صفحات الرأي

كتاب: أمراء وسماسرة وبيروقراطيون: النفط والدولة في السعودية

[“كتب” هي سلسلة تستضيف “جدلية” فيها المؤلفين والمؤلفات في حوار حول أعمالهم الجديدة ونرفقه بفصل

من الكتاب.]

 “أمراء، وسماسرة، وبيروقراطيون: النفط والدولة في المملكة العربية السعودية”. تأليف ستيفان هيرتوغ مطبعة جامعة كورنل، 2011. صدر بالإنجليزية.

جدلية: ما الذي دفعك لكتابة هذا الكتاب؟

ستيفان هيرتوغ: كانت الفكرة الأصلية وراء هذا البحث هي تحليل كيف أن الاصلاحات الاقتصادية الليبرالية تغير الهياكل الاقتصادية والسياسية في دولة غنية بالنفط ( ريعية) مثل المملكة العربية السعودية. كانت هذه هي الخطة قبل أن أبدأ في بحثي الميداني، ولكن ما اكتسبته من خبرة غير الكثير من توجهاتي حيال الموضوع. فعوضاً عن التغيير، وجدت استمرارية تاريخية تضرب بجذورها في الطريقة التي تُمارس بها السياسة وتُدار بها علاقة العمل بالدولة في السعودية، ووجدت أيضاً أن العديد من أوجه الاستمرارية لا تتطابق مع نظرية “لعنة الموارد” للدول الريعية.

لقد عانت السعودية منذ تأسيس الدولة الحديثة في الخمسينات من صراع مع العمالة الزائدة والفساد، ولكنها في الوقت نفسه تمتلك مؤسسات تعمل وفق أساليب عالمية مثل مؤسسة النفط الوطنية (أرامكو) وعملاق الصناعة (سابك)، وهما مؤسستان تعملان باستقلالية عن باقي مؤسسات الدولة منذ عقود. على مستوى السياسة، فللسعودية سجل غير متوازن في التسعينات والألفينات. وفي الوقت الذي تمت فيه عدة عمليات خصخصة ناجحة حيث تمكنت الحكومة من خلق سوق رأسمالي حديث ومرن، فإن الاصلاحات الأخرى في سياسة العمالة أو في البيئة البيروقراطية للاستثمار الأجنبي لم تكن بنفس القدر من النجاح.

 أدى هذا إلى تفكيك الدولة السعودية الريعية، وعوضاً عن التنظير حول هذا ككيان متجانس، فقد تم النظر إلى العوامل الفردية وتاريخها السياسي. متى ولماذا تُستعمل أموال النفط لرعاية وبناء الاقطاعيات البيروقراطية، ومتى ولماذا يتم استعمالها لأغراض التنمية؟ في هذا السياق، قمت بالكثير من الأبحاث الأرشيفية والتاريخية أكثر مما كان مخططاً في السابق، لأني شعرت أنه لم يكن هناك معلومات تاريخية كافية عن تكوين الدولة السعودية الحديثة. ورغم أن هناك الكثير من التاريخ الشعبي، فإن أغلب المتوفر من أدبيات العلوم الإجتماعية يوفر صورة كاريكاتورية للفساد واللاكفاءة البيروقراطية- أو في بعض الأحيان تقدم حالات غير محتملة من الكفاءة في عصر ما قبل النفط- غير صحيحة في أجزاء مهمة منها.

يوفر الجزء التاريخي من كتابي بحثا إجتماعيا متماسكاً عن كيف أن قرارات الأمراء بخصوص توزيع عوائد النفط المتزايدة بسرعة قد شكّل مؤسسات الدولة بأشكال مختلفة تماماً، وكيف أن هذه الموارد شكّلت علاقات القوة والنفوذ بين هذه المؤسسات وبعضها البعض، وبينها وبين العوامل الرئيسة في المجتمع. وباختصار، إنه استعراض للأسباب التي جعلت المجتمع السعودي على ما هو عليه الآن، وكيف أن السياسات البيروقراطية، وأسلوب صنع القرار، وعلاقات قطاع الأعمال بالدولة يتم تفسيرها بتفصيل أكثر من خلال مجموعة من الحالات التي تم دراستها حول اصلاح الاستثمار الخارجي، وسعودة سوق العمل، والدخول في منظمة التجارة العالمية.  يمتلك الكتاب أيضاً طموحاً للمقارنة، ولكن الرؤية الأساسية في الكتاب هي محاولة فهم السعودية كما هي بشكل صحيح- في نهاية الأمر فإنها ليست فقط دولة ريعية في جوهرها، ولكنها ربما أهم دولة في الشرق الأوسط كله. دعني أتحدث هنا بشكل براغماتي، لقد كتبت الكتاب بفضل الصلات التي وفرت لي المعلومات في السعودية، كما أن المرحلة الليبرالية نسبياً ما بعد 2003 التي مرت بها السعودية أتاحت لي القيام ببحث ميداني وأرشيفي بدون قيود لأكثر من عام، إضافة إلى الزيارات المتعددة التي قمت بها بعد ذلك إلى المملكة. لقد توفرت لي الفرصة لأعمل خلال البيروقراطية السعودية لفترة طويلة مما أعطاني تصورات اثنوغرافية مفيدة حول موضوع البحث والتي أضافت إلى المقابلات التي أجريتها والعمل الأرشيفي في السعودية، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة.

جدلية: ما هي المواضيع، والقضايا، والأدبيات المحددة التي يتناولها؟

ستيفان هيرتوغ: إن القضايا الرئيسة التي يتناولها الكتاب تتمحور في النقاش حول “لعنة الموارد”، وتاريخ ما بعد الحرب العالمية الثانية للدولة السعودية وتأثيره على المجتمع المحلي. كما أني أحاول أن أسهم أكثر في نقاشات أوسع عن العلاقات بين الدولة والمجتمع، والإدارة العامة في الدول النامية، متناولاً ومنتقداً مفاهيم محددة مثل كفاءة الدولة واستقلاليتها.

إن أحد المفاهيم التي أعتقد أنها تتجاوز الحالة السعودية هو تضاؤل إستقلالية الدولة في الدول الريعية. فالنخبة الحاكمة عادة ما تتمتع بطرق ملتوية تتمكن من خلالها من استغلال أموال النفط في المراحل الأولى من التنمية، ولكن سرعان ما تبدأ بالتقيد بالتزامات التوزيع مما يقلص بشكل كبير من قدرتها على المناورة- وخصوصا في النظم الشمولية. إن الاستقلال الكبير للنخبة الملكية الحاكمة في المراحل الأولي في المملكة العربية السعودية أعطى عدداً من الأمراء نفوذاً لا حدود له على تشكيل الدولة. وترجع الكثير من الخصوصيات والصور المكررة من البيروقراطية السعودية الفاقدة للحيوية إلى تحالفات الأمراء والمشاكل التي حدثت قبل نصف قرن من الزمان، وهي نتائج أصبحت تقريباً غير ممكنة التقويم بعد أن كبر حجم الدولة والمنتفعين منها.

إن ما يثير الاستغراب في وضع الدولة السعودية في وقتنا الحالي هو ليس كفاءتها أو انعدام هذه الكفاءة، ولكن بالأحرى درجة التشظي الضخمة للمؤسسات التي تشكل الدولة، كل حسب تاريخها الخاص ومجموع المتعاملين معها من المجتمع. يضم جهاز الدولة السعودية منظمات تختلف كاختلاف الميليشيات القبلية: فمن قضاء إسلامي يعيش في كثير من نواحيه في القرن السابع الميلادي، إلى شركات تملكها الدولة وتتمتع بقدر عالٍ من الحداثة والعلمانية مثل أرامكو والتي تبقى بمنأى عن العائلة السعودية، إلى جهاز أمن غير قابل للاختراق تحت إشراف أميري مباشر وتتبعه مدنه ومدارسه وجامعاته ومستشفياته الخاصة. لقد بدأ بناء هذه الاقطاعيات المتوازية منذ الخمسينات مع بدء تدفق أموال النفط، وتعمق هذا البناء في السبعينات مع الطفرة النفطية حين بدأت النخبة الحاكمة بخلق مؤسسات جديدة لكل سياسة جديدة أو مشكلة تعترضها. وفي حين أن بعض أجزاء الدولة يمكن اعتبارها كفوءة بمقاييس البيروقراطية الحديثة، فإن هناك قدراً محدوداً من التواصل بين العوامل التي تشكل الدولة نفسها.

إن عدم تجانس الدولة السعودية يجعل بعض الاصلاحات أصعب من غيرها- حتى ضمن الأجهزة الإدارية الكفوءة. يقلص كل من التشظي الحكومي وانتشار المحسوبية عبر العمالة الزائدة في القطاع العام من امكانية الإصلاح في العديد من المؤسسات، ويؤثر سلباً على الإصلاح في المستويات الدنيا من البيروقراطية، في حين أن الاصلاحات التي يمكن أن تستمر في مؤسسات متفرقة وبنجاح كبير، خصوصاً إذا كان التطبيق مفوضاً لجزر منعزلة من البيروقراطية الكفوءة.

ج.: كيف يمكن لعملك هذا أن يتوافق مع أعمالك وأبحاثك السابقة أو يختلف عنها؟

س. ه.: لقد ألمحت إلى بعض هذه الطروحات في كتابي في مقالتي التي صدرت عام 2007 في الدورية العالمية لدراسات الشرق الأوسط International Journal of Middle East Studie، وأيضاً في فصل في عدد المملكة العربية السعودية في الميزان Saudi Arabia in the Balance ، والذي قام بتحريره بول آرتز Paul Aarts، وجيرد نونمان Gerd Nonneman، في 2005. لكن الكتاب يحتوي على نظرية أكثر تطوراً وتجانساً، وعلى سرد تاريخي أكثر تفصيلاً واستمرارية، وعلى مقارنة أكثر عمقاً بين ما توصلت إليه من خلال دراساتي وعلاقات الدولة بالمجتمع والسياسات البيروقراطية في عموم العالم النامي، ومواضيع بحث حول الدخول إلى منظمة التجارة الدولية، واصلاح الاستثمار الخارجي، وسياسات السعودة حتى 2010. وبالتوازي مع الكتاب، فقد طورت طروحاتي بشكل أكثر حول متى تبرز “جزر الكفاءة” في الدول الريعية في مقال في تاريخ الأعمال Business History في 2008، وفي مقال في السياسة الدولية World Politics  في 2010. أفكر حالياً بفكرة كتاب عن السياسات في المؤسسات المملوكة للدولة في الدول الريعية لأبني أكثر على ما قمت به من عمل.

ج.: من هم الذين تأمل أن يقرأوا كتابك وما هو الأثر الذي ترجوه منه؟

س. ه.: على أقل تقدير، فإن المادة البحثية الميدانية يفترض أن تكون مهمة لأي شخص لديه اهتمام بالنقاش حول “لعنة الموارد” في الاقتصاد السياسي في الشرق الأوسط. كما أعتقد أن الكتابة مفهومة بشكل كافٍ لتكون مهمة لأي شخص يتعامل مع مواضيع خاصة بالسعودية ودول الخليج بصفة عملية، ولتكن بصفة عمل، أو دبلوماسية، أو صحافة، أو تبنٍ لقضايا معينة، أو ببساطة كمقيم محلي في تلك الدول. وبشكل عام، آمل أن أخاطب كل من لديه اهتمام بالسياسات البيروقراطية في العالم النامي، وبضمنهم القائمون على التنمية. ولكن الأهم من هذا كله أن الكتاب مكتوب لكل السعوديين الذين لديهم اهتمام بالسياسة والتنمية الاقتصادية لبلدهم. إن التعليقات التي أقدرها كثيراً تأتي من السعوديين الذين يعرفون من تجاربهم الشخصية الآليات التي قمت بتحليلها.

ج.: كيف تريد لكتابك أن يؤثر على النقاشات السياسية والفكرية الحالية حول السعودية؟

س ه.: أعتقد أن النقاش الدائر حول السعودية محصور بين فكرتي التقليل من الذات والدعاية المساندة للسعودية، وهو بهذا يبتعد عن النظر بعدالة وموضوعية للواقع المعقد والتنوع الكبير في النظام السعودي. ولهذا فإني أود أن أضيف إلى هذا النقاش فهماً أعمق لهذا البلد، والمحددات التي تحكم عمله، والطرق التي تم بموجبها خلق التنوع الاجتماعي والتكنوقراطي في النظام والذي تهيمن عليه الصورة السعودية والاسلامية من الخارج.

في الحقيقة، هذا الكتاب ليس كتابا سياسياً بالدرجة الأولى ولكنه يناقش الأساليب التي يمكن بموجبها أن يؤثر توزيع الريع سلباً على التنمية الاقتصادية ويعرقل السياسة. إن فهم هذه القيود يجب أن يكون الخطوة الأولى تجاه أية إصلاحات ذات مغزى، وبالخصوص للقطاع العام وأسواق العمل. إن التحديات التي يواجهها البلد مستقلة عن شكل النظام السياسي، وهو ما ستتم مناقشته في السنوات القادمة. وبعيداً عن تحليلي الخاص لتوزيع الريع في السعودية، فقد بدأت أفكر في طريقة أكثر عدالة وشفافية للمشاركة في ريع النفط والتي لا تؤثر سلباً على تماسك البيروقراطية، كما أنها لا تخرج المواطنين من دائرة الانتاج الاقتصادي كما تفعله الآن سياسات التشغيل الزائدة عن الحد في القطاع العام. ولذلك فأنا أعمل حالياً على ورقة بحث حول ” دخل المواطنين” في دول مجلس التعاون الريعية، وهو مفهوم يتم فيه فصل التوزيع المباشر للريع عن التوظيف ويتم فيه اعتباره كحق أساسي للمواطنة. يمكن لهذا أن يمنح المزيد من الاستقلالية الاقتصادية للمواطنين، ويقلل من التشتت وانعدام العدالة في أنظمة التوزيع الحالية.

ج.: ما هي المشاريع الأخرى التي تقوم بها الآن؟

س. ه.: إضافة إلى المشروع حول مدخول المواطنين، فأنا الآن أنهي كتاباً بالتعاون مع عالم الاجتماع، دييغو غامبيتا Diego Gambetta، عن السبب في وجود الكثير من المهندسين في صفوف الاسلاميين المتطرفين، وهو مشروع صغير تطور ذاتياً عبر السنين. أعمل أيضاً على مقال يوضح استمرارية الملكيات العربية، وورقة بحث توضح الفرق بين الأساليب السياسية المختلفة للدول الريعية. ولكنني وزوجتي ننتظر مولودنا الثاني قريباً، لذلك فمن يريد الاطلاع على هذه البحوث عليه أن يتحلى بالصبر

مقتطفات من كتاب ” أمراء، وسماسرة، وبيروقراطيون: النفط والدولة في المملكة العربية السعودية” لستيفان هيرتوغ.

حين دخلت غرفة التلكس في وزارة سعودية هامة في صيف 2003، شعرت بأن شيئاً ما كان خطأ في الاتصالات بين الأطراف المختلفة في الحكومة السعودية. فأمام شاشات كومبيوتر من جيل السبعينات من حجم 12 بوصة جلس موظف سوداني يرتدي عمامة ضخمة، وبين حين وآخر، تعود طابعة تبدو وكأنها ماتت منذ فترة طويلة للحياة وتصدر منها ضوضاء وهي تطبع رسالة على شريط الورق اللا منتهي الذي يتدلى منها. بهذه الطريقة كانت الوزارات السعودية تتواصل فيما بينها في عام 2003، وبعد أن صُرفت المليارات على تحديث نظم الاتصال في إدارة المملكة، وبعد ثلاثة سنوات متتالية من العوائد النفطية العالية.

لقد كانت قضية مثيرة من البيروقراطية العتيقة، ولكن غرفة التلكس كانت أيضاً جزءاً من اللغز العملي الواسع الذي كنت أبحث فيه لفترة من الزمن: خلال العقود الماضية، اعتلت كل النخبة السعودية الحاكمة قارب الاصلاحات الاقتصادية، وبضمنها الخصخصة، والسعودة لأسواق العمل، واصلاح سوق رأس المال، وتحرير ضوابط الاستثمار الأجنبي، ودخول منظمة التجارة العالمية. لقد أصبحت النخبة الحاكمة راغبة فعلاً في إعادة تعريف دور الإدارة، والقطاع الخاص بعد أن تراكمت الثروة عبر السنين وأصبحت لدى النخبة الإرادة للقيام بمهام تنموية جديدة. ورغم أن الاجماع السياسي يبدو واسع النطاق، إلا أن سجل الاصلاحات الاقتصادية في السعودية منذ 1999 لم يكن متوازناً. وقد أثار هذا فضولي حيث أنه لا يتفق مع الخطاب الرسمي حول سياسة التنمية الرشيدة، ولا مع الكليشيهات الغربية حول الفساد السعودي الذي لا مفر منه. لماذا أثبت سوق العمالة السعودي أنه غير واضح الملامح في حين أن مشروعات محددة أخرى، مثل خصخصة تيليكوم السعودية عام 2003، تمت بنجاح؟ لماذا كان تطوير البيئة التنظيمية للمستثمرين الأجانب في الألفينات أصعب من بناء بنية تحتية بمواصفات عالمية قبل ربع قرن من الزمن؟ لماذا تم تطبيق بعض السياسات بينما تعثرت سياسات أخرى في دهاليز البيروقراطية؟

إن السجل السعودي المشوش لا يتسق بسهولة مع الطرق المقبولة لتفسير الاقتصاد السياسي للمملكة، وأقصد على وجه الخصوص نظريات “الدولة الريعية”، والتي كانت المملكة العربية السعودية المثل الدائم لها، والتي ُرسمت لها صورة أوسع مما يجب. وفي الوقت الذي وفرت هذه النظريات  فرصة جيدة للتفكير بخصوص مشاكل عامة خاصة بالتنمية النفطية، فإنها كانت أقل فائدة في تفسير درجة النجاح أو الفشل، وهو أكثر الألغاز إثارة في نظام معقد مثل السعودية، والذي لم يكن أبداً فشلاً تنموياً. فالنظريات الريعية تتوقع أن دخل النفط سيسمح للدول أن تتصرف بشكل مستقل عن مطالب المجتمع، وأن المدخول النفطي سيقوي من الدولة على حساب المجتمع، وعلى حساب السلطة التنظيمية الضعيفة لمؤسسات الدولة وانتشار الاعتماد على الريع، وهذا كله صحيح في السعودية إلى حد ما. ورغم ذلك، فلا شيء من هذه التوقعات يفسر تعقيدات آليات صنع القرار في السعودية أو التباين في النتائج.

علم الاجتماع والمشاركة في الثروة

لقد أدركت أخيراً أن قصة السعودية وضحت ضعفاً رئيسياً في نظرية الريع: فرغم أن الأدبيات في هذه النظرية تتوقع أن الدول الغنية والاقتصاديات سوف تتمتع بمواصفات معينة- وهي في الغالب صحيحة في ما تذهب إليه من تكهنات- فإن التفاصيل حول كيفية ظهور تلك النتائج وأين تظهر عادة ما تكون مختصرة وعمومية الوصف. يفتقر الكثير من النقاشات حول الدولة الريعية إلى التحليل العملي للآليات المسببة في كل المستويات ما عدا المستوى العام.

