كائن بشري اسمه قناص/ عمر حرقوص
تتحرك الفتاة على شرفة منزلها، تلتقط الثياب المغسولة بالأمس عن الحبال البلاستيكية التي جردتها أشعة الشمس من ألوانها.. تأخذ الثياب وتستدير إلى الداخل عبر باب المطبخ.. يكاد هنا أن يحرك أصبعه لكنه ينتبه، ويتوقف فهي ستعود والوضع الأمني ليس متفجراً.. بمنظاره يرى نفسه مخرجاً أو مصوراً سينمائياً يجلس خلف الكاميرا، يدير المشاهد ويحرك الممثلين، يختار الإضاءة المناسبة ويرفع منسوب ”الأدرينالين“ لدى مشاهديه. تعود الفتاة مستعجلة إلى الشرفة، تلتقط قطعة ثياب غسلتها قبل قليل وتبدأ برصفها فوق حبالها إلى جانب قطع أخرى. يتحرك المنظار صعوداً إلى جبهة رأسها وشعرها الأسود، يهبط قليلاً، فيرى حاجبيها المرسومين في محل شعبي للأوشام، وشمان يزيدان من كبر عينيها، يحاول أن يرى لون عينيها عبر هذا المنظار الحديث، لكنه يفشل. هناك في المبنى القريب جداً لخط التماس في طرابلس.
يهوى مشاهدة الأفلام الأميركية أكثر من الأفلام العربية، فـ”الأكشن“ الهوليوودي فيه الكثير من الواقع، والرصاص لا ينتهي من سلاح المتقاتلين، وبشكل طبيعي، على عكس الأفلام العربية التي يحرك فيها البطل مسدسه كأنه يطلق الرصاص بشكل كاريكاتوري مع أنه لا يطلق النار أبداً. حلم حياته أن يقف خلف الكاميرا كما يقف هذه اللحظة خلف منظار بندقيته يختار من يريدهم أهدافاً له في المعركة المقبلة أو أبطالاً يمثلون الأفلام التي يحلمها خلال جلوسه خلف الفتحة الصغيرة في دشمة على محور.
إنها قادمة، هو يدرك ذلك، المعركة الرقم ١٧ أو ١٨ أو ألف، وكذلك الفتاة التي تنشر غسيل عائلتها على شرفة المنزل. مرات كثيرة حاول تقدير حجم نهديها إن كانا كبيرين أو صغيرين، ومرات حاول التسلل بعينيه باتجاه ما يمكن أن يظهر من صدرها الأبيض.. تنخفض بندقيته نزولاً كمثل مصور خلف الكاميرا، النهد الأيسر أكبر قليلاً من النهد الأيمن، أو هكذا يتوهم. يتخيل بطنها وسرّتها، ويكاد يصل بخياله إلى شعر عانتها، لكن جدار الشرفة الفاصل يمنعه من رؤية ما تحت بطنها. لو أن هذه الجدران شفافة، لكان في إمكانه استكمال الحلم وعيش جسد تلك الفتاة.
يحرك بندقيته ومنظارها الدقيق باتجاهات أخرى، هنا خزان المياه على سطح هذا البيت، هذا السطح الذي يشهد في السلم من وقت إلى آخر تسلل شاب وفتاة يمارسان الجنس هناك خلف الجدار.. يكره هذا الخزان الحديدي المدهون بطلاء يدعى ”زيرقونة“ ويمنع الصدأ، لونه الأحمر يثير غثيانه.. كل مرة كان يطلق الرصاص على الخزان ليمزقه وينتهي من وجوده، كان صاحب المبنى يعيد إصلاحه وطلائه باللون نفسه.
أصعب أنواع الصيد بالنسبة إليه هم المقاتلون في الطرف الآخر، يتحركون بسرعة، ويعرفون الأماكن التي يطالها بدقة، وهم مجهزون بلباس يحميهم من الموت. يحلم بقتل قائد منهم. يتحرك المنظار والبندقية سوياً، يختاران الهدف سريعاً، لا يعرف من الأسرع في هذه اللحظة عينه أم أصبع يده الذي يشد الزناد. قال له أحد الشبان الذين قاتلوا ليومين معه ولم يعودوا إلى المحور بعدها، إن القنص هو غريزة بشرية أولى، التقاط مشهد الفريسة من عينيها، ترى الموت قادماً خلال أجزاء من الثانية. فترتفع رائحة الخوف التي تشبه رائحة الموت.
فريسته الحقيقية أيضاً هي الطيور، فهو يحب صيد العصافير. لا شيء يعادل متعة إصابة طفل في رأسه إلا إصابة طير ينتقل من مبنى إلى شجرة، العصافير الغبية التي لا تهرب من مناطق القتال.. في هذه اللحظة هو يجرب قدراته التي لو اشترك بألعاب أولمبية لكان بطلاً للعالم في إصابة الأهداف الطائرة.
في سهرات كثيرة كان يسأل رفاقه إن كانوا قنصوا أطفالاً أو أصابوا إمرأة تحمل طفلاً صغيراً وتركوها تتمرغ بدمائها فوق جسد رضيعها.. لا يصدقهم في أكثر قصصهم التي يروونها. هو يعرف الشعور الحقيقي للقتل، ويعرف أن حياته صارت ”حيوات“ كثيرة، ففي كل مرة كان يقتل بشرياً، ينتبه إلى أنه يتجدد شباباً. يرى أرواحهم تنتقل إلى جسده، كمثل لعبة كومبيوتر.. تقتل فتربح حتى لو كدت أن تموت.
يعرف ان الذين يموتون هم بشر.. لكن كما لعبة على شاشة الكترونية.. يطلق الرصاص ليصيب هدفاً ما في جسد المقنوص.. يده أو قدمه او عينه اليسرى او حتى اصبع من يده. لم ينم الليل في إحدى المرات حين أطلق رصاصة على رجل محاولاً إصابته في رأسه، مرت الرصاصة سريعاً في شعر الرأس ولم يصب الرجل… الرجل نفسه الذي ردّ على الرصاصة بأن رفع يده ومدّ الأصبع الوسطى في وجه القناص.. الاصبع الوسطى التي طارت من اليد وصار للرجل أربعة أصابع فقط.
يتطور في القتل بحيث انه يختار من ضحاياه اهدافا يرى فيها جمالاً.. يريد لهذا الجمال ان ينتقل اليه.. يطلق الرصاصة وتبقى عينه على المنظار.. تتحرك الرصاصة.. تذهب الى الامام تحركها الريح يمنة أو يسرة، يعرف كيفية التعاطي مع هذه الحالات.. هكذا أراد.. يصيب.. يقتل.. يموت.. دم يسيل.. تنتقل روح من مات إليه فيعتقد نفسه خالداً كإله حقيقي.
راتبه لا يتعدى الثلاثمئة دولار.. هي لا تكفي ثمن تدخينه، وبعض زيارات عائلية لأخويه وهدايا صنع الصين للصغار.. ”يلبد“ مكانه ولا يتحرك، ينتظر الفريسة. طفل يركض، وقطة تحاول نبش كيس من القمامة، ترك القطة تعيش في جوعها والتقط رائحة الطفل من بعيد، أطلقها سريعة تنهب الريح.. سريعة جداً لتخترق الرأس وتخرج من الجهة الثانية.. لو خرج هذا الصغير بهدوء من مدخل البناء ولم يركض أمامه لما أطلق الرصاص عليه… لكن هذا حظه مع الحياة.
تعود الفتاة إلى شرفتها، هي مستعجلة في أشغال منزلها، ووقف إطلاق النار يمنعه من اصطيادها، لكن التهدئة لن تمنعه من اختراق جسدها بعينيه.. لا يعرف إن كان يشتهيها أم يشتهي موتها برصاصته. لا يعرف أيهما أجمل رائحة جسدها كما هي، أم رائحة موتها.
يكره الكلاب ويكره احتضارها الطويل.. لذلك فهو لا يحب اطلاق الرصاص عليها. ينتظر أن تنشر الستائر في الشوارع كأنما هي ستارة سينما تعرض فيلمه الجديد.. ليبحث بين شقوقها عن رأس عابر يستطيع إصابته وتسجيل هدف جديد عبر الحاسة السادسة التي صارت أقوى منذ بدأ التفتيش عن ضحاياه.
المدن