرضة قبل أن يقبلها أثناء الاحتفالات بانتهاء القتال ضد اليابان فى آب/أغسطس 1945، وكان عمره حينها 18 عاما، وأضاف: “عندما خرجت من محطة قطارات الأنفاق قالت لي سيدة إن الحرب انتهت، وأخذت أصرخ فرحاً، وفي الطريق رأيت الممرضة وكانت تبتسم لي.. ولذلك جذبتها نحوي”. المشهد العابر تحول صورة طاغية ومرتبطة بالحرب والنصر بفضل الصورة.
صورة القُبل التي يحضر فيها شبح الحرب، غالباً ما كانت تجري في محطات القطارات او الحافلات او أماكن السفر، وتحصل على الملأ، الأمر يتعلق بالثقافة الاجتماعية والتقاليد والحياة المدينية، وفي بعض الأحيان تكون القُبلة أشبه بالتمثيل، أو مخصصة من اجل التقاط الصورة. لنتأمل صورة مارلين ديتريتش اذ يرفعها بعض الجنود على أذرعهم لتصل الى شفتي حبيبها، ثمة صورة أخرى في محطة القطار تظهر قُبَل الجنود لحبيباتهم كأنهم في مشهد سينمائي، أما صورة القبلة السورية فحصلت في خيمة، كأن المصور التقطها من خلال التلصص أو دون علم الشاب والصبية، وهما كأنهما يحتفلان(ربما) بنجاتهما من الأبد البعثي وموته أو يتنفسان الصعداء من خلال قُبلة، أو كأن الأزمات تزيد من وقع الحب في الحياة…
قُبلة وسط الخراب وأخبار الموت، سيقول كثيرون: “الناس وين وهودي وين”، ويقول آخرون: “ان الطائرات تستطيع ان تقتلنا لكنها لا تستطيع سحق الحب”… الأرجح أن القُبلة في خيمة النازحين أو اللاجئين، هي لقطة عابرة، لكنها في المكان والزمان ستحمل الكثير من التأويلات والمعاني والتفسيرات، خصوصاً أنها نتاج مجتمع يسمى “شرقي” وفيها بعض “الحياء” اذ جاز التعبير….
هذه القُبلة السورية، نجاة من الموت الأسدي، بانتظار قُبلة نهاية الحرب.
المدن
