كارلوس فوينتيس في ذكراه الخامسة: البحث عن الماضي واسترداد الهويات الضائعة/ محمد محمد الخطابي
يُعتبر كارلوس فوينتيس (1928 ــ 2012) من أعظم الروائييّن المكسيكييّن المعاصرين، الذي حلّق عالياً في فضاء الآداب الناطقة باللغة الإسبانية، سواء في بلده المكسيك أو في مختلف بلدان أمريكا اللاّتينية وإسبانيا، بل يشهد له معظم النقّاد أن شهرته الواسعة تخطّت هذه الأصقاع الشاسعة إلى سائر مناطق العالم، وما فتئت أعماله الأدبية ورواياته الإبداعية ودراساته الرّصينة، تحظى باهتمامٍ بالغ من الدارسين في مختلف لغات الأرض، وما انفكّ نجمُه الإبداعي يشعّ في سماوات إمبراطورية المايا والأزتيك، وسائر أرجاء بلدان أمريكا اللّاتينية. وقد صدرت منذ بضعة أشهرٍ آخر روايات كارلوس فوينتيس، بعنوان «آخيل المُحارب أو المُجرم» والتي تصادفَ نشرُها مع حلول الذكرى الخامسة لرحيله.
أخيل الكولومبي
تعالج الرواية فصلاً من فصول تاريخ كولومبيا المعاصر، تأسيساً على حياة (كارلوس بيثارُّو)، أحد زعماء الحركة التحررية المحاربة المعروفة بـ (M 19) حيث يرى فوينتيس ـ الذي أدركته المنيّة وهو في خضمّ استكمال هذه الرواية ـ أن آخيل بطل هذه الرواية مثل أبطال قصائد هوميروس في الأساطير الإغريقية، يشعر بأنه مدعوّ لمواجهة قدره المحتوم الذي كان ينتظره دون هوادة. ويشير الناقد الإسباني دييغو غاندارا إلى أن هذه الرواية، حتى وإن كانت تقوم على أحداث واقعية في الحياة، وتعالج قصة شخصية تاريخية ومعاصرة، وهو المحارب الكولومبي كارلوس بيثارّو، إلا أنها تتميّز بثرائها اللغوي، نظراً لزخم الحكيّ، وسلاسة السّرد، وعمق الموضوع، ثم أن الرواية تكتسب قوّتها وغناها لكونها رمزاً، ومجازاً، واستعارة لشجاعة المجتمع الكولومبي، وصلابة المواجهة التي أبداها في خضمّ هذه الأحداث. كذلك يقول الكاتب الإسباني خوان غابرييل باسكيس: «لقد تساءل كارلوس فوينتيس ذات مرّة ما إذا كان من حقه كمكسيكي الحديث عن كولومبيا، أيّ هل من حقه أن يفصح عن غضب آخيل كولومبي؟ السؤال لا يخلو من فضول وطرافة، خاصة وهو صادر عن شخصية مرموقة في جغرافية الثقافة الناطقة باللغة الإسبانية، بل لقد تخطّى تأثيرُه حدودَ أمريكا الشمالية، التي استبطن أغوارَها، وبواطنها كذلك. لقد تركت لنا أعمال فوينتيس آثاراً حميدة ومجيدة في عالم فنّ القول والإبداع، وبالتالي فإنّ له الحقّ المطلق الذي ينبغي أن يملكه روائي في مستواه، في أن يدلي بدلوه، وأن يطلق لخياله العِنان حول كلّ ما يجري ويدور في منطقته وسائر أنحاء العالم. لا حرج إذن البتّة في أن يتحدّث فوينتيس عن بيثارّو الكولومبي أو عن بيثارّو المُستكشف الإسباني، الذي يحمل اسمَه، الأهمّ من ذلك هو تسجيل الحقائق التاريخية ورصدها، وإبرازها، سواء تعلق الأمر بشخص أو بأفراد أو جماعات في مختلف الأزمنة والأمكنة .
رحلة إلى الماضي البعيد
من كتب فوينتيس التي حظيت بمتابعات النقاد والدارسين في العالم الناطق بلغة سيرفانتيس، كتابه الشّهير «شموس المكسيك الخمس» وهو نوع من الأنطولوجيا، أو دراسة مستفيضة حذا فيها حذوَ كتّاب آخرين مثل ألفونسو ريجيس، وأوكتافيو باث، وكان هدف هذا العمل الأدبي، هو اكتشاف روح المكسيك، واستكناه أغوارها، وتسليط الأضواء على تاريخها، وأساطيرها، ومعاناتها، بدءاً بعالم الأزتيك والمايا، حيث يأخذنا فوينتيس في جولة تاريخية نقدية تحليلية لمختلف الأساطير القديمة في بحر تاريخه، وتأمّل أهراماته التي أقامها المايا، الذين أصبحوا بعد الاكتشاف (الغزو) يؤلفون مجتمعاً مركّباً تركيباً معقّداً ومُجزّءاً في وقت واحد، وهم يدخلون عالم الثورة المعاصرة. مشاهد تترى نصب أعيننا من الدم والموت منذ وصول الإسبان إلى العالم الجديد، ويطلق المؤلف على ذلك مصطلح «ضد الاكتشاف» أو «الاكتشاف المناقض والمناهض للاكتشاف»، ويشير فوينتس: «إنّ غارات كتائب «سانشو فييّا» في شمال البلاد، ومحاربي إميليانو زاباتا في الجنوب، جاءت كردّ فعل عنيف على موت «شمس المكسيك الخامسة»، حيث مات العالم المكسيكي للسكّان الأصليين الهنود. وطُمِست معها هويّاتها الأصليّة، وهذه الشموس الخمس مُستمدّة من الأساطير المكسيكية القديمة.
فى البحث عن الهويّات الضّائعة
يحكي فوينتيس في كتابه بخصوص المزج بين الرّواية والتاريخ، طرفة وقعت للكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا مركيز وفيردريك فورسايت، بخصوص رواية هذا الأخير «ابن آوى»، فقد هنّأ مركيز فورسايت على روايته ولكنه حذّره من أن الكتاب يتضمّن خطأً فادحاً. فسأله فورسايت: ما هو؟ فأجابه: أن ديغول لم يُقتل. فأردف فورسايت قائلاً: حقّا أن الجنرال قد خرج بسلام من عملية الاغتيال، فقال ماركيز عندئذ: آه، ولكن إذا كنت قد قلت في روايتك إنّهم قتلوه بعد مرور مئة سنة فتلك ستكون الحقيقة. وقال فوينتيس إذا كان الكاتب الفرنسي ميشيليت قد قال: إن الشعب له الحق في أن يحلم بمستقبله، فإنّني أقول إن الشعب له الحق كذلك أن يحلم بماضيه. أن تحلم بالماضي، أن تجعله حيّا أمامك. فوينتس مقتنع بأنه ليس هناك حاضر حيّ، ولا ماض ميّت .
ويشير فوينتيس إلى أنه عندما كان يحاضر في جامعة هارفارد الأمريكية كان يحدّث تلامذته الأمريكيين عن تاريخ المكسيك وسكّانها الأقدمين، فكان يعود بهم إلى تاريخ الإغريق والرّومان، فكانوا يقولون له: لماذا تذهب بعيداً؟ فكان يسألهم إذن متى يبدأ التاريخ بالنّسبة لهم؟ فكانوا يجيبون جميعاً إنه يبدأ عام 1776 أيّ أن تاريخهم يبتدئ بعد استقلال أمريكا، وقبل ذلك فليس هناك تاريخ! فالتاريخ حسب فوينتيس يقوم على المنطق، فى حين أن الأدب ينطلق من المشاعر والأحاسيس، والأدب يسمح للشعوب، بل يحثّها على أن تحلم بماضيها، والحفاظ عليه حيّاً نابضاً. فالقرن الفائت كما يبيّن فوينتيس، هو تاريخ البحث المضني عن الماضي، ومحاولة تكييفه مع الواقع الجديد، أيّ استرداد الهويّة الضائعة بعد القطيعة التي أحدثتها التدخّلات الأجنبية، إسبانية كانت أم فرنسية أم إنكليزية أم أمريكية، التي كانت تقدّم وجبات جاهزة لجمهوريات نيسكافية، أي «ديمقراطية باهتة» حسب النموذج الغربي، لا تتوافق ولا تستجيب لمطالب بلدان أمريكا اللاتينية، التي ذاقت مختلف أشكال العذاب وواجهت العديد من ضروب العنت والمعاناة. وكان لزاما على هذه البلدان أن تبحث عن هويّتها الحقيقيّة الضائعة، التي تجسّدت في كتابات كبار كتّابها ومبدعيها، ولكن بعد بحثٍ مضنٍ استمرّ زهاء خمسة قرون، أيّ بعد أفول الشموس الخمس.
أَخْطَاءُ المَاضِي وذنوب الأمس
فى مجموعته القصصية «كونستانسيا وقصص أخرى للعذارى» يبدو فوينتيس السّيريالي التي تناول فيها قصص الهويّة المكسيكية مثلما عمل كل من أوكتافيو باث، وصمويل راموس، كما نجد في هذه المجموعة نفس فوينتيس المثقل بالهواجس، والقلق، والانشغالات التي صاحبته في مختلف أعماله، فنلتقي بالموت ومدينة مكسيكو، والشرائح الاجتماعية المختلفة ونوازع الخير والشرّ. راعى فوينتيس هنا التحوّلات السياسسة والاجتماعية للمجتمع المكسيكي والأمريكي والإسباني. فيتناولها بالتحليل الدقيق ليس للأوساط والثقافات المذكورة وحسب، بل بقدرة فائقة على تعرية أوجه ثقافات أخرى، ورصد ملاحظات ذكيّة سواء فيما يتعلق بأفراد أو جماعات أو بلد أو قارة، العنوان في حدّ ذاته «كونستانسيا» يبيّن أن المرأة تشكل عنصراً مهمّاً فيها، وهكذا نجد كونستانسيا تتأرجح بين الحياة والموت، كما نجد المرأة تموت في قصة «أمير لوماس» أمّا «عاشت سمعتي» فتقدّم لنا نصّاً أكثر قلقاً وعمقاً ضمن المجموعة. المرأة إذن في هذه القصص مسكونة بالموت ليس كمصير فردي بل كعنصر متّصل. فالموت هو التفصيل المباشر للحياة أو الجانب الآخر لها. كما تولي المجموعة قيمة كبرى وأهميّة قصوى للمعارف الغيبيّة إلى جانب العلم، تلك المعارف لا تأتينا من إعمال العقل المباشر، بل من الجوانب العميقة أو الدفينة فينا، أو من ماضينا البعيد أو من تاريخنا الغابر السّحيق. كذلك يُعتبر عنصر الزّمن جانبا آخر ذا أهمية في هذه القصص، وليس المقصود هنا بالزمن المتوالي، بل زمن لا يخضع للقوانين الفيزيائية، ولا ينصاع للنواميس الطبيعية . فالأمس يلج في اليوم محطّماً كل الحواجز، وهذا المزج يخلق جوّاً من الغموض والسّحر، ويظهر لنا هذا في قصة «عاشت سمعتي» إذ نجد شخصيتين تاريخيتين متباعدتين في زمن وجودهما (روبين أوليفيا في القرن العشرين) و(بيدرو روبيو في القرن الثامن عشر) يلتقيان في وقت مّا من الزمن. كما نجد كونستانسيا في القصّة تحمل الاسمَ نفسَه، مع أنّها تنتمي إلى زمنين متباعدين، زمن الحرب الأهلية الإسبانية، والزّمن الحاضر. يطرح فوينتيس علينا في هذه النصوص التساؤل التالي .. هل يوجد في الأمس ذنب ينبغي التكفير عنه؟
فوينيتس وشيلي
كان كارلوس فوينتيس لا يعتبر تشيلي موطنَ الشّعراء المُجيدين في أمريكا اللاتينية وحسب، مثل ويدوبرو، ميسترال، نيرودا، بارّا، روخاس، بل كان يعتبره موطن الرّوائيين كذلك أمثال دونوسو، إدواردز، دورفمان، فوجيت، وفرانز. يخبرنا فوينتيس انه عاش في هذا البلد عندما كان عمره يتراوح بين 11 و15 سنة، وبه نشر أولى نصوصه الأدبية المبكرة حول شخصيات أدبية وتاريخية فيه منها فرانسيسكو بيلباو الذي كان أوّل من استعمل مصطلح أمريكا اللاتينية عام 1857. ويشير فوينتيس إلى أنه خلال هذه الفترة من حياته التهم العديد من الكتب والدواوين لكبار الشعراء التشيليين في مقدّمتهم بسينتي ويدوبرو، وغابرييلا ميسترال (الشاعرة الوحيدة التي حصلت على نوبل في الآداب في أمريكا اللاتينية 1945) وبول فاليري هو الذي كتب مقدمة الطبعة الفرنسية لديوانها. وكان فوينتيس يصف بابلو نيرودا بأنه أعظم شاعر في القرن العشرين في العالم الناطق بالإسبانية. ويحكي لنا طرفة عن مدى تغلغل نيرودا في الأوساط الشعبية التشيلية، فيقول كنت ذات مرّة أتجوّل على ضفاف نهر «بيُوبيُو» وعندما بدأ الليل يرخى سدوله، رمقتُ مجموعة من العمّال، مجتمعين حول نار مشتعلة، فتناول أحدُهم قيثارة وبدأ يعزف، ثم انطلق صوت عامل آخر وطفق ينشد مجموعة من أشعار نيرودا على شرف أحد المناضلين من أجل إستقلال تشيلي، فدنا منهم فوينتيس وقال لهم : لابدّ أن الشاعر نيرودا كان سيُسرّ كثيراً إذا علم أنكم تغنّون أشعارَه، وأمام ذهوله وذهولهم قالوا: أيّ شاعر.؟! فهم لم يكونوا يعرفون أن هذه الأشعار من نظم نيرودا، وهنا تأكّد لفوينتيس مدىَ تغلغل هذا الشاعر في شرائح الشعب التشيلي على إختلاف طبقاته، وكيف تحوّلت أشعاره إلى صوت جماعي متواتر يحفظه ويردّده الشعبُ عن ظهر قلب مثل الحِكم والأمثال.
فوينتيس والأندلس
فى كتاب فوينتيس «سيرفانتيس أو نقد القراءة» يشير في مجال التأثير العربي في إسبانيا إلى: «أنه من العُجب أن نتذكر أن الثقافة الهيلينية وكبار المفكرين الرّومان الضائعين عملياً في المناطق الأوربية، قد استعادوا مواقعَهــــم وحُفظت أعمالُهم بفضل ترجمتها إلى اللغـــة العربية، فضلاً عن العديد من الابتكارات العلمية والطبية، في الوقت الذي كانت فيه أوربا مريضة ويتمّ علاجها بواسطة التعزيم والرقيّة والتعاويذ». ويضيف: «فعن طريق إسبانيا المسلمة أدخلت إلى أوروبا العديد من أوجه التأثيرات الهندسية المعـــمارية الموريسكية، حيـــــث أصبحت فيما بعد من العناصر المميّزة لخصائص الهندسة القوطية»، وعندما يتحدّث فوينتيس عن هذا الموضوع فإنه يضع أمامه العديد من نماذج المعمار في بلاده التي ظهرت فيها الخصائص ذاتها التي تستمدّ أصولها من المعمار الأندلسي.
وفي الأخير تعتبر أعمال كارلوس فوينتيس الروائية والنقدية أساسية في تاريخ المكسيك وإسبانيا، نذكر منها .. «موت أرتيميُو كروث» 1962، و«غنائية العميان» 1964، «وأرضنا» 1975، و«الغرنيغُو العجوز» 1985، التي تحوّلت إلى فيلم. و«أيّام مع كورا رياث» 1999. كما تقلد فوينتيس عام 1975 منصب سفير لبلاده المكسيك في فرنسا، ثم سرعان ما طلب إعفاءه من هذا المنصب عام 1977 إحتجاجاً على سياسة بلاده .