ولكن الاهتمام المعطى لآلية مسببة معينة هو ما نحتاجه لدراسة اللغز السعودي ذي النتائج الاصلاحية غير المتجانسة، والتي تظهر فيها الآثار الريعية في بعض الأحيان وتختفي في البعض الآخر. هذه الحاجة للتحديد هي الفكرة الرئيسية التي توجه مسار الكتاب. فأنا أجادل أن النفط كان مهماً جداً في تشكيل الدولة السعودية، ونظام السلطة فيها، وأساليب صناعة القرار، ولكنه لم يكن مهماً دوماً بالشكل المتوقع وبالوسائل التي يمكننا أن  نفهمها فقط في حالة إذا فهمنا الطرق التي أثر عن طريقها النفط في تشكيل السلطة ضمن المملكة عبر الزمن.

وفي سبيل استكشاف الطرق التي أثر المدخول النفطي من خلالها على السياسة السعودية، فقد اخترت استراتيجية تحتاج إلى أكثر من عام من البحث الميداني والأرشيفي وعبر ثلاث قارات: متابعة سوسيولوجية توزيع الريع في المملكة. فإذا كان المدخول النفطي مهما، فبأي شكل؟ وكيف يتم التصرف فيه؟ كيف يتصرف الناس حين يبنون دولة ريعية ويتفاوضون حول السياسات المتبعة ضمنها؟ من الذي يستفيد من مدخول الدولة وكيف؟ ما هي أنواع العلاقات السلطوية التي يتم تشكيلها في هذه العملية؟ حتى نتعامل مع هذه المواضيع، كان لزاماً علي أن أدرس شبكات اجتماعية صلبة في جوهر الدولة السعودية وحولها. تعمل النظريات الريعية عادة عن طريق التجميع الدقيق لمفاهيم مثل “الدولة”، و”المجتمع”، أو”الأعمال”. يوفر بحثي أساسيات صغيرة ومتوسطة للعمليات الريعية توضح تأثير التوزيع الريعي على مؤسسات معينة، وجماعات مجتمعية، وشبكات اجتماعية. وهي المحاولة الأولى لعمل هذا بشكل نظامي.

إن فهم الأثر الفعلي لأموال النفط على العلاقات السلطوية أتاح لي أن أحدد- وفي بعض الأحيان أن أناقض- بعضاً من الافتراضات المهمة من النقاش الدائر حول الدولة الريعية وتطوير الأفكار الأساسية للبعض الآخر. إبتداء من بناء الدولة النفطية في الخمسينات، يعود هذا الكتاب إلى متابعة المسار الاعتيادي من مدخول خارجي ريعي من خلال التفاعل بين الريع والبناء الاجتماعي، إلى نتاجات السياسات في الألفينات كما تم تأطيرها ضمن هذه الهياكل.

من أول النتائج التي توصلت إليها هو أن قرارات النخبة لها أهمية قصوى في تشكيل الدولة، خصوصاً في المراحل الأولى في بناء الدولة. فلا يوجد هناك آلية تلقائية تقوم بانتاج الفساد، والسعي وراء الريع، وبيروقراطية ضعيفة. فبينما قامت العائلة المالكة السعودية في حالات كثيرة باستعمال سلطتها المالية لبناء محسوبيات شخصية أو لتوظيف جيوش فعلية من المنتفعين البيروقراطيين الذين لا عمل فعلياً لهم، وبطريقة أخرى فقد استعملوا هذه الموارد مع آخرين لبناء إدارات كفؤة عن طريق شراء خبرات عالمية وتقديم عروض جذابة للمواطنين الطموحين. وإذا كانت هناك نتيجة ما، فإن أجزاء كبيرة من المدخول النفطي قد وسعت من لائحة الخيارات المؤسسية المتوفرة للنخبة مما أنتج جهازاً حكوميا غاية في التباين بين أجزائه.

لقد لعب جهاز الدولة السعودي دورا قيادياً ساحقاً لغيره في السياسة الداخلية. فقد كانت السياسة السعودية مركزية بشكل كبير بيد النخبة، التي أضعف شخاؤها وؤعايتها للآخرين من استقلالية المجموعات الإجتماعية. ومع ذلك فإن طبيعة النمو الاقتصادي المتقطع للدولة وعصب النظام الذي يتمحور حول العائلة المالكة قد أدى إلى عدم انسجام كبير وتشظ للجماعات الإجتماعية، وبدرجة أساسية لمؤسسات الدولة في المستويات الدنيا من الهيكل السياسي.

وبينما كانت القرارات السياسة تتخذ من أعلى الهرم نزولاً لأسفله وتهيمن عليها سلطات عليا، فإن النظام تمكن من أن يبني وفي وقت قصير أن يمنح المتعاملين معه في المجتمع، جماعات كانوا أم أفراداً، التزامات مالية واسعة. وبمرور الوقت فإن هذا السخاء الأبوي أصبح غير قابل للتغيير مما قلص من استقلالية القيادة في التصرف بحرية في عوائد النفط وهي آلية توضح الأهمية القصوى لقرارات التوزيع التي تم اتخاذها في منعطفات تاريخية سابقة. إن مجموعات المنتفعين من الدولة الريعية، والذين تراكمت أعدادهم عبر الزمن، كانت لهم فائدة واضحة في تهدئة المجتمع سياسياً ولكن وجودهم غير القابل للتزحزح في الدوائر البيروقراطية وحولها يجعل عملية الاصلاح والإدارة اليومية لشؤون الدولة أكثر صعوبة.

بعد فترة من التطورات السريعة والتغيرات التي أملاها التوسع في الدولة، فإن الدولة السعودية برزت وبشكل غير متوقع كدولة متشظية وككيان ضخم وجامد- رغم وجود بعض الأجزاء الحيوية وعالية الكفاءة فيها. ولتفسير السبب الذي يجعل بعض الاصلاحات ممكنة في السعودية في وقتن الحاضر وبعضها الآخر غير ممكن، فإننا نحتاج إلى “تفكيك” الدولة. نحتاج أن نفهم هياكلها وعلاقاتها بالمجتمع على المستوى المتوسط لمنظمات محددة وجماعات إجتماعية، إضافة غلى فهم الأفراد المنتفعين من الدولة على المستوى الفردي.

إن التشظي على المستوى المتوسط في الدولة السعودية يعني أن القابلية للتنسيق والتكامل في السياسات بين المؤسسات المختلفة والشبكات الأخرى ضعيف، كما يشهد بهذا المنظر الذي ذكرناه سابقاً من غرفة التلكس والذي يوحي بأن الرسائل تصل وكأنها قادمة من قارة أخرى. وعلى النقيض من هذا، فإن سياسات الإصلاح التي شملت بضع مؤسسات فقط، أو التي تمت عبر أطراف دولية قوية نُفذت بشكل أكثر نجاحاً. وحتى بعد ذلك، فإن النجاح في التطبيق مشروط بالكم من اللاعبين على المستوى الفردي الذين يحتاجون أن يتم تفعيلهم وتوجيههم في هذه العملية، وهؤلاء قد يكونون مدراء من المنتفعين من البيروقراطية، أو أفراداً يلعبون أدواراً تنظيمية في المجتمع. وبينما يعد المجتمع السعودي ضعيفاً من ناحية التنظيم الجمعي، فإن الشبكات الاجتماعية في الدائرة البيروقراطية يمكنها في أغلب الأحيان أن تعرقل السياسة. إن “درجة اتساع” المستوى الأوسط، و”عمق” المستوى الفردي في سياسة ما هما عاملان حيويان في تحديد النجاح أو الفشل لهذه السياسة. إن التفريق في السياسات الريعية بين المستويين المتوسط والفردي يسمح بفهم أكثر دقة ” لقدرة الدولة” في البيروقراطية الريعية، وهو عامل يمكن أن يتباين خلال نظام ما إعتماداً على المحتوى المؤسساتي.

إن التحليل العميق للنموذج السعودي يوفر لنا أساساً أعمق للنقاش الدائر حول الدولة الريعية. إنه يضيف دقة للتأكيد على أن الدولة الريعية مستقلة عن المجتمع. وفي الأساس، فإن مدخول النفط أعطى النخبة الحاكمة مساحة واسعة للمناورة. هذا الاستقلال يمكن أن يتقلص بمرور الزمن، ولكن، يمكننا أن نرى أن القيود التي تربط الدولة بالمجتمع تتزايد وهي تأخذ على عاتقها مسؤوليات التوزيع الفردي للثروة والتي لا يمكن الرجوع عنها.

إن الحالة السعودية تؤكد التوقع النظري أن الريع يقوي الدولة في مقابل المجتمع. والآلية التي توضح هذه النتيجة هي أن الاعتماد على الريع يميل إلى جعل المجموعات الإجتماعية تابعة للنظام ويقوض من تجانسها الداخلي. ومع ذلك، فإن الدخل النفطي العالي يبدو مغرياً للنخبة السياسية لتضيف منظمات أخرى لجهاز الدولة لمواجهة المشاكل السياسية والإدارية، مما ينتج عنه تشظي الدولة نفسها. هذه هي النتيجة غير الموثقة حتى الآن لتأثير المدخول الريعي الذي يبدو حاصلاً في الدول الريعية أيضاً.

وفي الوقت الذي تعتبر فيه البيروقراطيات “المترهلة” ذات السلطات التنظيمية مهمة وكاشفة لطبيعة النظام، وهي التي تعزى في أغلب الأحيان للمدخول الريعي، فإن هذه البيروقراطيات تعد طارئة وعرضية بدرجة أكثر مما تتنبأ به الأدبيات. واعتماداً على الكيفية التر تقرر بها القيادات استعمال المدخول المكتشف حديثاً في عملية بناء الدولة، فإن هذه البيروقراطيات قد تظهر وقد لا تظهر. وإذا ظهرت، فإن الآلية المعتادة هي استعمال التوظيف البيروقراطي كمورد لضمان الولاء والذي يقوض المحفزات الفردية في النظام البيروقراطي. وفي حالات أخرى، فإن المنتفعين الثيوقراطيين والذين تم انتقاءهم بعناية من قبل آل سعود قاموا ببناء “جزر من الكفاءة” في خضم جهاز الدولة السعودية تتمتع بأنظمة توظيف وحوافز مستقلة عن بعضها، وتصدر في بعض الأحيان تعليمات صريحة بتجاوز البيروقراطية في باقي جهاز الدولة. وبخلاف ما تمت مناقشته في السابق، فقد وجدت أن وجود أو غياب نظام ضرائبي على المستوى الوطني له أثر ضئيل على سلطات الدولة التنظيمية.

إن السعي وراء الربح والفساد الذي تتنبأ به الأدبيات يحدث بالفعل في السعودية، حيث يتضاعف حجم بعض المؤسسات وكأنها مصالح ومحسوبيات خاصة لبعض اللاعبين المؤثرين في النظام. يتفاوت حجم الفساد كثيراً بين مؤسسة وأخرى، ومع ذلك فإن هذا لا يعد السبب الرئيس للنتائج المتواضعة للسياسات الرسمية، بل إنه يتصل أكثر بتشظي الدولة وبزخم المنتفعين داخل بيروقراطية الدولة. إن ما أطلق عليه أنا “الانتفاع المقسم”- وهو نظام غير متجانس وغير رسمي مبني على الانتفاع من الريع الذي تهيمن عليه العلاقات الرأسية- يسمح بالتحليل الدقيق أكثر مما تسمح به نظريات الدولة الريعية. إنه يعطينا الفرصة لنفهم في أي جزء منها تكون الظاهرة الريعية قابلة للتطبيق وفي أي جزء آخر لا يمكن تطبيقها، إضافة إلى فهم علاقات السلطة التي تحددها.

[نشرت هذه المقابلة للمرة الأولى على جدلية باللغة الإنجليزية. ترجم المقابلة والمقتطفات من الكتاب إلى العربية علي أديب. لمزيد من المعلومات أو لشراء الكتاب انقر هنا رجاء.]

موقع جدلية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى