كتاب أوهام الإسلام السياسي/عبد الوهاب المؤدب وبعض مقالات للمؤلف وعن المؤلف
عبد الوهاب المؤدّب ودّع “أوهام الإسلام السياسي“
عمر يوسف سليمان
لم يكن من الممكن اللقاء بالكاتب التونسي عبد الوهاب المؤدب خلال الأشهر الماضية، فقد كان في عراك مع مرض السرطان، إلى أن رحل ليلة الخميس الفائت في أحد مستشفيات باريس؛ ليعود بطريقة أكثر عمقاً إلى قرَّائه في العالم العربي ضمن الأهوال التي نشهدها اليوم.
صاحب “أوهام الإسلام السياسي”، كان قد قدَّم قراءة دقيقة للتاريخ الإسلامي وربَطها بالواقع المعاصر، وهي قراءة تنطبق في كثير من جوانبها على ما نشهده اليوم في سوريا والعراق. ففي هذا الكتاب الذي تُرجم إلى ست عشرة لغة من بينها العربية (ترجمه محمد بنيس) عاد المؤدب بالذاكرة إلى نشأة التطرف الديني ومناوئيه خلال القرن التاسع عشر، مروراً بعصر النهضة وصولاً إلى تفجيرات الحادي عشر من أيلول 2001، في سياق البحث عن أسباب هذا التطرف ونقده على غرار ما فعل نيتشه مع المسيحية المتشددة.
رحل المؤدب عن 68 عاماً، بعد رحلة طويلة في حقول الشعر والدراسات والترجمة والرواية والنشر. اهتماماته، على الرغم من تعددها، لم تنفصل عن نشأته وتجربته الخاصة مع عالم التصوف منذ كتابه الشعري، “قبر ابن عربي”، إلى ترجماته للحلاج وجلال الدين الرومي وعمر الخيام وابن الفارض إلى اللغة الفرنسية. فالشاعر الفرنكوفوني كان قد درَس تاريخ الأدب الفرنسي في جامعة السوربون ودرَّس مادة الأدب المقارن، كما عمل مديراً لدار “سندباد”، وعرَّف عبرها القارئ الفرنسي بمجموعة من الكتاب العرب المعاصرين، كالروائي المصري صنع الله ابرهيم والسوداني الطيب صالح والشاعر السوري أدونيس.
تأتي عودة المؤدب في هذه الظروف من كونه نقطة التقاء بين الشرق والغرب، فقد نشأ في بيئة محافظة وكان أبوه أحد شيوخ جامع الزيتونة في العاصمة التونسية، ثم انتقل إلى فرنسا في العام 1967 بعدما أكمل دراسته الثانوية، كما أقام لسنوات في الولايات المتحدة الأميركية، ما جعل نتاجه الفكري والأدبي يتمحور حول ثقافات عدة. لا يتقاطع المؤدب مع المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد في هذه الزاوية فقط، بل في نظرته التحليلية الشاملة للحوادث العالمية وموقفه من العولمة والمعالجة الأميركية الخاطئة لـ”الأصولية المتفشية” المصطلح الذي ذكره وحذّر من انتشاره مراراً في كتبه، “أوهام الإسلام السياسي”، “مرض الإسلام”، “رهان الحضارات”، و”الإسلام الآن”، الذي كان عبارة عن حوار مطوّل جمعه بالكاتب الفرنسي فيليب بتي حول “الإسلاموفوبيا” وآثارها أمام تحييد أوروبا وحضارتها عن مكانتها لصالح “أمركة العالم”، وقد تبنى المؤدب في هذا الكتاب منهج المفكر الإيراني داريوش شايغان في قلب النظرة “الاستغرابية” و”الاستشراقية” التقليدية، بغية الوصول إلى معرفة أسباب الكراهية وتشعباتها بين الغرب والشرق.
يُعدّ عبد الوهاب المؤدب من رموز الثقافة الفرنسية، وهو لم يُقرأ بشكل كافٍ في العالم العربي، على الرغم من غوصه في قضايا جوهرية كـ”الإسلام والجمهورية” و”أسباب النزول” و”التأويل” و”التفسير” الحرفي للنص الديني و”الهوية” العربية على الصعيدين العام والشخصي، كونه تونسي المولد، فرنسي الجنسية والكتابة، مستفيداً من معرفة غزيرة كوَّنها خلال لقاءاته مع أعلام الثقافة في العالم، ومن تنقلاته بين اللغات والأماكن، إضافة إلى متابعته الوقائع اليومية في العالم العربي من خلال برنامجه الأسبوعي، “ثقافات الإسلام”، الذي بقي مستمراً لسنوات منذ العام 1997 عبر إذاعة فرنسا الثقافية.
أوهام الإسلام السياسي | عبد الوهاب المؤدب
حمل هذا الكتاب من الرابط التالي
http://ia801904.us.archive.org/4/items/ketaby27aug/AWM-Awham.pdf
الكتاب الجديد لعبد الوهاب المؤدب : الاسلام بين الحضارة والبربرية كيف الخروج من اللعنة الابدية؟
هاشم صالح
لا أعرف مثقفا عربيا مسلما واحدا يمشي في خط التنوير الفكري ونقد الأصولية الإسلامية بشكل راديكالي لا هوادة فيه أكثر من عبد الوهاب المؤدب. فعلى مدار السنوات الست الماضية أصدر عدة كتب كلها تمشي في نفس الاتجاه وتعمقه أكثر فأكثر بدءا من “مرض الإسلام” وانتهاء بهذا الكتاب الأخير الذي يموضع الإسلام على مفترق طرق: إما أن يختار طريق الحضارة والتقدم، وإما أن ينكفئ سلفيا على نفسه ويغرق في أحضان الفاشية الأصولية البربرية. وعمن يصدر هذا الكلام؟ ليس عن مستشرق بعيد، غريب، أجنبي، متهم بأنه معاد سلفا للإسلام.. وإنما عن مثقف تونسي ينتمي إلى عائلة عريقة من شيوخ جامع الزيتونة الشهير. ولا أعرف مثقفا واحدا تجرأ على ربط كلمة الإسلام بالمرض سواه. أقول ذلك رغم أن مرض الإسلام أصبح واضحا حتى للعميان حاليا. وهو أحيانا يشبّه الأصولية السلفية المتزمتة السائدة حاليا بالورم السرطانيّ الذي أصاب الإسلام والذي ينبغي استئصاله كي نشفى من مرضنا… تشبيه بليغ ولا أقوى. ولكن لا أحد يتجرأ على قول ذلك. ممنوع أن تقال الحقيقة في بلاد العرب والمسلمين. ليس غريبا والحالة هذه أن يكون التخلف يضرب بأطنابه هناك منذ عدة قرون..
في كتابه الأخير يصعّد عبد الوهاب المؤدب من حدة النقد والتعرية الاركيولوجية درجة إضافية إذ يضع النص القرآني نفسه على محك التساؤل والنقد. فبعد كل ما حصل من أعمال عنف وقطع رقاب باسم الإسلام. وبعد أن كان الزرقاوي يتلو آية قرآنية ثم يقطع بحدّ السيف رأس العراقيّ المسكين أو الرهينة الغربية ما عاد القرآن بمنأى عن المساءلة لمعرفة فيما إذا كان يبرر بالفعل ذلك أم لا.القرآن أصبح الآن في مرمى الهدف بالنسبة لكل مفكري العالم. ولذا فإنّ عبد الوهاب المؤدب يعنون الفصل الأول بكل وضوح وبدون أي مراوغة أو مداورة: كسر المحرم القرآني أو التابو القرآني. فالقرآن تحول إلى تابو مرعب لا يمكن مسه بأيّ شكل: أقصد لا يمكن طرح أي سؤال عليه أو دراسته دراسة علمية تاريخية كما تفعل المدرسة الإستشراقية الألمانية مثلا أو كما فعل علماء أوروبا بالنسبة للتوراة والإنجيل. وهنا يحتمي المؤلف بمرجعية نيتشه العظيم الذي كان قد مارس الفلسفة أو التفلسف وبيده مطرقة من حديد لتحطيم الأصنام المعبودة قديمها والحديث.
نقول ذلك ونحن نعلم كيف عرّى العقائد المسيحية من جذورها وأساساتها وأعلن الحرب على بولس الرسول متخذا منه عدوا شبه شخصيّ له. ثم أعلن بصرخته المدوية الشهيرة وفي نص مذهل شكلا ومضمونا عن موت الإله المسيحيّ القديم، اله محاكم التفتيش والإرهاب الفكريّ البابويّ الذي قتل مئات الفلاسفة والعلماء قبل أن يسحق نهائيا على يد فلاسفة التنوير ويحل محله اله آخر جديد أكثر تسامحا ومحبة وغفرانا. ومعلوم أن نيتشه وضع تلك المرحلة التنويرية من حياته تحت حماية فولتير عندما أهداه كتابه “بشريّ، بشريّ أكثر من اللزوم” قائلا: إلى فولتير أحد كبار محرّري الروح البشرية.. بقي أن يخرج مفكر مسلم واحد لكي يعلن هو الآخر أيضا مصرع “الإله” الإسلامي القديم المرعب الذي أنجب بن لادن والزرقاوي وملايين الآخرين. ولا أقصد به هنا الله الرحمن الرحيم الغفور وإنما التشويه الذي لحق به. ففكرة الله ستظل قائمة ولن تموت. في رأيي أن هذا المفكر ظهر أخيرا: انه الكاتب والشاعر والباحث التونسي عبد الوهاب المؤدب. والشيء الذي يعطي كلامه مصداقية اكبر بالإضافة إلى كل ما سبق هو انه يحب الإسلام ومغموس بتراثه من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه. انه لا ينطلق من أي منطلق كاره لدين محمد. على العكس. ولكن الإسلام الذي يحبه هو الإسلام الروحاني، الإسلام الثقافي المبدع الذي أنجب مئات الكتاب والشعراء الكبار، إسلام ابن عربي والتراث الصوفي الإنسانيّ العريق. باختصار فانه الإسلام المنبوذ عموما بل والمكفّر من قبل تيار الأغلبية على الأقل منذ الدخول في عصر الانحطاط. ولكن ألم يكن نيتشه، الذي أعلن موت الأصولية المسيحية محتميا بمرجعية فولتير، هو الآخر أيضا ابن عائلة مسيحية بروتستانتية أبا عن جد منذ مئات السنين؟ ألم يكن والده قسا وراعيا لكنيسة القرية والقرى المجاورة وكذلك جده؟ وحدهم أبناء المشائخ يعرفون معنى الدين وعظمة الدين وسمو الدين وحلاوة الدين إذا ما وقع في القلب وكان روحانيا خالصا وتنزيها أخلاقيا وتفانيا وتعاليا. ولكنهم في ذات الوقت يعرفون جيدا خطورة الدين إذا ما تحول إلى تعصب أعمى وانقلب إلى سلاح طائفي فتاك لا يبقي ولا يذر. وحدهم يعرفون معنى الإكراه والرعب والقمع والردع الذي يمارس باسم الدين وبخاصة في الفترات الانحطاطية والانغلاقية الطويلة. وهذه هي حالة الإسلام اليوم ولكنها لم تعد حالة المسيحية الأوروبية. كل من تربي تربية إسلامية قرآنية في طفولته يعرف معنى الأصولية الدينية والثمن الباهظ المدفوع للتحرر منها. كلنا نحاول أن نتحرر من أشياء مغروسة في أنفسنا منذ الصغر. في البداية نحن جميعا أصوليون.. وسوف يمضي وقت طويل قبل أن نستطيع تنظيف أنفسنا من جراثيم الأصولية اللاهوتية والطائفية المتغلغلة في أعماق أعماقنا. إن الكتب التنويرية الاستكشافية مثل كتاب عبد الوهاب المؤدب تساعدنا على ذلك دون أدنى شك. إنها كتب تحريرية، كتب تشفي من المرض العضال، لأننا جميعا مرضى بشكل من الأشكال..والأجمل من ذلك هو انه يداوينا من التراث بالتراث ذاته مع الانفتاح على الحداثة الأوروبية بطبيعة الحال. فكثيرا ما يستخدم المعتزلة أو الفلاسفة أو كبار المصلحين كالشاطبي ومحمد عبده أو حتى كبار الأدباء والشعراء لنسف الأفكار الأصولية المتعصبة أو نقضها. بهذا المعنى فانه يتبع إستراتيجية: وداوني بالتي كانت هي الداء..فالعلاج موجود في المرض ذاته أو قل انه من جنس المرض. وإذا ما عالجنا المرض بشيء من جنسه فان المعالجة تكون أكثر فعالية. أما إذا ما عالجناه بشيء من الخارج أي بفولتير أو سواه فان المعالجة لا تبدو مقنعة جدا بالنسبة لعموم المسلمين. هذا لا يعني بالطبع أن المعالجة الخارجية ليست مهمة أو مفيدة.على العكس. ولكن يجيء دورها بعد المعالجة الداخلية.
في الصفحة 47 من كتابه يتذكر عبد الوهاب المؤدب طفولته بالقرب من جامع الزيتونة ويقول: بما أني سليل عائلة من الفقهاء التونسيين فاني أعترف بان رجل الدين يظل إنسانا محافظا على نزاهته الإنسانية عندما يبقى محصورا بمهمته الدينية. المقصود عندما يحصر مهمته بتقديم التعاليم الدينية والفتاوى الخاصة بالممارسات الشعائرية والقواعد الخاصة بها مستخدما المرجعية اللاهوتية داخل الحقل الديني المقدس فقط. ولكنه ما أن يخرج عن هذا النطاق، أي ما أن يخرج من الجامع، حتى يتحول إلى نمر متوحش يحاول الهيمنة على المجتمع المدني كله. وهذا هو معنى “ولاية الفقيه” في الواقع: أي ذلك المصطلح الذي أعاد الخميني تنشيطه وبعثه من زوايا التاريخ لكي يحكم به إيران ويعود بها عشرات القرون إلى الوراء. هنا يكمن الخطر الأعظم للدين ورجل الدين. انه شخص توتاليتاري استبدادي يريد ان يتحكم بكل شيء بدءا من قصة الشعر او طول ثياب المرأة وانتهاء بعلم الفيزياء والكيمياء والذرة والفضاء التي يعتقد أنها موجودة كلها في القرآن..
وإذن فان عبد الوهاب المؤدب لا يدعو إلى الإلحاد إطلاقا ولا إلى حذف الدين من المجتمع وإنما إلى حصره في مجاله الخاص فقط كيلا يطغى رجال الدين على المجتمع ككل ويكبلوه بالسلاسل اللاهوتية والأغلال الفقهية التي عفى عليها الزمن. وهذا ما حصل في إيران والسودان والباكستان في عهد الشنيع ضياء الحق وبالطبع في أفغانستان الطالبان والجزيرة العربية وأماكن أخرى.
لكن لنعد إلى المسألة الأساسية: كسر التابو القرآني. هنا أيضا ينبغي أن نكون حذرين جدا لكيلا نسقط في التبسيط المجاني ونعطي الأصوليين السلفيين كرابيج كي يجلدونا بها وينتصروا علينا بسهولة بل حتى قبل أن تبتدئ المعركة. فالقرآن هو قدس الأقداس والعمود الفقري للنظام اللاهوتي الإسلامي كله. ولا يمكن المساس به بسهولة ونحن لا نهدف إلى المساس به هنا وإنما إلى فهمه لأول مرّة بشكل صحيح. وهنا نجد أن عبد الوهاب المؤدب يستخدم إستراتيجية ذكية ومقنعة لدحض خصومه مباشرة: انه يستخدم التراث الإسلاميّ نفسه أو قل التيار التنويريّ فيه كي يكشف عن تاريخية النصّ القرآنيّ ويكسر هالة الإرهاب الفكريّ التي تحيط به منذ قرون. فالنصوص المقدسة لها رهبة وهذه الرهبة سرعان ما تتحول إلى إرهاب فكري يشل العقل تماما إذا لم ننتبه إلى الأمر جيدا.
يقول عبد الوهاب المؤدب ما معناه:في معركتنا الحاسمة هذه لأرخنة القرآن أي للكشف عن بعده التاريخي وموضعته ضمن ظروف عصره وبيئته بغية فرز ما هو ابدي خالد فيه عما هو عرضي غير ملزم لنا نجد حليفا كبيرا داخل الإسلام نفسه: انه فرقة المعتزلة التي قالت بان القرآن مخلوق، حادث، وليس قديما أزليا كما يتوهم الحنابلة وجمهور المسلمين. ولكن أطروحتهم وئدت في مهدها ولم تقم لها قائمة منذ ألف سنة وحتى اليوم. والآن لا يتجرأ أحد على بعثها من مرقدها لأنّ الأطروحة المضادة مسيطرة على العقول سيطرة مطلقة بعد أن كرستها القرون.
أعلّق على كلام المؤدب السابق وأقول:أنا شخصيا رغم كل محاولاتي للتحرر من العقائد القديمة الراسخة لا أزال واقعا تحت وطأتها بسبب التربية القرآنية التي تلقّيتها في طفولتي، ويصعب عليّ أن أدرك البعد التاريخيّ في القرآن. وقد سألت مرة محمد أركون عن الموضوع فأجابني بأنّ ذلك عائد إلى ما يدعوه العلماء بصدمة الحقائق المطلقة: بمعنى انه إذا ما زرعت فكرة ما في ذهنك وأنت صغير بصفتها حقيقة مطلقة لا تناقش ولا تمس فانه يصعب عليك لاحقا أن تتخلص منها إلا بشق النفس.. وقد لا تستطيع أبدا. لنتفق على الأمور منذ البداية: في القرآن جانب أخلاقي تنزيهيّ روحانيّ متعال يمكن اعتباره أبديا خالدا. ولا يمكن المسّ به. ولكن هناك التشريعات والحدود وللذكر مثل حظ الأنثيين والتصورات المجازية عن الخلق والكون والموقف الهجومي ضد الأديان الأخرى وما شابه ذلك..وهذا كله مرتبط بظروف عصره في شبه الجزيرة العربية إبان القرن السابع الميلادي ولم يعد صالحا لعصرنا. هذا ما يريد أن يقوله عبد الوهاب المؤدب. لا يمكن أن نجلد شخصا ثمانين جلدة لأنه شرب كأس بيرة في مراكش أو القاهرة، الخ..ولكن عندما يقول القرآن: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره، فانه يؤسس لمبدأ أخلاقي عظيم لا يمكن تجاوزه. انه يؤسس للعدالة الكونية بكل بساطة. وقس على ذلك كل القيم الأخلاقية المثالية الواردة في القرآن والتوراة والإنجيل وبقية النصوص الدينية الكبرى لأنه يوجد مقابل لذلك في البوذية وبقية أديان الشرق الأقصى أيضا.
ماذا قالت المعتزلة؟ قالوا بأن القرآن حديث، محدث، مخلوق بلغة بشرية حتى ولو كان مستلهما من قبل الله. إنها لغة طبيعية لها نحوها وصرفها وألفاظها كأيّ لغة بشرية أخرى في العالم. وبالتالي فإنهم يدافعون عن أطروحة حدوث القرآن: أي القرآن كحدث ظهر في لحظة معينة من لحظات التاريخ. ومحمد يقف تجاه القرآن نفس موقف موسى تجاه التوراة: انه عبارة عن إنسان ملهم من قبل الله ويخاطب قومه باللغة التي يفهمونها لكي ينقل إليهم كلاما في صيغة لغوية طبيعية يمكن تقليدها ومحاكاتها وليست معجزة على الإطلاق. الإعجاز هو عبارة عن مقولة لاهوتية قروسطية لا مقولة علمية أو لغوية محضة. الشيء المعجز فعلا هو الوحي الموجود عند الله في اللوح المحفوظ. وهو وحي لا يمكن للبشر أن يتوصلوا إليه. أما القرآن الذي نعرفه فحادث وتاريخي يمكن للعلماء أن يدرسوا كيفية تشكله طيلة القرون الأربعة الأولى من عمر الإسلام وضمن ظروف صراعية رهيبة بين مختلف الفرق الإسلامية. بل ان ابن مسعود بكى وحزن حزنا عظيما لأنهم أتلفوا مصحفه كيلا ينافس المصحف الرسميّ لعثمان. وزاد من ألمه وتمزقه أنهم حذفوا من القرآن آيات كان قد سمعها من رسول الله وأضافوا إليه آيات لم يسمعها بل وأضافوا إليه ثلاث سور بحسب رأيه هي الأولى والسورتان الأخيرتان. فمات غما وكمدا..
أما الأطروحة الحنبلية التي انتصرت وترسخت حتى الآن وأصبحت حقيقة مطلقة لا تناقش ولا تمس فتقول بأنّ القرآن غير مخلوق على الإطلاق وإنما هو أزليّ مثل الله. وبالتالي فهو أعلى مرتبة من التوراة والإنجيل لأنه صادر عن الله بحرفيته وليس فقط مستلهما من قبله. ينتج عن ذلك أن لا علاقة له بالتاريخ لا من قريب ولا من بعيد لأنه الهي حتى بحروفه وألفاظه وقضّه وقضيضه وليس فقط بمعانيه أو استلهاماته. وبالتالي فينبغي أن نطبق كل ما جاء فيه بشكل حرفيّ. فإذا قال اقطعوا يد السارق قطعناها حتى ولو كانت السرقة رغيف خبز! هذا التفسير الحرفي الحنبلي للإسلام هو الذي جمد القرآن في معان وتصورات تعود إلى القرن السابع الميلادي. وخنق بالتالي روح التطور لدى المسلمين. والمسلمون اليوم واقعون في تناقض مأزوم قاتل لا يعرفون كيف يخرجون منه: فهم من جهة لا يستطيعون تطبيق كل الحدود والشرائع الواردة في القرآن لأنها مضادة لحقوق الإنسان ولكل الفلسفة السياسية والنزعة الحضارية الإنسانية برمتها. وهم من جهة ثانية لا يستطيعون الخروج على هذه الحدود والشرائع لأنهم سجناء التفسير الحرفي الظاهري للقرآن ولأنهم يعتقدون بأنها إلهية محضة وبالتالي فعدم تطبيقها يعني عصيان أمر الله تعالى والذهاب إلى جهنم وبئس المصير.. من هنا الوضع المتأزم المحتقن الانفجاري الذي يعيشه كل مسلمي اليوم. إنهم يتخبطون ولا يعرفون ماذا يفعلون. وهذا ما دعوته سابقا بالانسداد التاريخي الذي قد يؤدي إلى انفجار مرعب. بل إن الانفجار حاصل منذ الآن..
وما هو الحل إذن؟ الحل هو تبني أطروحة المعتزلة مع تطويرها لكي يتم الاعتراف بتاريخية القرآن لأول مرة: أي بمشروطيته كنص كتب قبل ألف سنة أو أكثر وفي ظروف تاريخية لم تعد هي ظروفنا على الإطلاق. وبالتالي فنأخذ منه الجوهر وهو كثير والحمد لله ونترك القشور المرتبطة بظروف عصرها في القرن السابع الميلادي أو القرون الأولى التي لحقته. ولكن ما يفعله المسلمون اليوم هو العكس تماما: أي يأخذون القشور ويتشبثون بها حتى الموت وينسون الجوهر المتمثل بالقيم الروحية والأخلاقية العليا التي نص عليها الكتاب المؤسس للإسلام وكررها أكثر من مرة في آيات بينات. هنا يكمن الخلل في الوضع الإسلامي الراهن.
ثم يخلص عبد الوهاب المؤدب إلى النتيجة التالية: وهي أن ما نسمعه أو نقرؤه من آيات قرآنية لا يمكن أن يكون كلام الله الحرفي وإنما كلام النبي الملهم من قبل الله والذي يستخدم لغة عربية تناسب عقلية ومدارك وأفهام أناس عصره لكي يفهموها. فمن الواضح أن عربية القرآن لم تعد هي عربيتنا الحالية في جوانب كثيرة شكلية أو مضمونية. وبالتالي فقد آن الأوان لكي ندمر بالمطرقة الفلسفية النيتشوية تلك الأطروحة الحنبلية التي تهيمن على عقول أكثر من مليار ونصف مليار مسلم اليوم. لقد آن الأوان لتدمير اليقينيات الخاطئة التي تحولت بمرور الزمن إلى أصنام نعبدها.. هذا الموقف إذ يتجرأ عليه عبد الوهاب المؤدب يعرض نفسه لخطر التكفير الفوري وبالتالي إباحة دمه من قبل جمهور المسلمين. ومعلوم ان القادر بالله كان قد أباح دم المعتزلة لنفس السبب عندما أصدر نص الاعتقاد القادري ذي الاستلهام الحنبلي والذي قُرأ في كل جوامع بغداد عام 1017ميلادية. فمن تاب منهم وتراجع عن القول بخلق القرآن عفوا عنه ومن لم يتب سفكوا دمه شرعا حلالا فورا. على هذا النحو تمت تصفية المعتزلة فأحرقت كتبهم ولوحقت شخصياتهم في كل الأمصار الإسلامية. وعلى هذا النحو تمت تصفية العقل والمنطق في ارض الإسلام. ولا نزال ندفع ثمن ذلك حتى هذه اللحظة.
لا استطيع للأسف الشديد أن استعرض في مقالة واحدة كل محاور هذا الكتاب الهام. يكفيني فقط أن أشير إلى تفنيده لكل أطروحات السلفيين المتزمتين عن الجهاد الذي يدعو إلى إلغائه فورا حتى في صيغته الدفاعية. فكلمة الجهاد أصبحت ترعب الحساسية المعاصرة في العالم كله بعد كل التفجيرات والجرائم التي ارتكبت باسمه هنا أو هناك. كلمة جهاد ينبغي أن تلغى من لغتنا العربية اللهم إلا كمجاهدة للنفس من اجل إبعادها عن الشر وتصحيح انحرافاتها. وكذلك يفند المؤلف موقف السلفيين من الأديان الأخرى وبخاصة من اليهود والمسيحيين. وهو موقف ناتج عن فهم خاطئ ومتحيز للقرآن أو على الأقل لبعض آياته. وهنا ينبه عبد الوهاب المؤدب إلى أسلوب أحمق يتبعه السلفيون الأصوليون عندما ينسخون كل الآيات المنفتحة المتسامحة في القرآن بحجة أنها سابقة زمنيا على الآيات الحربية المتشددة أو آيات القتال التي جاءت بعدها. وهكذا يحذفون مائة آية ناعمة مسالمة منفتحة على الآخرين وعقائدهم. إنهم يشطبون عليها بجرة قلم. ولا يركزون إلا على الآيات المتشددة التي تعكس صراعات النبي في المدينة مع أهل الكتاب وسواهم! ويرى عبد الوهاب المؤدب أن الموقف المعاكس الذي اتخذه المفكر السوداني محمود محمد طه وقتلوه من اجله هو الأفضل. ومعلوم انه أعطى الأولوية للآيات المكية المثالية المتعالية النبوية الرسولية على الآيات المدنية السياسية الحربية الصراعية..ولكن الموقف الصحيح يبقى هو أرخنة القرآن كله وموضعته ضمن ظروف عصره لكي نعرف ما هو العرضي العابر فيه وما هو الأبدي الخالد كما ذكرنا سابقا. وعلى قاعدة ذلك يتم الفرز..فنطرح العرضي المرتبط بظروف العصور القديمة ونبقي على ما تبقى.
بعد القضاء على المعتزلة تم القضاء على الفلاسفة. وهكذا اكتملت الحلقة فصولا وخنق العقل نهائيا في ارض الإسلام. وعلى أرضية هذا الخنق ترعرعت السلفية الأصولية التكفيرية منذ ابن تيمية وحتى اليوم. هذه هي اركيولوجيا الفكر الإسلاميّ إذا ما استخدمنا مصطلح ميشيل فوكو أو جنيالوجيا الأصولية المتعصبة إذا ما استخدمنا مصطلح نيتشه. وبالتالي فازدهار الأصولية حاليا لا يمكن فهمه إلا إذا موضعناه ضمن إطار المدة الطويلة للتاريخ كما يقول المؤرخ الكبير فيرنان بروديل.. يقول عبد الوهاب المؤدب في الصفحة 46 ما معناه: مأساة الإسلام ابتدأت مع هزيمة الفيلسوف أمام رجل الدين الفقيه. وفي المذهب السني يسهل تحديد تاريخ هذه الهزيمة: إنها مرافقة لموت ابن رشد عام 1198 أي في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي. فقد أحرقت كتبه ولم يخلف وراءه ورثة مسلمين وإنما فقط ورثة يهود ومسيحيين يكتبون بالعبرية او باللاتينية. وبدءا من ذلك التاريخ عجزتاللغة العربية ان تكون لغة علم وفلسفة وأصبحت لغة فقه ودروشة..
لكنّ الشيء الذي فات عبد الوهاب المؤدب أن يقوله هو أن هذه الهزيمة كانت قد ابتدأت في الواقع في المشرق قبل ذلك بحوالي المائة سنة عندما هاجم الغزالي كلا من الفارابي وابن سينا وعموم الفلسفة بعنف في كتابه الشهير تهافت الفلاسفة. ولكن هل فاته ذلك حقا؟ لا أعتقد. كل ما في الأمر هو أنه كتونسيّ ركز على هزيمة الفلسفة في الغرب الإسلاميّ دون أن ينسى هزيمتها في الشرق. وهكذا أطبق الظلام على العالم الإسلاميّ بمشرقه ومغربه منذ موت ابن رشد وطيلة عصور الانحطاط التي ما زالت متطاولة أو متواصلة حتى هذه اللحظة..فمتى سيستيقظ العرب المسلمون من نومة أهل الكهف؟ ومن سيرجّ الشرق؟
موقع الاوان
“ضد الخطب” ـ عبد الوهاب المؤدب على خطى فولتير
الكاتب التونسي عبد الوهاب المؤدب، التفكير ضد المؤسسة
عبد الوهاب المؤدب مفكر شجاع من طراز رفيع، لأنه لا يتوقف عن مسائلة المحظور والمخاطرة بتفكيره في دروب مظلمة. إنه الطفل الذي صرخ يوما: “القيصر عار”، فاضحا الأقانيم الظلامية التي تقوم عليها الثقافة العربية المعاصرة.
عبثا تحاول الثقافة الدينية الأرثوذوكسية، بسننيتها الإكراهية، أن تخرس صوت الفكر الحر، الذي ميز أيضا ولقرون طويلة الثقافة الإسلامية. هذه الثقافة التي لم تنتج فقط ابن حنبل وابن تيمية ولكن أيضا فيلسوفا مثل الكندي وشاعرا مثل أبي نواس وكاتبا مبدعا مثل ابن المقفع ومتصوفا من قامة الحلاج أو ابن عربي الذي جاهر في التجليات بالقول بأنه يجد أحيانا من القديسين الطيبين في الكنائس والبيع اليهودية، ما لا يجده في المساجد حين تمتلئ بالحاقدين. الكاتب التونسي عبد الوهاب المؤدب، كرس أغلب كتبه للدفاع عن النهج التنويري في الثقافة الإسلامية، الذي يحاول التيار السلفي حجب معالمه وإخراس صوته والحط من شأنه. وكان للعمليات الإرهابية التي ضربت الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر وقع الصدمة عليه. دفعته إلى حشد أسئلته ومراجعة الكثير من اليقينيات التي تؤبد تبعية العقل العربي لتقليد ديني مستقيل، فجاء كتابه “مرض الإسلام” الذي عرف نجاحا كبيرا، ليس فقط بسبب أسئلته التي يطرحها ولكن أيضا لجرأته في خدش نرجسية الإنسان العربي، وفضح أمراضه وتشريح عقد النقص لديه، قبل أن يصدر مؤخرا كتابه “ضدـ الخطب” الذي يذكرنا بكتابات فلاسفة الأنوار في فرنسا، وكفاحهم من أجل حرية العقل، وحرية الفرد، وحرية العقيدة.
“مرض الإسلام”: التفكير في زمن التكفير
المرأة، أول ضحية للثقافة الأورثدوكسية المتزمتة
سيرا على خطى فولتير، يرى المؤدب ضرورة عرض مرض الإسلام على العقل، لأن من شأن العقل وحده أن يعري الخرافات والنزعات المتطرفة التي تتدثر برداء الدين. والمؤدب يعلن منذ الصفحات الأولى لكتابه “مرض الإسلام” أنه استعار كلمة “مرض” من فولتير حين حديثه عن المتطرفين المسيحيين. ليعرج على رواية “الدكتور فاوست” لتوماس مان، والتي ينتقد فيها توماس مان الروح البروميثية التي سيطرت على الفن الألماني بل وعلى الشعب الألماني، وكيف انتهى به المطاف إلى السقوط في الفاشية.
المؤدب يحذر من القراءة الحرفية للقرآن، التي تخرس الأبعاد الأخرى للنص، وتتعامى عن حقيقة أنه نص مفتوح ومتعدد، لأن القراءة الحرفية هي أساس التطرف. فاختزال النص في تأويل محدد، يقود لا ريب إلى إعلان بعضهم امتلاكهم لحقيقة هذا النص، ورفضهم وتكفيرهم لكل الآراء والتقاليد والتأويلات الأخرى، وهو ما عاشه الإسلام ويعيشه اليوم، كما في الصراع الدائر بين السنة والشيعة، أو كما في الحملة الوهابية على التصوف. لكن الكاتب والمفكر التونسي، ينتقد من ناحية أخرى العقلية الغربية المتمركزة على ذاتها، والتي تظل دائما مستعدة لخيانة مبادئها الديمقراطية، إذا ما اصطدمت بمصالحها. وهو يضرب مثلا بالتحالف الأمريكي السعودي، وما جره هذا التحالف على المنطقة من خراب. كما يستشهد بعالم القانون الألماني كار ل شميث وانتقاده للديمقراطية الغربية، التي تتستر خلف ستار العالمية، في حين أنها لا تسمح للشعوب الأخرى بجني ثمارها. فلا وجود لعدالة وديمقراطية وفقا لشميث إلا داخل الدول الاستعمارية، أما الشعوب الخاضعة لها، فليس لها الحق في ذلك. إذ، كما يقول:”الشعوب المستعمرة مقصية سياسيا، مندمجة قانونيا ـ فقط ـ بالمركز المستعمر”.
ابن تيمية وابن رشد: إسلام ضد الإسلام
عمليات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية، العالم يستيقظ على خطر الإرهاب
العقل، الجسد، التسامح، تلك هي الأسس التي قام عليها ودافع عنها الخط التنويري في الثقافة الإسلامية، وهي لا ريب الأسس التي ستعمل الثقافة الأرثوذوكسية، بدءا بابن حنبل ومرورا بابن تيمية وانتهاء بجهاديي الشوارع المعاصرين على محاربتها، الحط من شأنها بل ومحاولة قبرها. وحين يتحدث المفكر التونسي عن التسامح في الإسلام، يعود أساسا إلى مدرستين: مدرسة ابن عربي الروحانية وابن رشد العقلانية. ابن رشد الذي دافع في “فصل المقال” عن ضرورة وشرعية التعلم من الآخر كيفما كان عرقه أو دينه، الاعتراف بفضله إذا أصاب والتسامح معه متى أخطأ. ولهذا يرى المؤدب بأن الحركات الإسلاموية المعاصرة أكبر خطر يتهدد الإسلام كحضارة وثقافة، لأنها تغفل عن عمد دور الثقافات الأخرى في إغناءها من جهة، وتتجنب عن قصد التيار العقلاني في الثقافة الإسلامية من جهة ثانية، وتحشر، انسجاما مع قراءتها الطهرانية المريضة، كل قراءة مغايرة في خانة البدعة، وذاك شأن ابن تيمية، زاد الأصولية الذي لا ينفذ، والذي كفر المتصوفة واعتبرهم أكثر خطرا على الإسلام من المسيحيين، لأن حلول اللاهوت في الناسوت لم يحدث إلا مرة واحدة في المسيحية، في حين أنه دائم الإمكان لدى المتصوفة.
رفض الآخر هو أحد أمراض الإسلام المعاصر أما المرض الثاني في نظر المؤدب، فيتمثل في رفض الجسد، وتحقيره والحط من قدره، وعدم الاعتناء به. فالجسد في الرؤية الأصولية التمامية عورة يجب سترها، هذا الجسد نفسه الذي احتفت به الثقافة الإسلامية في عصورها الذهبية، كما تحدث عن ذلك كتاب أوروبيون كبار من مثل ديدرو في “الحلي المفضوحة” أو فلوبير في “الرسائل” أو موباسان الذي أعاد بنفسه كتابة ترجمة “الروض العاطر” للشيخ النفزاوي، بل وحتى نيتشه في “ضد المسيح” الذي انتقد طهرانية المسيحية وكتب يقول عن قرطبة بعد طرد المسلمين منها:”هنا نحتقر الجسد والنظافة، فأول ما قام المسيحيون به بعد طرد العرب هو إغلاق الحمامات الشعبية التي وصل عددها في قرطبة فقط مائتين وستين”.
“ضد الخطب”: شهادات على العصر
مشهد من مدينة أغادير المغربية
يضم الكتاب الأخير لعبد الوهاب المؤدب أكثر من مائة مقال، تتناول قضايا الساعة في العالم العربي، من عبادة الشخصية في “الجملوكيات” العربية، إلى “الخوف من البحر” في الثقافة الإسلامية، مرورا بقمع المرأة، ورفض كل أشكال المثاقفة والحوار. في أحد أهم مقالات الكتاب “عن الشرق والغرب”، يتناول المؤدب الوضع الحالي في دول شمال إفريقيا، مدافعا عن فكرة أن هذه البلدان ظلت عبر تاريخها بلدانا مفتوحة على الثقافات الأخرى، تريد الأصولية المعاصرة أن تخرس هوياتها الأخرى وأن تجعلها تنطوي على هوية واحدة أو فهم ماضوي للهوية. المؤدب يرى أن دول المغرب شرقية وغربية في نفس الآن، فأحد كبار أباء الكنيسة أوغسطينوس جزائري ودول المغرب ساهمت في الحضارة الرومانية وكانت جزءا منها، كما أن الاستعمار عمق من تلك العلاقة، خصوصا أن اللغة الفرنسية، فتحت أعين بلدان المغرب على الحداثة. الأصولية المعاصرة لا تحاول فقط تجريم الأساس الغربي للهوية المغاربية ولكن تحاول الإجهاز أيضا على الإسلام المغاربي الذي يتناقض كليا والإيديولوجية الوهابية الرافضة لكل أشكال التعدد، حتى تحت سقف الدين الواحد.
المؤدب يخص بنقده أيضا في هذا الكتاب السياسة الأمريكية الراهنة، التي تحولت عن البراغماتية إلى الإيديولوجيا مع هيمنة المحافظين الجدد على آلية صنع السياسة الخارجية الأمريكية. هذه الإيديولوجيا التي تتستر في حديثها عن ضرورة تحرير شعب مثل العراق من الديكتاتورية خلف خطاب أخلاقي، متماهية في ذلك مع المشروع الكولونيالي السابق، الذي ظل أصحابه يعتقدون بضرورة تحضير الأعراق الأخرى. ومع ذلك فإن المؤدب لا يرى التدخل الأجنبي في العالم العربي شرا مطلقا، وهو يستشهد في هذا السياق بهيغل الذي رفع قبعته تحية لنابليون حين كان يعبر وجيوشه شوارع يينا، وكيف قادت حملة نابليون ألمانيا إلى التحرر من أغلالها الروحية والانفتاح على العصر، ضدا على كاتب مثل كلايست الذي دعا باسم الوطن والأمة وباسم قيمه البروسية إلى الانتفاض ضد نابليون. فهيغل اعتقد وعن حق بأن نابليون جاء إلى ألمانيا بأفكار وقوانين جديدة ضرورية لبناء دولة حديثة تماما كما يعتقد المؤرخون بأن حملة نابليون على مصر كان لها فعل الصدمة على الشرق، الصدمة التي أيقظته من سباته العميق.
رشيد بوطيب
حوار مع المفكر والأديب التونسي عبد الوهاب المؤدب
عبد الوهاب المؤدب والبحث عن بعد “إغريقي” للإسلام
يعد عبد الوهاب المؤدب واحدا من أهم المفكرين العرب المعاصرين. أثار كتابه “أوهام الإسلام السياسي” نقاشات حامية في العالم الإسلامي وكذلك أيضا في أوروبا. في الحوار التالي مع بيآت شتاوفر يتحدث المؤدب عن كتابه الصادر أخيرا باللغة الفرنسية.
كتابكم الجديد “الخطب المضادة”، الذي لم يصدر بعد بالعربية، يحتوي على 115 مقالا على مواضيع الساعة، مثل اعتداءات مدريد وحظر لبس الحجاب في فرنسا، وأيضا النظرة إلى روائع الأدب العالمي وكرم الضيافة، أو أيضا “الحرية البدنية”. لماذا أطلقتم هذا الإسم على كتابكم؟ هل أردتم بهذا خلق ثقل مضاد لظهور الخطباء المسلمين المتعصبين في التلفاز الذين ينالون اهتماما على المستوى العالمي؟
عبد الوهاب المؤدب: هذا ما أردته بالفعل. يهمني أن أبين احتمالية وجود إمكانيات لتناول عناصر من التقاليد الإسلامية. هذه العناصر قد تكون نوع من السم المضاد لسم الأصولية الدينية وتخضع لمبدأ الحياة ولا تخضع للخطباء الأصوليين ذوي الأرواح العابسة الساخطة على الحياة.
هل اخترتم لكتابكم الجديد قالبا سهلا يمكن أن يناسب جمهورا عريضا أكثر من كتاب “مرض الإسلام”؟
المؤدب: إنه قالب آخر في المقام الأول. كانت المقالات الأسبوعية التي كتبتها لراديوا ميدي 1 في طنجة والتي بُثت على مدى ثلاثة أعوام هي نقطة الإنطلاق لكتابي الجديد.
من الممكن أن يكون عنوان الكتاب “مرض الإسلام”(عنوان الطبعة الفرنسية للكتاب الصادر بالعربية تحت عنوان: أوهام الإسلام السياسي) وأيضا الأفكار المطروحة فيه إهانة لكثير من المسلمين. ألم يساوركم الشك أنكم بهذا الاختيار اللفظي المستفز قد لا تصلون إلى كثير من المسلمين؟
المؤدب: لا بد أن أقول أولا أنّ الكتاب قد تُرجم إلى ستة عشر لغة، من بينها العربية والتركية. إنني فكرت مليا في أن يظل عنوان الكتاب دون تغيير في الترجمة العربية. وأخيرا اخترت عنوان “أوهام الإسلام السياسي”. لقد قُرء الكتاب وربما ساعد بعض الناس على اتخاذ منهج حياتي جديد. إن ما يهمني أولا وأخيرا أن أنتقد ديانتي الإسلام بطريقة مشابهة لما فعله نيتشه في عصره مع المسيحية. كثير من الناس في عصرنا لا يعلمون بعد أن الإسلام في القرن التاسع والعاشر كانت فيه أصوات ناقدة، وكانت إلى حد ما أكثر راديكالية من نقاد اليوم.
قمتم في الكتابين المذكورين بالتصدي بقوة للإسلاميين بكل طبقاتهم. وفي نفس الوقت صوبتم الكلام إلى التقليديين مثل أساتذة جامعة الأزهر بالقاهرة.
المؤدب: إن أكبر مشكلة للإسلام تكمن في أن الأصولية تحاول نشر رسالتها في جميع الإتجاهات. إن الإسلام الرسمي الذي يعد آخر صورة للإسلام التقليدي يزداد اليوم تشبعه وتسممه بالأفكار الإسلاموية. وفي هذا كان الإسلام التقليدي منذ القرن التاسع عشر منشغلا بتطور شيق للغاية. وكان من الملاحظ وجود إرادة تتكيف مع ظروف العصر وتضع خططا مناسبة للتطوير. أما اليوم فطريقة التفكير هذه في طريقها للزوال، وحتى يمكن التصدي للأصولية وضع الإسلام التقليدي استراتيجية اعتنقت جزءا من الرسالة الإسلاموية وأصبح بهذا صَلبا ومتينا.
إن نقدكم الموجه إلى الإسلامويين – خاصة أولئك الذين ينطلق تأثيرهم من أوروبا – لاذع جدا…
المؤدب: هذا صحيح. إنني لدي نفور شديد من هذه المجموعات وما يعرضونه، وعندما أراها على أرض أوروبية أقول في نفسي: إنه نوع من الحرية في المجتمعات الديمقراطية. ولكني أحذر في نفس الوقت من تلك الحركات.
قد لا يستطيع بعض الأوروبيين والأوروبيات متابعة آرائكم. هؤلاء يرون أن لبس الحجاب أو حتى “النقاب” مسألة تعود إلى الحرية الشخصية. هل يجهل المعاصرون طبيعة الإسلامويين الحقيقية؟
المؤدب: لا أدري. يبدو لي أننا لا بد أن نكون حذرين بخصوص الثقافة التعددية. إنه لفي غاية الأهمية طبعا أن نتناول في أوروبا الثقافات والقيم الأخرى ونناقشها. إلا أن الثقافة التعددية ليست مكانا يتصرف فيه الفرد كيفما شاء. إنه لمن الخطأ أن تزول القيم الأساسية. ويجب علينا أن ننظر بدقة إلى معاني الأشياء. إن الحجاب ما هو إلا رمز. ولكن ماذا يعني هذا الرمز؟ فعندما يتعارض هذا الرمز مع قيمي الخاصة فما الداعي إذا لقبول هذا الرمز؟
لقد أبديتم انتقادكم بشدة تجاه طريقة اندماج المسلمين في أوروبا. هل يمكنكم ذكر ذلك بالتفصيل؟
المؤدب: يبدو لي أن الإسلامويين يمارسون استراتيجية تكمن في تفادي النظم القانونية الأوروبية. وفي نفس الوقت يحاولون دائما إدخال القانون الإسلامي في أوروبا. وهذا ما أعتبره من الخطورة بمكان لأن الأمر يتعلق هنا بنظامين لا ينسجمان مع بعضهما البعض على وجه الإطلاق. وإذا استمر هذا الوضع فسنصبح في موقف غاية في الصعوبة والاضطراب، الشيء السائد في العديد من البلاد الإسلامية.
إنكم تنصحون العالم الإسلامي بالاقتباس من أوروبا ومن منجزاتها التمدنية حتى يخرج من أزمته القوية.
المؤدب: هذا ما فعله كثير من المسلمين في الماضي ولا يزال البعض يقوم به حتى اليوم. لكن هذا التيار الفكري في العالم الإسلامي يبدو الآن كما لو كان في حالة دفاع. ولكني لا أعتقد أنه باء بالفشل، فالوضع يتعلق بالأحرى بحالة من التجاذب.
إن الأصولية والإستقامة الدينية تعني في نهاية الأمر بالنسبة لي البحث عن الأشياء الحقيقية، ومن ثَم رفض كل ما هو “غريب”. وإذا قمتم بإبعاد كل العناصر الغريبة التي تشكل المدنية الإسلامية فلن يبق منها إلا القليل، لأن جُل المدنية الإسلامية تعتمد على أخذ ونقل العناصر التي تأتي من الخارج. فبدون الإسهامات الفارسية والهندية والإغريقية لم يكن للمدنية الإسلامية وجود على الإطلاق. وهذا ما يمكن أن ينطبق على عصرنا الحالي. إن جميع الأصوليين – الذي يحلمون بما هو “حقيقي” ولا يريدون العناصر “الغريبة” وفوق كل ذلك يرون أنهم أقرب روحا من نبي المدينة – قد أخطأوا التفكير.
إن من ينظر بدقة إلى المسجدين الكبيرين في المدن الإسلامية المقدسة مكة والمدينة فسوف يلاحظ بكل سهولة أن كلا المسجدين مطابقين لمدينة “ديزني لاند” الترفيهية في “انعدام الجمال”. يعتبر الأصوليون اليوم أنفسهم معاصرين روحيا للنبي، مع أنهم في الحقيقة متأمركين دون أن يدروا، ووضعهم الروحي أسوأ ما يكون.
أجرى الحوار بيآت شتاوفر
ترجمة عبد اللطيف شعيب
حقوق الطبع قنطرة 2007
بيآت شتاوفر صحفي سويسري مختص في شؤون المغرب العربي.
“ضد الخطب”- في مواجهة قداسة”الثوابت”/ عبد الوهاب المؤدب
يرى الكاتب والمفكر التونسي عبد الوهاب المؤدب في كتابه “ضد الخطب” أن الهجوم على المحرمات هو مفتاح الإصلاح والسبيل للجمع بين الإيمان والحداثة وتخليص الإسلام المعاصر من تحجره الطفولي العنيد. لودفيج أمان يستعرض هذا الكتاب.
كان كتاب “مرض الإسلام” هو الذي أكسب عبد الوهاب المؤدب الشهرة فجأة، حيث وجّه فيه المؤدب نقداً لاذعاً للذهنية الإسلامية المعاصرة. المؤدب ينظر إلى انتشار الخطاب الإسلاموي المتزمت باعتباره المرحلة الأخيرة في تاريخ طويل من الانحطاط مستمر منذ عدة قرون. فبعد تشخيصه التاريخي لحالة الإسلام المعاصرة نشر المؤدب كتاباً صدرت حديثاً ترجمته الألمانية بعنوان “ضد الخطب”. هذه الخطب عبارة عن 115 مقالة إذاعية قصيرة ألقاها المفكر الفرنسي، التونسي الأصل، في الفترة من 2003 حتى 2006، حيث كان يعلق أسبوعياً في إذاعة “ميدي 1” في طنجة على الأحداث الثقافية أو السياسية. هذه التعليقات تتنوع بين موضوعات عديدة، من وفاة الفيلسوف الفرنسي، دريدا حتى الحرب على العراق.
هذه الخطب تتسم بنبرة تربوية تنويرية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. إنها مقالات ضد الإسلاموية الطهرانية التي تبحث عن الخلاص في التقوقع المُعادي للغرباء، والتي تدعو على كل القنوات إلى مكافحة ما تعتبره بدعاً “غير إسلامية”. على نقيض ذلك يجمع عبد الوهاب المؤدب، المفكر المغاربي والكوزموبوليتاني العريق، بين الثقافتين الشرقية والغربية، ويدعو إلى التعلم من الآخر، وخصوصاً إلى التعلم من إسلام آخر، أي من العصور الماضية التي عرفت تجديدات شجاعة أصبحت للأسف طي النسيان، وهي العصور التي كانت سبّاقة إلى إفراز مفهوم مبكر للإسلام الليبرالي؛ فهذا هو الطريق – كما يرى المؤدب – الذي سيسهل على مواطنيه في شمال إفريقيا الخروج من سجن الجهل الذي تسببوا فيه بأنفسهم.
احرقوا الحجاب!
على الغلاف الخلفي للكتاب نجد مثالاً مؤثراً ولافتاً للغاية: أول صورة في التاريخ للنبي محمد، رسمها وزير يهودي اعتنق الإسلام، وصدرت في كتاب تاريخي ألّفه بتكليف من أحد سلاطين المغول فور اعتناقه الإسلام حوالي عام 1300. يا لها من نعمة، عندما تحيل مثل هذه الصورة إلى محطات مهمة في التراث الإسلامي، وعندما تُفحِم هذه الإحالة حراسَ الأخلاق الوهابيين المؤدلجين الذين يودون إعادة عقارب الساعة إلى الوراء! بهذه الرغبة في الجدال يدافع المؤدب عن حق المرأة في إمامة المصلين، كما فعلت أمينة ودود في نيويورك مثيرةً صرخات الغضب في العالم الإسلامي، وهو يفعل ذلك مستنداً إلى آراء المفكر الصوفي الكبير ابن عربي الذي توفي عام 1240 والذي سمح بإمامة المرأة داعماً رأيه بحجج وجيهة.
المؤدب ينصح النساء بأن يحرقن الحجاب ببساطة، وأن ينظرن إلى التعاليم الأبوية للقرآن الخاصة بالعلاقة بين الجنسين باعتبارها متقادمة، فهذا هو السبيل الوحيد الذي يمكنهن من الجمع بين الإيمان والحداثة.
هذا كلام واضح، وهو في حقيقة الأمر الدواء الذي وصفه كمال أتاتورك لشعبه محققاً به بعض النجاح. ولا يخشى المؤدب، المفكر المتحرر بحق، ذكر ثمن الحرية المبتغاة. فهو ينطلق من حالة الممثلة الألمانية التركية الشابة زيبل كيكيلي – التي تعرضت إلى الهجوم بعد نجاحها في فيلم “الاصطدام بالجدار” وذلك بسبب تمثيلها قبل ذلك في أفلام إباحية – ليدافع عن حق الفرد في التصرف بجسده كما يحلو له، حتى إذا استخدمه في الدعارة. كما أن على الإسلام بطبيعة الحال أن يتعلم قبول ارتداد الجزائريين مثلاً أو المغاربة عن الإسلام تحت تأثير الوعاظ الإنجيليين، إذ ربما يخرج الإسلام من هذا الاختبار قوياً، يقول المؤدب، وذلك حين يستطيع المسلمون اختيار عقيدتهم بمحض إرادتهم.
القدرة النزيهة على إصدار الأحكام
ما هو موقع مصلح كهذا؟ بالتأكيد ليس في معسكر أولئك الذين ينصحون بالتخلص من الإسلام كليةً. كما أنه لا يقف بالطبع في معسكر المحافظين الذين يقومون بتعديلات هامشية هنا وهناك بغية الاقتراب من روح العصر. “ليس هناك ما يجمعني بطارق رمضان على الإطلاق”، يقول المؤدب في الخطبة رقم 84. غير أن هناك نقطة تقربه من خصمه. يقول المؤدب: “الهجوم على المحرمات هو مفتاح الإصلاح الذي يحتاج الإسلام إليه، المفتاح الذي لم يجرؤ العلماء حتى الآن على استخدامه.”
ولهذا فإنه – وعلى عكس الرأي العام الفرنسي – ينظر نظرة تقدير إلى جدوى ما يطالب به طارق رمضان من تعليق تنفيذ العقوبات الجسدية في الدول الإسلامية؛ لأن طارق رمضان – حفيد الإسلاموي حسن البنا، أحد رواد الإسلاموية – يمس بذلك ما لا يُمس، مثيراً غضب “الهيئات التي نخرها السوس في القاهرة”.
هذه القدرة النزيهة على إصدار الأحكام التي لا تتأثر بالتيارات الثقافية السائدة هي السمة الأساسية لنقد المؤدب البناء للإسلام، وهي التي تجعل مؤلفاته تتميز عن أطنان المقالات ذات النية الطيبة والفكر المعوج. ونحن إذا اقتبسنا أفكار المؤلف وطورناها فبإمكاننا أن نقول: قد يكون “الغرباء” بالفعل، أو بكلمة أدق: العقليات الخبيرة بأكثر من تراث، عقليات مثل المؤدب ورمضان، هي التي تستطيع تخليص الإسلام المعاصر من تحجره الطفولي العنيد.
ترجمة: سمير جريس
حقوق الطبع: قنطرة 2008
عبد الوهاب المؤدب: “بين أوروبا والإسلام. 115 خطبة مضادة”
هذه المقالة نشرت لأول مرة في صحيفة “نويه تسوريشر تسايتونغ” في 14 فبراير 2008
الفن تمرّد أو لا يكون/ عبد الوهاب المؤدب
ترجمة عبد السلام الككلي
نص للكاتب التونسي الراحل عبد الوهاب المؤدب نشر يوم 16 جوان 2011 بمجلة ليدرز يعود فيه إلى أحداث العبدلية ويقرؤها على ضوء الثقافة العربية والفن العالمي. يعطي حيزا للوحة التي أثارت غضب السلفيين ويبحث داخلها عن العمق الصوفي والانتساب الحميمي إلى أكثر المدارس تمردا في تاريخ الفن في القرن العشرين… نص عميق ومثير وإنساني يشيد بالكونية ويهبها أجمل الأماكن حين تريد البشاعة أن تستولي على كل شيء.
ازداد الوضع في تونس تّوتّرا، فالسّلفيّون يهجمون على عالم الفنون والثقافة. والسلطة الإسلاميّة الحاكمة والمعتدلة زعما لا تعطي الحق لا إلى الذين يزرعون الرّعب ولا إلى الفنّانين الذين يشبّهون بعناصر مستفزّة متطرّفة. وبذلك تظهر مرّة أخرى إستراتيجية حزب النّهضة الإسلاميّ الّذي يقود البلاد، فقد ترك هذا الحزب السّلفيّين يمارسون عدوانهم ليدين في نفس الحركة الاندفاعية المجرم والضّحيّة. بهذا يرجو النّهضويّون شلّ حركة القوى العلمانيّة والحداثيّة معتبرين وجودهم في المدينة شرا يبرر وجود مجانين الله ، فبعد الاعتداء على وسائل الإعلام (من خلال الفيلم الإيراني الّذي عرضته قناة نسمة) وبعد الهجوم على الفضاء الأكاديمي (لا سيما في كلّيّة الآداب والفنون بمنّوبة) جاء الدور على عالم الفنّ، وفي كلّ مرّة تكون الحجّة هي نفسها: لا يمكن للحرّيّة أن تُمَارَسَ إلاّ في حدود المقدّس. ولمّا لم نكن نعرف ما المقدّس ولا من أين يبدأ ولا حيث ينتهي فإنّ هذا الحصر يتحول إلى إعدام للحرية. فقد اقتحم السّلفيّون بعد تهديداتهم النهارية ليلة الأحد الماضي (10جوان) قصر العبدلّيّة الحفصيّ بالمرسى الّذي يحتضن عرض ربيع الفنون، دنسوا الأعمال الفنّيّة التي يعارضونها. مُزِّقَت حوالي عشر لوحات وخُرِّبَتْ. لقد بيّن السلفيون بوحشيتهم هذه بربريتهم وجهلهم. ولنأخذ مثالا على ذلك عملا عدُّوه تدنيسا للمقدس في حين أنه ينتمي أكثر من غيره إلى المقدّس كما نعرّفه نحن، الأمر يعني لوحة ترسم العبارة الطقسية“سبحان اللّه”، وهي عبارة جاهزة ينطق بها المسلمون في شكل تّعجّب لبيان إعجابهم أو رعبهم. موكب من النمل يرسم أحرف هذه العبارة. وقد واصل النّمل الصادر من الحرف الأول من الأبجدية والّذي به تبتدئ كلمة “اللّه” طريقَهُ حتّى يخترق رأس إنسان فيسلب دماغه ويجرده من مَلَكَة التمييز، وبهذا قد يكون الفنّان يرمز إلى عمليّة بتر الأنسجة العصبية الّتي تُنْتِجُ سَلَفْيًّا. بيد إنّ هذا العمل يجد مشروعية مزدوجة في المقدّس الفنّيّ كما في المقدّس الصّوفيّ. أولا إن الالتجاء إلى النّمل مشتقّ من استعمال سالفادور دالي له في لوحاته. إذ نرى عند هذا الفنّان السّرياليّ الكاتلاني العاملات السود وهن منهمكات في عملهن، على ملامس بيانو بيضاء. إنّ هذا الظهور الغريب يخلق صدمة الرّؤية التي تثير الانفعال. وقد اقتبس الفنّان التّونسيّ هذا العنصر المنتمي إلى ذاكرة الرّسم ليحيل على الوضع الّذي هو بصدد عيشه في بلاده، وانطلاقا من هذا الاقتراض الموجه فإنه يتصرف كفنان كسموبوليتي. وإنّ هذه المنزلة هي الّتي تصدم الإسلاميّ المتشبّث بهويّة مهووسة راضية باكتفاء ذاتيّ عقيم. ثمّ إنّ التّراث الإسلاميّ يعطينا مثالا لجسارة خيال خلاّق جريء يغير وجهة الصّيغة المقدّسة الّتي أعاد الفنّان التّونسيّ استعمالها. تخرج “سبحان الله” من فم البسطامي أحد شيوخ الصوفية الأوائل (المتوفّى سنة 842) وقد مورس عليها تعديل لتصبح “سبحاني”. فـ“سبحان الله” تصير “سبحاني” وهكذا يستولي ضمير المتكلم المفرد على عبارة يصرفها الطقس الديني مع ضمير الغائب وتجد هذه الحالة صيغتها النظرية في “الشطح”، وهو لفظ ينتمي إلى القاموس التقني الصوفي والذي وقع ترجمته بـ“المفارقة الموحى بها” صيغة للحب الإلهي“المسماة ناتجة عن النشوة”الفيض“ وهو تعبير من تعابير الحلول الناتجة عن حالة النشوة الصوفية وتعني اللفظة في الاستعمال اللغوي المشترك فضيان الوادي أو ذرات الحب التي تتناثر من الرحى ويعني هذا الكلام فيض السكر الذي يعرفه الإنسان عندما تستولي عليه النشوة ويحيط به المطلق من كل جانب.
ف”سبحاني“الّتي تحلّ محلّ”سبحان اللّه“تحوّل ملفوظا (وهو معطى متّفق عليه) إلى عمليّة تلفّظ مفعمة بذاتيّة متمردة وهي تعبّر عن الطّاقة الإنشائيّة الّتي يضفي عليها التّصوّف بعدا دراميّا عندما يتحدّث الإله من خلال الصوفي. إنّ نقل اللّه إلى ضمير المتكلّم المفرد قد وقع التأمل فيه منذ ألف سنة. وقد عكفت كتابات ضخمة سواء باللسان العربي او الفارسي على هذا التمرد لتلائم بينه وبين المدونة الرسمية والعقيدة. وإنّ هذا الاعتراف يصادق على شكل من الأشكال المتمردة في إطار العقيدة الإسلاميّة. لكنّنا نعلم أنّ الإسلاميّين يكرهون هذا النّوع من المقدّس ويحاربونه، وما تبقّى منه في التصوف الشعبي وتقديس الأولياء الصالحين –وقد أذكاه فنّان معاصر- شنّع به السّلفيّون الذين شرعوا في تهديم أضرحة الأولياء حيث تمسرح عمليات الشطح الصوفي. وإن وجهة النّظر الإسلاميّة الّتي تحرّم الصّورة هي في الواقع مبنيّة على نفي التّراث والحضارة الإسلاميّين نفسيهما. فالعمل الّذي يعارضه السّلفيّون والّذي يماثلون بينه وبين الحرام وانتهاك حرمة المقدس والكفر والجحود في منطق السلفيين الجهلة يجب أن يطرد من المدينة. لكنّ هذا العمل يكتسب شرعيّته المقدّسة المزدوجة من خلال دالي بفضل شرف الصّورة ومن خلال البسطامي باعتباره معطى حضاريّا أكثر تفتّحا وأشدّ مفارقة وتعقيدا ممّا يتحمّله السّلفيّون والإسلاميّون، وهذه الشّرعيّة المزدوجة تشرّف قداسة العقل المرفوضة من قبل الرقابة الإسلامية . وينبغي أن نقرّ بأنّ الفنّ والشّعر كليهما هدّام أو لا يكون وأنّ الفنّان التّونسيّ الشّابّ ظلّ بعيدا عن الهدم إذا ما قارنّاه بالشّاعر الآتي من التّراث الإسلاميّ (البسطامي) أو بالرّسّام المنتمي إلى إحدى الثّورات الفنّيّة الّتي شهدها الغرب في القرن العشرين.
أكتب هذا النّصّ أثناء إقامتي في برلين. بيد أن التّاريخ الألماني يقدّم مشاهد قادرة على إضاءة الأحداث في تونس، فإسلاميّو النّهضة يدعون الانتساب إلى ديمقراطيّة إسلاميّة قياسا على الدّيمقراطيّة المسيحيّة كما يتصورها مثلا الحزب الديمقراطي المسيحي الّذي قادته أنجيلا ميركل، لكنّ الدّيمقراطيّين المسيحيّين لا يتدخّلون قطّ لا في الإبداع الفنّيّ ولا في أخلاق الناس، فمفهوم الحرّيّة لديهم لا يحدّه المقدّس، فبرلين تستقبل حوالي عشرين مليون فنّان من العالم بأسره يعيشون في الحرّيّة المطلقة ويبدعون بها دون أدنى مقتضى أخلاقيّ. وعلى الإسلاميّين وحلفائهم الّذين يستدعون أنموذج الدّيمقراطيّين المسيحيّين أن يعلموا أنّ هؤلاء إنّما يتصرّفون وفق ذاكرة شكّلها تعليم فلسفة الأنوار الكانطي الكونيّ الّذي أوّل مبادئه حرية الفرد اللامشروطة.
وبالإضافة إلى ذلكّ فقد التقيت في برلين بمسؤول عن مؤسّسة قريبة من الحكومة تخصّصت في الانتقال الدّيمقراطي. لقد حقّق اندماج ألمانيا الشّيوعيّة في الدّولة الفدراليّة خبرة لهذه المؤسّسة في حقل المرور من الكليانيّة إلى اللّيبراليّة ومن الحزب الواحد إلى التّعدّديّة، ومن الدّيكتاتوريّة إلى الدّيمقراطيّة. وقد تجندت هذه المؤسّسة لخدمة الثّورة التّونسيّة منذ فرار الطّاغية في الرّابع عشر من جانفي2011، وكان المسؤولون عنها مستعدّين للاستثمار حتّى يسهموا في إنجاح المرحلة الانتقاليّة. ولكن الخبير المعني عبر لي عن مخاوف مؤسّسته أمام مخاطبيه النّهضويّين الّذين يحكمون تونس، إذ أنّ هؤلاء لا يشعرون أنّهم معنيّون إلاّ بالجزء من البرنامج الّذي يمحو بقايا النّظام البائد. ولكنهم يبدون محترزين عندما يعني الامر وضع برنامج يمنع أيّ عودة إلى الدّيكتاتوريّة لكأنّهم يتركون هذه الإمكانيّة مفتوحة لأنفسهم؟ وأمام هذا الغموض الّذي يترك مكانا للرّيبة يظهر القياس الألمانيّ الثّاني، ذاك الّذي يحيي ذكرى القومية الاشتراكية المشؤومة. لقد وصل هذا الحزب إلى السّلطة ليفرض في ما بعد رؤيته الكليانيّة. بدأت النشأة التي لاتقاوم للدّيكتاتوريّة بالهجوم على الثّقافة والاعتداء على الفنون. ولنعد إلى عام 1933، فبعد انتصارهم في الانتخابات، أخذ النّازيّون يطهّرون الثّقافة والفنون قبل أن تهيمن لدى شعب بأسره إيديولوجيّتهم المدمرة. وفي 10ماي 1933، في ساحة الأوبرا ببرلين أُحْرِقَ 20.000 كتاب اعتبرت غير ألمانية أو ضد ألمانية . وبسرعة أصبحت برلين المضيافة للعقل خانقة.
وقبل أسابيع من ذلك وأثناء عرض مسرحيّة شالجتر الّتي كتبها جوست، يوم20 أفريل للاحتفال بعيد ميلاد الفهرر قالت إحدى الشخوص”عندما أسمع كلمة “ثقافة” أتحسس مسدّسي“وهو الشعار الذي طبقه النازيون. وإنّي في هذا الظرف التعيس الّذي تحياه تونس وقد سلّمت للمتطرّفين أتذكّر جملة أخرى للشّاعر الألمانيّ المنتمي إلى العصر الرّومنطيقيّ هينريك هان الّذي كتب”هنا حيث تُحرق الكتب سينتهي الأمر بأن يُحرق البشر.” لقد اثبت التاريخ باستمرار وللأسف حدس هاين . ففي غليان المساجد التي تسودها الفتنة تنتشر فتاوى تهدر دم الفنّانين الّذين عرضوا أعمالهم في المرسى،وهكذا يجعلون دمهم مباحا لكل مرشح لارتكاب جريمة.
ومن البديهي أن هؤلاء المتعصبين الذين يشعلون البلد ويغرقونه في الدم سيعتبرون هذا النص (إذا اطلعوا عليه) في حكم المعدوم سواء في إحالاته أو في تفاصيله وحيثياته أو في أفقه الفكري. إن هذا النص يعطي أفضل مكان لما هو كوني ذاك الذي يسكنه حسب نظرهم الصليبيون (دالي، كانت) والجاحدون الكفرة (البسطامي) وسيضيف كاتب هذا النص اسمه أيضا في قائمة المغضوب عليهم ولكن مهما يكن الثمن فإننا إلى هذا الكوني نعلن انتسابنا لمقاومة التوحش.
موقع الآوان
صفحات سورية ليست مسؤولة عن هذا الملف، وليست الجهة التي قامت برفعه، اننا فقط نوفر معلومات لمتصفحي موقعنا حول أفضل الكتب الموجودة على الأنترنت
كتب عربية، روايات عربية، تنزيل كتب، تحميل كتب، تحميل كتب عربية،