صفحات الثقافة

كتاب الدولة والدين، نقد السياسة لبرهان غليون

 


كلٌّ في مكانه الطبيعي والحقيقي

يحتل النقاش حول الدولة والدين موقعا مركزيا في الفكر السياسي العربي والاسلامي، وهو نقاش قديم جديد ومتواصل. عرفت المجتمعات الغربية هذا السجال في ظل النزاع على السلطة، بين المؤسسات السياسية والدينية، واتخذ السجال طابعا عنفيا تسبب في حروب اهلية ومجازر بين الطوائف المتناحرة، الى ان حُسم الامر لصالح الفصل بين الدولة والدين في معظم المجتمعات الغربية. يسود نقاش منذ عقود حول استعادة الدولة الدينية في العالمين العربي والاسلامي، خصوصا بعد قيام الدولة الاسلامية في ايران، وازدهار الحركات الاصولية في العالم العربي الداعية الى استرجاع دولة الخلفاء الراشدين وتحكيم الدين في السياسة واخضاع قوانين الدولة الى الشريعة الاسلامية. لم ينقطع السجال في هذا المجال، بل ان الكتابات تتوالى بين مؤيد لهيمنة الدين على السياسة ودعاة فصل الدين عن الدولة واعتماد العلمانية والقوانين الموضوعية في التشريع. يشكل كتاب برهان غليون، “الدولة والدين، نقد السياسة” الصادر عن “المؤسسة العربية للدراسات والنشر”، محاولة جادة في هذا المجال، حيث يرصد مسار الثورة الدينية، في مفاهيمها النظرية وتطبيقاتها العملية، ويتوقف امام تكوّن الدين الاسلامي وما تبعه من فتوحات، وارتباط ذلك بمفاهيم معينة حول السلطة والسياسة والدين، سواء في عهد النبوة او في المراحل اللاحقة لوفاة الرسول، من بينها خصوصا مسألة الخلافة والصراع حولها والمفاهيم التي ترتبت على هذا الصراع والانقسامات التي واكبته. اضافة الى ميلاد الدولة العربية الاسلامية ودخول الدين الاسلامي عنصرا فاعلا في هذه الدولة، ليس من قبيل قيام دولة دينية بمقدار هيمنة السياسة على الدين وتوظيفه في خدمة السلطان وتبرير قراراته.

يمكن تسجيل مرحلتين عرفهما العالم العربي والاسلامي في القرن العشرين تناولا مسألة الدولة والدين. الاولى تبعت انهيار السلطنة العثمانية في العشرينات من القرن الماضي، والتي كان إلغاء الخلافة الاسلامية ابرز تجلياتها، وهو حدث يرى فيه كثيرون هزيمة كبرى اصابت الدولة الاسلامية وموقع المسلمين في التاريخ العالمي. لا يزال إلغاء الخلافة مصدر هجوم عنيف من الحركات الاسلامية التي عادت لتطرح عودة الخلافة او استعادتها في وصفها شعارا مركزيا في عملها السياسي. فاقم السجال ما طرحه في مصر الشيخ علي عبد الرازق الذي اصدر كتابا بعنوان “الاسلام واصول الحكم” فنّد فيه مقولة ان الاسلام دولة ونفى عنه هذه الصفة، كما نفى وجود شيء اسمه الخلافة في الاسلام. اثار الكتاب زوبعة كبيرة بين مؤيد لأطروحات عبد الرازق ومهاجم لها واتهام الشيخ بالارتداد عن الاسلام وصولا الى إلغاء موقعه كعالم من علماء الازهر.

شكل صعود المشروع القومي العربي المستند الى ايديولوجيا القومية العربية انحسارا في الدعوة الى استعادة الخلافة، بل شهدت تلك الفترة قيام دول يغلب عليها الطابع العلماني في تشريعاتها. وضعت التطورات السياسية الحركات الاسلامية المنادية بالدولة الاسلامية في مكان ضيق، وخصوصا منها الحركة الام، اي الاخوان المسلمون، الذين ساهمت مواقفهم السياسية الممالئة للاستعمار والمناهضة للقوى التقدمية الصاعدة آنذاك، في جعل تأثير هذه الحركات ضعيفا. لكن منذ سبعينات القرن الماضي حتى الزمن الراهن، عاد السجال يتجدد ليتخذ حجما مركزيا في معظم البلدان العربية، ويرتفع شعار “الاسلام هو الحل” بشكل واسع. ارتبطت هذ العودة بمجمل الهزائم التي مُني بها المشروع القومي العربي سواء امام العدو القومي الاستعماري الغربي او الصهيوني، ام في الداخل العربي، حيث فشلت الانظمة في حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية لشعوب هذه الدول، فسيطر الفقر والبطالة والامية والتهميش لأجيال الشباب على هذه المجتمعات، ولم يعد في امكان السلطات الحاكمة تغطية هذا الفشل عبر التقديمات، بل استخدمت شتى انواع القهر والقمع والاستبداد في كبح المطالبات بالحق بالخبز والحرية والديموقراطية. لذا تقدمت الحركات الاصولية على حصان هذا الفشل والفراغ لتقدم نفسها خلاصا وحلا لهذه المعضلات، انطلاقا من شعاراتها السياسية الداعية الى دول اسلامية تنقذ هذه المجتمعات من تخلفها.

قد تكون من المرات القليلة في التاريخ العربي والاسلامي يختلط فيها نقاش السياسة والدين، واعلان الحركات الاسلامية برامجها في الوصول الى السلطة واستخدام الوسائل المتعددة في ذلك، سواء عبر العنف المسلح او عبر الديموقراطية. يقول غليون في هذا الصدد: “ان المسألة الدينية وما يرتبط بها اليوم من نزاعات عقائدية واجتماعية تشكل جزءا لا يتجزأ من المسألة السياسية عامة. من المستحيل فهم عالم السياسة العربي بدون طرح ازمة الوعي الديني الراهنة في المجتمعات العربية والاسلامية. كذلك من المستحيل فهم ما يجري على ساحة الوعي الاسلامي بدون فهم مفاهيم السياسة والدولة ومعانيهما في الفكر العربي الحديث، والطريقة التي نظر بها الى الدولة ومورست بها الفكرة والسياسة القومية والعلمانية”.

ان المعضلة الكبرى لدى الحركات الاسلامية اليوم تكمن في رفض النظر الى الاسلام كتجربة وخبرة جماعية وفردية كما تطوّر عبر التاريخ منذ ولادته حتى اليوم، وبالتالي الكشف عن جوهره الروحي والانساني والاخلاقي الذي يشكل الاساس في ولادة الدين، ورفض النظر ايضا الى الازمات الداخلية لهذا الاسلام كما يجري التعبير عنها في الواقع الفعلي من خلال الصراعات والانقسامات التي رافقته عبر توظيفه في الصراعات السياسية والاجتماعية على امتداد تاريخه منذ زمن الخلفاء الراشدين حتى عصرنا الراهن.

يشير غليون الى ما يراه اشكالية الدين والدولة في المجتمع العربي، وانها تتمحور حول قضيتين مركزيتين، “الاولى تتعلق بالصراع التاريخي لإعادة تأسيس توازنات مستقرة للسلطة والسياسة، بما في ذلك العقيدة الاجتماعية، وما تتطلبه من التوصل الى اتفاق واسع حول غايات الاجتماع المدني نفسه، واهداف السياسة، ووسائل ممارسة السلطة وطبيعتها. والثانية تتعلق بالصراع داخل الاسلام كدين، على اعادة تنظيم السلطة الروحية، اي تحديد المعاني والمفاهيم الدينية، من اجل استيعاب التطور العميق الذي حصل داخل الوعي الديني وتوفير الاطر الفكرية والنظرية والاجتماعية التي تساعده في معرفة نفسه وتحقيق ذاته بشكل طبيعي”.

يقدم كتاب غليون مساهمة في هذا السجال المفترض تواصله حول موقع الدين في المجتمع والحياة الانسانية والاخلاقية، وبين موقع الدولة الناظمة للحياة السياسية والاجتماعية، انطلاقا من تأكيد ضرورة الفصل بينهما بما يضع كلاً من الدين والدولة في موقعه الطبيعي والحقيقي.

 

خالد غزال

النهار

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى