كتب ألكترونية

كتاب “الصراع على سوريا” باتريك سيل

مقالات تناولت رحيل الكاتب باتريك سيل

ما يبقى من باتريك سيل؟/ وائل السوّاح
تعلّم جيل كامل من السوريين، وبينهم كاتب هذه السطور، عن بلاده من باتريك سيل في كتابه “الصراع على سوريا”، المنشور عام 1965. الكتاب كان من أوائل الكتب التي نشرت عن سوريا واعتبر من الكلاسيكيات الأدبية التي نشرت عن سوريا بين عامي 1945 و1958، سنة الوحدة بين سوريا ومصر. وقد تحدّث سيل بلغة تحليلية محايدة عن تلك المرحلة المتأجّجة من تاريخ سوريا، مركّزاً على الصراع بين محاور متعدّدة في المنطقة كانت تريد أن تأخذ سوريا باتجاه إما حلف بغداد أو المحور المصري- السعودي. وبيّن الرجل دور شخصيات وطنية سورية لعبت دوراً في حماية استقلال البلاد مثل خالد العظم وفارس الخوري.
ولكن الرجل لا يعرّف اليوم من خلال كتابه الرئيس ذاك، بل أكثر من خلال كتابه الآخر “أسد سوريا: الصراع على الشرق الأوسط” المنشور عام 1988 وبسلسلة من المقالات التي كان ينشرها في “الحياة” و”الغارديان” وغيرهما، وكان فيها مدافعاً عن سياسة الرئيس حافظ الأسد وابنه من بعده، وعمل بدأب يُحسب له على تلميع صورة الرجلين. يتّفق معظم نقّاد سيل على أن الكتاب الثاني لا يتمتّع بنفس الحيادية التي وُصِف بها كتابه الأول، ولا بمثل الموضوعية.
ولد سيل في بلفاست بإرلندا الشمالية، وأمضى طفولته ومراهقته في سوريا، برفقة أبيه الذي كان عضواً في إحدى البعثات التبشيرية في سوريا. وسرعان ما فُتِن الفتى بسوريا، فعاد إليها مراراً وتزوّج بسيدة سورية مرموقة هي رنا القباني، التي انفصلت لاحقاً عنه، وانتقدت أكثر من مرّة مواقفه السياسية تجاه سوريا.
ومن المؤكّد أنّ سيل كان مقرّباً من الرئيس حافظ الأسد ومن أسرته عموماً. ويعتبَر كتابه نوعاً من المذكرات الشخصية غير الرسمية للأسد الأب. ومن المؤكّد أيضاً أن الرجل استطاع أن يقابل الأسد الأب ويعيش مع عائلته شهوراً طويلة أثناء تأليفه للكتاب، وهو ما لم يحصل عليه أيّ باحث أو صحافي آخر. وكانت النتيجة رسم صورة إيجابية للديكتاتور الذي أباد نحو خمسين ألفاً من مواطنيه، واعتقل وعذّب وأخفى قسرياً مئات الألوف من دون محاكمة ولا ذنب.
ولكن القصّة لا تتوقف عند الكتاب المخصّص للأب، فسيل، من خلال مقالاته ومحاضراته كرّس جزءاً كبيراً من وقته للدفاع عن الأسد الإبن. وهو تشارك مع مواطنه الصحافي روبرت فيسك والأكاديمي الأمريكي جوشوا لانديس تقديمَ خدمات للرئيس بشار الأسد ونظام حكمه الذي قتل حتى اليوم أكثر من 150 ألف شخص واعتقل أضعافهم وشرّد أربعة ملايين من السوريين خارج أوطانهم وبيوتهم، ودمّر البنية التحتية والاقتصاد والبنية المجتمعية والأخلاقية لسوريا.
ويتقاسم سيل والرئيس الأسد العداء للمعارضة السورية التي تسعى إلى مرحلة انتقالية تنتقل بالبلاد إلى نظام ديمقراطي ومصالحة مجتمعية وعدالة انتقالية، كما يشاركه إعجابه ببعض أطراف المعارضة “الوطنية” التي يتزعّمها السيد هيثم منّاع، الذي يصفه سيل بالناشط “العريق” في مجال حقوق الإنسان، ويشيد بإدارته للمعارضة الشبيهة.
ولا يقتصر الأمر على سوريا أثناء الثورة، ففي عام 2005، نشر سيل مقالة في “الغارديان” اللندنية برّأ فيها نظامَ الأسد من جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري.
ولكنّ أداء سيل غير الموضوعي تجاوز عائلة الأسد، فكتابه عن رئيس الوزراء الأسبق رياض الصلح، “رياض الصلح والنضال من أجل الاستقلال العربي”، ووجّه بانتقادات كثيرة بسبب عدم دقة المعلومات الواردة فيه، وكذلك لا يمكن الركون إلى كتابه عن الأمير خالد بن سلطان باعتباره مرجعاً موثوقاً به.
ولكن الرجل يتمتع بثقافة واسعة وذائقة فنيّة وسحر شخصي وحسّ عال بالدعابة كانت تلزمه غالباً عندما كان يردّ على منتقديه.
اليوم، باتريك سيل في مكان آخر. ولن يعود بمستطاعه أن يلمّع صورة أي ديكتاتور في هذا الجزء من العالم أو في غيره. ولكنّ السؤال الذي يلحّ: ما الذي يبقى منه؟ سيبقى أنه دافع عن الديكتاتور وعائلته، واستفاد من ذلك مباشرة. ولكن سيبقى أيضاً كتابه الرائد “الصراع على سوريا”. سيبقى شغفه بالفنّ وتعلّقه بدايفد هيكني وهنري مور. ستبقى أيضاً ابتسامته الرائقة عندما كان يتحدث إليك ببعض المودّة. وسيبقى ما قال فيه حازم صاغية: “باتريك سيل غادرنا. صاحب “الصراع على سوريا” علّمنا الكثير. فضله لا يُنكر. لكنّه أيضاً صاحب “الأسد”، الكتاب الذي كان يمكن تفاديه. لولا هذا الكتاب لكان حزننا أكبر على باتريك سيل”.
المدن

 

باتريك سيل.. كما عرفته/ إياد أبو شقرا
في الأعمّ الأغلب يصعب حتى على الصحافيين الكبار الجمع بين البحث الأكاديمي الموضوعي.. والحس الصحافي اللمّاح.
الاستثناءات موجودة، لكن بصفة عامة أن يتغلب هذا على ذاك، أو العكس. وفي الإعلام العالمي بلغ كثيرون مرتبة «المرجعية» في قضايا تتعلق بتخصّص فرّغوا له نصيباً كبيراً من رحلة عمرهم. وبعضهم حصل على درجات أكاديمية رفيعة من دون أن يخطر ببالهم الإشارة إليها ولو تلميحاً في سيرهم الذاتية. ومن هؤلاء باتريك سيل، الكاتب والمؤرخ والإعلامي الموسوعي، الذي توفي قبل بضعة أيام عن عمر ناهز الثالثة والثمانين.
التقيت بباتريك سيل لأول مرة في أواخر عام 1982، وكنت حريصاً على اللقاء أمام خلفية الاجتياح الإسرائيلي للبنان، إذ كان يهمني كثيراً أن أتعرّف بأولئك الكتاب المتخصصين بشؤون الشرق الأوسط في كبريات الصحف البريطانية لأتعلم منهم، وأنقل إليهم صورة ما يحدث وتداعياته من شخص تسكنه المنطقة وإن كان قد غادرها جسدياً. وكان بين من عرفت عن كثب باتريك سيل… والصديق إدوارد مورتيمر، الذي كان في تلك الفترة مُشرفاً على شؤون الشرق الأوسط في صحيفة «التايمز» ما قبل عصر رووبرت مردوخ، وكان مراسلها في بيروت حينذاك روبرت فيسك. ولقد استمرت الصداقة مع إدوارد حتى بعد مغادرته «التايمز» إلى «الفايننشيال تايمز»، ثم انتقاله إلى الأمم المتحدة مستشاراً إعلامياً لكوفي أنان إبان تولي الأخير الأمانة العامة. أما علاقة الود مع باتريك سيل فاستمرت.. ولكن من دون أن تتحوّل إلى صداقة وثيقة، وهذا مع أننا بقينا نلتقي في المناسبات ونتبادل الأحاديث السريعة.
كان اللقاء الأول في أحد المطاعم اللبنانية في لندن. ومنذ اللحظة الأولى أخذ بلباقته وروحه المرحة «يستنطقني»، مهتماً بالإحاطة بخلفيتي الشخصية الدينية والمذهبية والمحلية لكي تتكامل لديه الصورة عن محدّثه، كيف لا وهو الذي فهم «على الطبيعة» تكامل هوية الإنسان المشرقي وتعقيداتها وتداخل دوائرها، والذي عاش في بيروت وتنقّل في لبنان وسوريا لسنين… فبات من «أهل البيت» كما يقال.
من ذلك اللقاء اكتشفت سيل الإنسان اللطيف والذكي المثقف، وأعجبني اسما ولديه… أورلاندو ودليلة. وبعد عشاء طويل ناقشنا خلاله أحداث المنطقة معرّجين على جوانب من تاريخها، أوصلته بسيارتي إلى بيته في شارع موتكوم ستريت، عند الحد الفاصل بين حيي بلغرافيا ونايتسبريدج الراقيين، قرب فندق الكارلتون تاور. وكنت قد علمت منه أن مسكنه جزء من «الغاليري» الذي يملكه للصوَر والتحف الفنية، وكان خبيراً فيها وفي تجارتها. ولاحقاً علمت أنه كان وكيلاً لفنانين وأدباء بينهم الموسيقار النابغة يهودي مينوهين.
قبل 1982 كنت متشوّقاً إلى التعرف إلى ذلك الرجل الذي كتب أحد أمتع كتابين قرأتهما عن سوريا، لتاريخه، وهما «مذكرات خالد العظم» وكتابه القيّم «الصراع على سوريا» (The Struggle for Syria) – المنشور عام 1965 – الذي كنت قد قرأته بنهم إبان دراستي في الجامعة.
من ناحية ثانية، لفرط موسوعية سيل وإلمامه المدهش بشؤون الشرق الأدنى، وخصوصاً سوريا ولبنان، أحيطت شخصيته عندي قبل أن التقيه بهالة من الشائعات والغموض.
يومها كنا صحافيين شباناً طارئين على المشهد الإعلامي البريطاني الرّحب والعميق. وكانت «نظرية المؤامرة» راسخة في أذهاننا… أليس كل مستشرق «مشروع مؤامرة تجسّس» ما لم يكن جاسوساً بالمطلق؟! على الأقل هذا ما سمعته في بداية مشواري الصحافي عن ديفيد هيرست مراسل «الغارديان» في بيروت، إذ نبّهني صحافي لبناني مخضرم قائلاً: «لا تُعجب كثيرا بأمثاله.. فكلّهم في النهاية جواسيس (!)»..
في ما يخصّ باتريك سيل لم يقف «الغموض» عند هذا الحد، إذ تناهى إلى سمعي ذات يوم أنه «يهودي»… وما أدراك معنى أن يكون يهودياً ذلك الكاتب الخبير في شؤون بلادنا الذي يؤثر في الرأي العام وتصغي لما يقوله الحكومات.
ثم سمعت أن أمه «علوية» في محاولة لتفسير تعاطفه الشديد مع البعث بشقه «الأقلياتي» الذي حكم سوريا – ولو من وراء الستار – منذ 1963 في أعقاب سقوط حقبة لؤي الأتاسي التي أنهت حكم «الانفصال» وما يسمى بمجموعة «الضباط الشوام».
في حقيقة الأمر، وهذا هو الجانب المهم، أن سيل سيظل يُذكر كظاهرة إعلامية وبحثية وثّقت المشرق العربي وأحبته وفهمته – أحيانا أكثر من الكثير من مثقفيه – بغض النظر عن مواقفه الحذرة والمشكّكة، وآرائه الملتبسة عموماً، بعد الانتفاضة السورية عام 2011، ومن دون التوقّف طويلاً عند بعض السيَر الشخصية التي كتبها في أواخر سنوات عمره، والتي أزعم أنها لم تضف إلى رصيده الشيء الكثير.
* آراء ومواقف من سيل
* «… كتب باتريك سيل، الكاتب البريطاني المهتم بقصة سوريا وحكم عائلة الأسد، يوم الجمعة الماضي، في صحيفة «الحياة»، مقالا تناول فيه الملف السوري الملتهب، وشرح، حسب رؤيته التحديات التي تواجه المتصارعين على سوريا، من روسيا إلى أميركا والاتحاد الأوروبي، طبعا هو أبدى موقفا نقديا «لتأخر» الرئيس بشار الأسد في الإصلاحات والاعتماد على الحل الأمني فقط، وهو بالمناسبة موقف تجاوزته أحداث الثورة السورية، ولم يعد يصنّف على أنه موقف معارض للنظام الأسدي، لكن هكذا خيل لباتريك سيل أنه بهذا الموقف قد احتفظ لنفسه بموقع حيادي، كما خيل لكثير من اليسار والقوميين العرب، وبقايا الحزب القومي السوري الاجتماعي، ممن أحرجهم بطش وتوحش نظام الأسد، لكنهم لا يريدون رحيله ولا نجاح الثورة ضده، فاتخذوا مثل هذه المواقف المائعة.
هو كلام منخرط في نسيج خطاب لافروف وعلي أكبر صالحي وحسن نصر الله، وربما ثلة من القوميين وقليل من اليساريين والإسلاميين، حلفاء الأمس «الممانع» مع بشار وخامنئي. أناس مثل باتريك سيل وبعض مراكز الأبحاث حتى في أميركا، هم جزء من النسيج النفسي الداعم لمخاوف الغرب القديمة من يقظة قوة ما في هذا المشرق، تجدد ذكريات التاريخ القريب والبعيد ….».
(مشاري الذايدي: «الشرق الأوسط» – الثلاثـاء 31 يونيو/ حزيران 2012 )
«.. منتقدوه (أي باتريك سيل) أخذوا عليه أن قربه من نظام حافظ الأسد جعله منه محامياً له. ربما، ولكن سيل لم يكن غبياً. كان يعرف أن قلب نظام الأسد من رصاص غير أنه استطاع الاستفادة من منفذه إليه…
… (وبعد الانتفاضة السورية) من يستحق اللوم غير بشار نفسه على خطيئته الشنيعة. وكما يعرف سيل، الذي غطى أخبار منطقة ألفت تصرفات من هذا النوع، إن الطغاة يتصرفون بحمق لأن لا أحد يردعهم. بعد مسيرة غطى طوالها الشرق الأوسط، يستحق سيل أن نتذكره بأشياء اكثر من زلاته…».
(مايكل يونغ: «الديلي ستار» اللبنانية – 3 أبريل (نيسان) 2014)
*«…(باتريك سيل) كتب بعاطفة صادقة عام 2012 بأن السبيل الوحيد لمنع حرب اهلية شاملة في سوريا سوريا، يتوقع أن تدمّرها على غرار ما حدث في العراق وتقضي على استقلال المشرق العربي بأسره، يتمثل بمفاوضات تحت رعاية الأمم المتحدة بين الثوار والحكومة. سيل أيد إنهاء (عسكرة) الأزمة وممارسة أقصى الضغوط على الجانبين للدخول في مفاوضات، وانحى باللائمة على قوى خارجية في دعم الثوار برفضها السماح بالتفاوض، وإفشالها مهمة كوفي انان المكوكية الهادفة لإنقاذ البلاد. لقد تثبتت الحرب الهلية على أرض سوريا منذ كتب (سيل) تلك الكلمات. لقد كان سيل على حق».
(فرانسيس ماثيو: «الغلف نيوز» الإماراتية – 12 أبريل/ نيسان 2014)
*«عمل باتريك سيل مراسلاً صحافياً وأجرى مقابلات مع أبرز القادة والشخصيات في الشرق الأوسط، ولم تغب القضية الفلسطينية عن مقالاته، إذ عدّها حجر الزاوية بالنسبة إلى الكرامة والهوية العربية، مشيراً إلى أن الدول العربية الثرية عجزت عن استخدام تأثيرها في الولايات المتحدة وأوروبا للمطالبة بالعدالة للفلسطينيين، كما رأى أن حل الدولتين أصبح ساقطاً عملياً. أبرز مواقفه الأخيرة يتجلى في قوله: إن الكيان (الإسرائيلي) يسعى للسيطرة العسكرية على المنطقة، ويضغط على الولايات المتحدة من أجل إسقاط محور المقاومة مؤكداً أنه لا يمكن فصل ما يجري في سورية عن التطورات في المنطقة».
(موقع صحيفة «تشرين» السورية، ووكالة «سانا» السورية الحكومية للأنباء، وقناة «الميادين» التلفزيونية المؤيدة لدمشق)
* «باتريك سيل يلمح إلى أن العصابات وراء مجزرة الحولة. كيف نقاوم رغبة الرد بأقذع الألفاظ على (شبيح القلم) المبتذل هذا»؟
(المعارض السوري صبحي الحديدي على «تويتر»)
الشرق الأوسط
مشى في عرس سوريا ومشى في جنازتها/ جهاد الزين
قرأت ثلاثة كتب لباتريك سيل. الأول كان الكتاب الذي منحه ليس فقط الشهرة بين قرّاء السياسة في الشرق الأوسط أو خارجه بل أيضاً في الأوساط الأكاديمية، وهو كتاب “الصراع على سوريا” . في هذا الكتاب نجح باتريك سيل في تأريخ سنوات التحوّل السوري وقابليتها ومسارها في الخمسينات باتجاه ما سيصبح الوحدة المصرية السورية بقيادة جمال عبد الناصر. وأظهر بدقة عالية أدوار الشخصيات السورية والمصرية والعربية في صناعة هذا التحوّل، أو ربما بعضها في الرضوخ لهذا التحوّل. حتى أنني كقارئ ومراقب دهشت عندما قرأت مذكرات محمود رياض سفير عبد الناصر في دمشق في تلك السنوات ودينامو التواصل المصري مع السياسيين السوريين كيف أن باتريك سيل وصل، ولم تكن مذكرات محمود رياض قد صدرت، إلى عدد كبير من المعلومات والاستنتاجات نفسها بحكم البحث والتنقيب والجهد التي وصل إليها بالمعلومات أحد صنّاع القرار في تلك المرحلة محمود رياض.
كتابه الثاني الشهير عن حافظ الأسد، وتجربته هو في الواقع، خليط جذّاب من أمرين متناقضين أحسن التعايش بينهما باتريك سيل. الأول هو عرض وجهة نظر الرئيس السوري الراحل منذ كان طالباً ثم ضابطاً لاجئاً ثم ضابطاً حاكماً ثم حاكماً وحيداً على سوريا. والأمر الآخر هو تمريره لعدد من المعلومات وبعضها على لسان الأسد ليست بالضرورة مؤاتية للبروبغندا الأسدية.
وأتذكّر معلومة من أهمّ ما ورد في الكتاب هي اعتراف حافظ الأسد بأنّ دمشق عاشت ثلاثة أيام بعد ٥ حزيران ١٩٦٧ بلا سلطة.حافظ الأسد اعتبر ذلك دليلاً على وطنية الشعب السوري، وكان هو وزير الدفاع في تلك المرحلة، إذ لم تحدث أية محاولات تمرّد أو شغب أو انقلاب، ولكن باستطاعة قارئ آخر أن يعتبر على ضوء هذه المعلومة أنّ سلطة حزب البعث بل حتى الدولة تلاشت ثلاثة أيام كاملة وكان بإمكان أيّ كان من القوى الراغبة المعارضة أن يلتقط هذه السلطة “المرمية” في الشارع ويسيطر عليها مما يدلّ على شمولية وعمق الهزيمة وإحساس مسؤولي تلك المرحلة بهذا العمق الذي يبلغ حدّ الاستسلام.
كتابه الثالث موضوع أكثر صعوبة من الناحية التقييمية، لأنّ الذي حدث في السنوات الأ خيرة ولم يمض عليه زمن طويل هو أنّ ثلاثة كتّاب معروفين بينهم مؤرخان بارزان انكبّ كلّ منهم وبتكليف مختلف عن الآخر على كتابة سيرة الزعيم اللبناني الراحل رياض الصلح. وهم إلى باتريك سيل، أحمد بيضون وكمال الصليبي. لذلك فإنّ الكتابة عن كتاب باتريك سيل حول رياض الصلح يجب أن تكون بالضرورة مقارنة بين نتاج كل من هذه الأسماء اللامعة والرصينة حول الموضوع نفسه وهو ما لن أفعله الآن لأنني قرأت الكتب “الرياضية” الثلاثة مبكراً وبعضها كان لا يزال مخطوطة. فهذا العمل يحتاج إلى تدقيق أوسع لا تسمح به ظروفي الآن وأنا بعيد عن مكتبتي. إنما تجب الإشارة بشكل عام إلى أنّه بقدر ما تميّز أحمد بيضون في توثيق مصادر المراحل التي عاشها رياض الصلح وخصوصاً دوره في فرنسا، في التحضير للإستقلالين اللبناني والسوري، وبالأخص رصده للتحولات اللبنانية والعربية ومعانيها حتى نشوء دولة اسرائيل إضافة إلى الأسلوب المزدوج الذي اعتمده كأنّه يكتب كتابين في كتاب واحد؛ وبقدر ما وضع كمال الصليبي كل خبرته في المنطقة والتوازنات العربية-والدولية واللبنانية ومعرفته بجذور تشكّل المنطقة السياسي والإتني؛ فإنّ باتريك سيل تميّز بخصب الوثائق البريطانية التي اعتمد عليها وبـ”سوسيولوجية” خبرته الدمشقية سواء عبر العيش أو عبر المصاهرة.
التقيت باتريك سيل للمرة الأخيرة في أواخر العقد المنصرم عندما كنت أشارك في ندوة نظّمها المعهد النروجي في المبنى التراثي الرائع الذي اشتراه داخل الأسواق القديمة المتفرّعة عن سوق الحميدية في دمشق. وكان هناك عدد من المشاركين الأتراك والأوروبيين في تلك الندوة التي كانت تدور حول العلاقات السورية- التركية والعربية-التركية في تلك الفترة التي كانت تشهد ذروة التقارب السوري- التركي قبل أن تبدأ بالانحدار بعد أقلّ من سنتين. كان باتريك الذي لم أعرفه عن قرب يوماَ، إنما كنت ألتقيه في بعض المناسبات، يتحبّب إليّ بدماثته العالية ويتكلّم معي بلغة عربية مقبولة. لم أفتح معه سيرة كتابه عن رياض الصلح الذي كان في طور التحضّير خصوصاَ وأنني كنت أعرف بعض الخلفيات عن الكتب الثلاثة حول رياض الصلح أو ما كان يسمّيه أحمد بيضون ساخراَ “نقابة كتّاب رياض الصلح”. ولم أفتح معه بطبيعة الحال، ما قيل إنّه المبلغ السخيّ الذي حصل عليه مقابل إعداد كتاب عن رياض الصلح والبالغ مليون دولار. وليس من عيب في ذلك فالمشكلة ليست أن ينال كتّاب محترمون حقهم بما يوازي جهدهم وكفاءتهم وإنّما المشكلة حين لا يحصل كتّاب أكفّاء على ما يستحقون مقابل انتاجهم.
في كل الحالات كان رهان الذين كلّفوا باتريك سيل في مكانه، لأنّهم أرادوا الاستفادة من التجربة الناجحة وذات الدوي التي قام بها في كتابة سيرة حافظ الأسد أيّاَ تكن الآراء السياسية في تقييم الكتاب.
لعلّ سوريا التي نعرف ماتت قبل أن يموت باتريك سيل وهذا، لا شك ودون أن يخبرني أحد، كان أليماَ جداَ على باتريك سيل الذي أحبّ هذا البلد وبعض أبناء باتريك أخوالهم دمشقيون وأعتقد أنّه لو قُدّرت حياة أطول لباتريك سيل لكان كتابه الأخير سيكون، إذا سمحت لنفسي باستعارة عنوان بول كنيدي الشهير عن الولايات المتحدة، عن صعود وهبوط الكيان السوري.
لا شك أن الأوساط الصحفية والأكاديمية المتخصصة بالشرق الأوسط أو المتابعة له قد خسرت مع باتريك سيل مرجعاً ذا وزن في شؤون المشرق العربي تكاملت فيه خبرته الصحفية منذ الستينات مع دأبه البحثي وعلاقاته الواسعة مع جيل بكامله من المنطقة وخارجها.
هكذا يتصادف أحياناً غياب كاتب مع غياب حقبة، وهو غياب ليس محسوباً بالضرورة بالموت وحده بل بقابلية تغيّر ديناميات التحوّل الصادمة. فهذا الكيان السوري، الذي يقول ستيفن هايدمان في كتابه عن السلطوية في سوريا 1946-1970 إن السفارة الأميركية في دمشق كانت مهتمة في أوائل الخمسينات بنشاطات النقابات والاتحادات العمالية والهيئات الإقتصادية والبرجوازية الوطنية أي أنها كانت مهتمة ببلد صاعد وذي بنية، أصبح الآن بلد حرب أهلية ضروس لم نعد نعرف ماذا سيبقى من بعدها.
يمضي الزميل جهاد الزين فترة علاج من وعكة صحية قاسية يتعرض لها منذ شهر. هنا مقاله الاول الذي يرسله من على سرير المرض في مستشفى الجامعة الأميركية.

مستشفى الجامعة الأميركية- بيروت
النهار
باتريك سيل الذي لم يرَ السوريين/ عمر قدور
في مقاله “هل يمكن إنقاذ سوريا من الدمار”، الذي تزامن نشره مع الذكرى الثانية لاندلاع الثورة، اقترح باتريك سيل قبول المعارضة بتسوية غير متكافئة تتضمن تسليم أسلحتها مقابل مكاسب محدودة. بحسب مقال باتريك سيل أيضاً، توجب على بشار الأسد مواجهة تحديات خارجية لا تقل عن تلك التي واجهها الأب، من الغزو الأميركي إلى العراق وصولاً إلى الحرب الإسرائيلية على لبنان العام 2006 وعلى غزة 2008، وما يلفت الانتباه هو تحاشيه الإشارة إلى إجباره على الانسحاب من لبنان بوصفه التحدي الأكبر المباشر. غير أن الإشارة إلى التحديات الخارجية أتت توطئة للقول بأنه “لم يكن مفاجئاً حين بدأت الانتفاضة في درعا العام 2011 أن يفسر النظام ما حصل بمؤامرة خارجية ضده بدلاً من صرخة غضب ويأس من الشعب المتعب”.
لنصرف النظر مؤقتاً عن تعبير “الشعب المتعب”! فصاحب الكتاب الشهير “الأسد والصراع على الشرق الأوسط” يرى أن عماد الانتفاضة السورية هم “أشخاص عاطلون عن العمل وشبه مثقفين وقعوا ضحية الانفجار السكاني في سوريا خلال السنوات الأخيرة”، ويردّ الثورة بشكل أساسي إلى موجة الجفاف التي تعرضت لها البلاد خلال السنوات الخمس السابقة على الثورة، والتي لم تبذل الحكومة جهوداً كافية لمواجهة آثارها، مع أنها اتبعت سياسة “رائعة” في مجالي السياحة وتشجيع استخدام الأنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. للإنصاف، لا يقف باتريك سيل وحده في الإعلاء من شأن موجة الجفاف وتأثيرها، ففي أكثر من مقال له ركز توماس فريدمان عليها كسبب محوري لـ”الاضطرابات” الحالية والمستقبلية في سوريا، وعلى طريقة “وجدتها” يتقدم هذا السبب لإزاحة كافة العوامل الأخرى التي يدفع بها السوريون أنفسهم كمبررات لثورتهم.
لكن من المرجح أن يكون لما حدث في سوريا منذ 2011 حساسية خاصة لدى باتريك سيل، فالرجل كما هو معلوم دوّن التاريخ شبه الرسمي لدولة الأسد، ويمكن القول بأن “سوريا الأسد” هي بمثابة الخلاص لسوريا التائهة بين تجاذبات إقليمية ودولية سبق أن شرحها في كتابه “الصراع على سوريا” الصادر في 1965. في هذا الكتاب يرى سيل أن سوريا ضحية صراع نفوذ في المنطقة، يتمثل إقليمياً بثلاث دول هي مصر والسعودية والعراق، ذلك لا يمنع أن تكون سوريا مصدراً لموجات فكرية وأيديولوجية تؤثر في عموم المنطقة، وفي تلك الدول الثلاث. أي أن سوريا الضعيفة على صعيد الموارد الاقتصادية، وعلى صعيد بنيتها السياسية كدولة، والثرية ربما كمصدر للإلهام الفكري السياسي، تبدو بحاجة حقيقية إلى استقرار سياسي يؤمن لها حضوراً إقليمياً يتناسب مع دورها المفترض؛ هذا ما حققه حافظ الأسد كما سنقرأ في كتابه “الأسد والصراع على الشرق الأوسط”.
في بداية كتابه ينوه سيل بأنه “محاولة لتصوير العالم حسبما يُرى من موقع الحكم في دمشق”، إلا أنه أيضاً “ليس سيرة الرئيس حافظ الأسد الرسمية”، والحق أنه سدّ ثغرة بين ما يتحرج النظام من قوله عن نفسه وبين ما يريد أن يُعرف عنه. وهو أيضاً الحال الذي كان عليه كتاب “الأسد والصراع على الشرق الأوسط” إذ لم يُسمح بتداوله في المكتبات السورية على نحو علني وجرى غضّ البصر عن تداوله شبه العلني، بل أقيمت ندوات عامة برعاية النظام عن الكتاب، أسوة بالندوات التي أقيمت عن شخصية الأسد في كتاب كريم بقرادوني “السلام المفقود”، مع أن الكتاب الأخير لم يُسمح بتداوله أيضاً.
انحياز سيل إلى حكم الأسد ليس محل شك، فهو في كتابه يصف انقلابه على رفاقه البعثيين بالقول أولاً “لقد كان انقلاباً أبيض”، ثم يستدرك فوراً “بل لم يكن انقلاباً على الإطلاق، كان بالأحرى حركة تصحيحية كما صار يقول الأسد”. ولفهم انحياز الرجل ربما يكون مفيداً فهم العقلية التي ينبع منها تعاطفه مع الأسد، وهو بالمناسبة ليس الشخصية الوحيدة التي ألف كتاباً عنها، وأغلب الظن أن المؤلف يستهويه العامل الشخصي في التاريخ عموماً، وفي حالة الأسد لا يُستبعد ذلك الإغراء بانتقال الأخيرة من أسرة متواضعة في أسفل الهرم الاجتماعي إلى رأس هرم السلطة. مثل هذه الحبكة “الهوليوودية” غير بعيدة عن إغراء الكثيرين في الغرب، بل إن سيل يستهل كتابه فعلاً على النمط الهوليودي بذلك المصارع “التركي” الذي يأتي إلى “القرداحة” متحدياً رجالها قبل أن يصرعه سليمان الأسد، جد حافظ الأسد، الذي تكنى به الأخير طويلاً بدلاً من أبيه، قبل أن يُعرف بأبي باسل.
يتندر السوريون بالقول “إن الرئيس جيد ومن حولهم هم الفاسدون”، لأن هذا ما كانت تشيعه أجهزة الأمن تبريراً للفساد، في كتاب “الأسد والصراع على الشرق الأوسط” قد تكون هذه الطرفة من القواعد الرئيسية، فالكاتب عندما يُضطر إلى تبرير بعض الأحداث العامة الكبرى يحيّد شخص حافظ الأسد عن التسبب بها، حتى إن لجأ إلى نسب الموبقات إلى أخيه رفعت، مع تنويه لاحق لا يخلو من الدلالة برفعة الأخلاق التي يتمتع بها أولاد حافظ الأسد. تلك الإشارات المنحازة المبثوثة في طيات الكتاب تدفع إلى ترجيح المستوى العاطفي للكاتب الذي لا يجد مفراً من تنزيه بطله عن مغريات السلطة، حتى إن استلزم ذلك الاستنجاد بتقشفه على المستوى الشخصي لإظهار زهده في مباهج السلطة.
الطغيان والديكتاتورية لم يكونا مما يشغل بال باتريك، وقد نجد تبريراً له في أن الكتاب أُعدّ بالتنسيق مع النظام، لكن مواقفه اللاحقة تبين أنه مقتنع حقاً في ما أورده، وليس تركيزه على موضوعة الجفاف كمبرر للثورة إلا من باب إلقاء اللوم مرة أخرى على ظروف لم يصطنعها النظام بنفسه، بمعنى أن “الرئيس جيد لكن الأحوال المناخية هي الفاسدة”! الأهم هنا أن سيل لا يتذكر وجود السوريين إلا لماماً، وعندما يتذكرهم يستنجد بالتحليل الاقتصادي ويدفعه إلى الصدارة على نحو مختزل ومبتذل، وقد لا نتجنى عليه بالقول إن سوريا الفلاحية التي كتب عنها كتابه الأول بقيت في ذهنه كما هي، وكأن الفلاحين الذين انتفضوا من قبل وأتوا بالبعث إلى السلطة عادوا إلى الثورة مجدداً وفقط بسبب أحوالهم الاقتصادية المتردية. هنا قد يكون ضرورياً الانتباه إلى أن قرب الرجل من النظام، وحتى علاقة المصاهرة التي تربطه بعائلة سورية معروفة، لم تغيّر كثيراً في العقلية التي يتشارك بها مع الكثير من الغربيين، وعمادها عدم النظر إلى شعوب المنطقة سوى بوصفها كتلاً بشرية غرائزية لا تتمتع بتطلعات إلى الحرية والمساواة وغيرها من مُثُل العصر.
أن يأتي رحيل باتريك سيل مع انهيار “سوريا الأسد” فهذه مصادفة لا تخلو من الرمزية، لأن ما رآه ينهار قبل وفاته هي كل المبررات التي حشدها للإعلاء من شأن الأسد، والتي ترتكز أساساً على تهميش كل ما هو داخلي تحت ذريعة مكانة سوريا الإقليمية. لقد كان النظام سبّاقاً، وهذا ما لم يدركه سيل، في التهديد بإعادة سوريا إلى ما قبل عهد الأسد الأب، لكن تلك الإعادة لم تقتصر على تدمير البلاد وإعادتها عشرات السنين إلى الوراء، بل أيضاً تبديد مكانة سوريا الإقليمية على نحو سريع وفتحها أمام شتى أنواع النفوذ الإقليمي والدولي. لقد رحل المؤرخ بعدما شهد صعود وانهيار دولته “سوريا الأسد”؛ هذا المدى الزمني القصير يؤشر على أنها كانت دولة طارئة وعابرة.
المدن

 

 

باتريك سيل في الميزان/ علي العبد الله
جدد نبأ وفاة الكاتب والصحفي البريطاني باتريك سيل يوم 12/4/2014 فتح ملفه ومواقفه من القضايا السورية بعامة والثورة السورية بخاصة، وقد تناقضت آراء وتقييمات المشاركين للرجل تناقضا كبيرا، فقد تراوحت الآراء بين من اعتبره عميلا للـ “أم اي 6″( الفرع الخارجي للمخابرات البريطانية) ومن اعتبره مأجورا يكتب مقابل المال، بين من انكر عليه تمتعه بكفاءة اعلامية وقدرة تحليلية، ومن أشاد بقدراته التحليلية، وكانت المفاجأة وصفه من قبل وليد جنبلاط بـ “العروبي البارز”.
لا شك ان السيد سيل كفاءة اعلامية وتحليلية كبيرة، دون ان يعني هذا صحة كل تحليلاته او مواقفه، وهو فوق ذلك متابع ومجتهد في رصده للتغيرات السياسية في الاوضاع العربية بعامة والسورية بخاصة، ومعايش بدقة لتطورات الاوضاع فيها، فعلاقته بسوريا طويلة وحميمة فقد قضى طفولته فيها( 15 عاما) درس في مدارسها، تعلم لغتها وتعرف على شعبها وعاداته وتقاليده وثقافته الاجتماعية والدينية، وعاد اليها مراسلا لصحيفة الابزيرفر البريطانية، وأكتسب خبرة اكاديمية عبر اعداده رسالته الجامعية عنها للتخصص بتاريخ الشرق الاوسط في جامعة  اكسفورد البريطانية( كتاب الصراع على سوريا 1945- 1954. صدر عام 1965) وأخيرا تزوج منها (السيدة رنا قباني، مطلقة الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش). قبل ان يضيف كتابه الثاني عنها(الاسد والصراع على الشرق الاوسط عام 1988). يقول المتعاطفون معه ان الشهرة التي نالها بسبب هذين الكتابين جعلته يشعر بأنه مدين لسوريا، وان سلوكه الذي يظهر كمتعاطف مع النظام السوري مرتبط بالوفاء بهذا الدّين، وهذا جعل البعض يتهمه بتبرير ممارسات النظام ( الياس حرفوش الحياة: 13/4/2014).
لم يكن سيل، مع تعاطفه الواضح مع النظام السوري وتبنيه لروايته حول الثورة، خاصة لجهة القول بوجود يد خارجية تحرك الاحتجاجات، منحازا للنظام بالكامل، فلا مكانته ولا خبرته وسعة اطلاعه ولا تربيته الاكاديمية وثقافته تسمح له بالتحول الى بوق صغير يغطي جرائم صاعقة، فقد مال الى التوازن وتبنى موقفا نقديا مما يحدث وانتقد تعاطي النظام مع التظاهرات الأولى واختياره الرد بعنف على احتجاجات سلمية، كما ابدى تفهما للتظاهرت ولمطالب المتظاهرين وربطها بالظلم والبؤس والفساد، قال في مقالة له بعنوان”هل يمكن تفادي الحرب الأهلية في سورية؟. الحياة: 25/11/2011):” من هم الثوّار وما الذي يريدونه؟ إنهم أشخاص فقراء من الريف عانوا من الحرمان ومن إهمال الحكومة لهم وأشخاص فقراء يعيشون في المدن ورجال أعمال عاديون سُحقوا على يد الرأسماليين الفاسدين والمقرّبين من مركز السلطة ومجموعة من الشبان العاطلين من العمل. يرغب الثوار في الحصول على فرص عمل وعلى حاكمية رشيدة وعلى توزيع عادل لموارد البلد ووضع حدّ للفساد والاعتقالات الاعتباطية وعنف الشرطة. كما يرغبون في أن يتم التعامل معهم باحترام”. وأضاف:” يعتبر الأسد أنّ معارضيه المحليين هم حلفاء أعدائه الخارجيين، وأنهم ليسوا متظاهرين شرعيين ضد الفساد وعنف رجال الشرطة وبطالة الشباب الحادّة والنقص في الحريات الأساسية…. هذه هي عقليته وهذا هو تبريره للقمع الدامي خلال الأشهر العشرة الماضية الذي تمثّل في عمليات قتل واسعة النطاق وزجّ عدد كبير من الأشخاص في السجن إلى جانب الضرب والتعذيب. وتسبّبت هذه الوسائل الوحشية بتصدع في المجتمع السوري وعزّزت التوترات المذهبية. كما أنها أضرت بصورة سورية وبسمعتها الدولية. وسيكون من الصعب أن يبرأ الجرح الداخلي. كيف سيتعلّم السوريون أن يعيشوا مع بعضهم البعض مجدداً؟”. وقد حلل في مقالة أخرى (هل يستطيع نظام الأسد البقاء؟، الحياة: 20/1/2012) نقاط قوة النظام واحتمالات سقوط الاسد، قال:”يُجمع عدد كبير من المصادر الموثوقة داخل سورية وخارجها أنّ الأسد الذي نجح في التصدّي لأعدائه منذ آذار (مارس)، يحظى بفرصة كبيرة في البقاء لأشهر عدة أخرى. إلا أنّ حظوظه بالبقاء على المدى الطويل تبدو غير أكيدة، ويعتبر بعض المصادر أنّ بقاء الأسد على المدى الطويل يعتمد على قدرة إيران، التي تعدّ حليف سورية المقرّب، على الصمود”. واعتبر ولاء الجيش والقوات المسلحة المستمر له نقطة القوة الوحيدة التي تساهم في تعويم النظام، وأضاف:” كما يصب عاملان مهمّان في مصلحة النظام، هما إخفاق المعارضة في التوحّد حول زعيم واحد أو حول مشروع سياسي واحد واستمرار شريحة كبيرة من الشعب في دعم النظام. ويبدو أنّ الأقليات مثل العلويين والمسيحيين والدروز والموظفين المدنيين والضباط والتجّار البارزين في دمشق وحلب والطبقة البرجوازية الجديدة التي تضمّ عشرات الآلاف من الأشخاص، والتي أنشأها النمط الاقتصادي الليبرالي الجديد في العقد الماضي، قلقون من تغيّر النظام، فهم لا يشعرون بأن المتظاهرين في الشوارع أو المعارضة في المنفى يمثلونهم”. وتساءل في مقاله”سوريا في مواجهة الدمار الشامل”(الحياة:27/7/2012) “كيف وصلت الأمور إلى هذا الحدّ؟ وأجاب:”تتحمّل كلّ جهة فاعلة في الأزمة جزءاً من المسؤولية. تعدّ سورية ضحية مخاوف أعدائها ورغباتهم، إلا أنها ضحية أخطاء قادتها أيضا” وأضاف:”وبالنظر إلى مجرى الأحداث الماضية، من الواضح أنّ الرئيس بشار الأسد فوّت فرصة إصلاح الدولة الأمنية الضيّقة التي ورثها عن والده عام 2000 وبدلاً من أن يقرّ الأسد بالحاجة إلى الحريات السياسية والكرامة الشخصية والفرصة الاقتصادية التي شكّلت رسالة”ربيع دمشق”خلال العام الأوّل على توليه السلطة ويوسع منها، ضيّق الخناق أكثر وأكثر فتمّ تعزيز الرقابة الخانقة على كلّ وجه من وجوه المجتمع السوري وتشديدها إلى حدّ لا يطاق نتيجة الفساد الواضح والامتيازات التي حظيت بها قلّة من الأشخاص والمحن التي عانى منها الكثيرون. فبات القمع الجسدي ممارسة يومية. وبدلاً من تطهير جهازه الأمني ووضع حدّ للعنف الذي تمارسه الشرطة وتحسين أوضاع السجون، أدت اعماله الى ان يصبح مكروهاً أكثر من أي وقت مضى. فضلاً عن ذلك، وعلى مرّ العقد الماضي، أخفق بشار الأسد ومستشاروه المقرّبون في إدراك الطابع الثوري لتطوّرين أساسيين هما التفجّر السكاني في سورية وموجة الجفاف الطويلة التي ضربت البلد من عام 2006 لغاية عام 2010 علماً أنّها الأسوأ منذ مئات السنوات. وأدى التطوّر الأوّل الى ان مجموعة من الشباب من أنصاف المتعلمين كانوا عاجزين عن إيجاد الوظائف فيما أدّى التطوّر الثاني إلى نزوح قسري لمئات آلاف المزارعين من حقولهم الجافة باتجاه الأحياء الفقيرة المحيطة بالمدن الرئيسة. وخسر الرعاة في شمال شرقي سورية 85 في المئة من ماشيتهم. كما تشير التقديرات إلى أنّ نحو مليونين أو ثلاثة ملايين سوري وقعوا في فقر مدقع مع حلول عام 2011. ولا شكّ في أنّ التغيّر المناخي كان مسؤولاً عن ذلك، إلا أنّ إهمال الحكومة وعدم كفايتها فاقما من هذه الكارثة”. وأضاف:”شكّل هذان العاملان، أي بطالة الشباب والنزوح الريفي، المحرّكين الأساسيين للانتفاضة التي انتشرت بسرعة فائقة عقب اندلاعها جرّاء حادث وحشي وقع في مدينة درعا في شهر آذار مارس 2011. أما الذين كانوا وراء الانتفاضة فهم شباب المدن العاطلون من العمل ومزارعون فقراء”. وقد كان لافتا نشره مقالاً في صحيفة “لوموند ديبلوماتيك” الشهرية( مايو/أيار2011 ) بعنوان:”العمى القاتل لعائلة الأسد”، يرْصُدُ فيه إرهاصات الثورة السورية التي انطلقت من درعا، بعد قليل من اندلاع الثورة في تونس، في وقت كان فيه رئيس النظام يؤكد لصحيفة وول ستريت جورنال ثبات الوضع في سورية واستقراره ويغمز من قناة مصر وتونس.
غير ان المواقف التي أثارت كثيرين ضد سيل ما زعمه “ان اسرائيل حضّت واشنطن على التخلص من الاسد”، مع ان القاصي والداني يعلم ان موقف إسرائيل عكس ذلك تماما، وإنها ضغطت كي لا يتدخل الغرب أو يسلح المعارضة، وموقفه من كتائب الثوار والدعم العربي للمعارضة حيث تبنى رواية النظام قال في مقالة” سورية في مواجهة الدمار الشامل”( الحياة:27/7/2012) :”تموّل هذه الدول – دول الخليج- وتسلّح المتمردين السوريين على أمل أن يؤدي إسقاط النظام السوري إلى قطع روابط إيران بالعالم العربي. غير أنّ هذه السياسة تساهم في إطالة معاناة سوريا وفي التسبب بمقتل أبرز رجالها وبضرر مادي كبير”. وتبنيه للحل السياسي عبر “حوار يجمع بين إيران وروسيا والولايات المتحدة والسعودية وتركيا وجميع الأطراف في سوريا بما فيها الحكومة” دون ان يوضح موقفه من مطالب الثورة في الحرية والكرامة والتغيير الديمقراطي. بالإضافة الى موقفه القديم من النظام وحافظ الاسد الذي عكسه في كتابه الضخم(800 صفحة) “الاسد والصراع على الشرق الاوسط” حيث شبه الاسد ببسمارك وسياسته التي تنطلق من القوة لا من الحق “فالقوة تعلو الحق”، دون تحفظ على هذه السياسة وما يترتب عليها من ظلم وقهر وإذلال للشعب في عصر يختلف عن عصر بسمارك، عصر الديمقراطية وحقوق الانسان، وان هكذا سياسة لا تضمن الاستقرار والاستمرار فها هو الشعب السوري قد خرج احتجاجا على الظلم والقهر والتمييز.
في النهاية يمكن القول انه قدّمَ عن العالم العربي الاسلامي نظرة مختلفة عن السائد في الصحافة الغربية، وأن معظم كتاباته عن العالم العربي، وعن القضية الفلسطينية بشكل خاص(موقفه مع حل الدولتين إلا انه يستبعد تحقيق ذلك بسبب السياسات الاسرائيلية والمواقف الغربية الداعمة لإسرائيل بالإضافة الى الضعف العربي) تعبّر عن ادراك عميق للواقع والرهانات السياسية في المنطقة والعالم.
\\ كاتب سوري \\

المدن

—————

حمل هذا الكتاب من احدى الروابط التالية

https://docs.google.com/file/d/0B1hVHp4YpIKoNjlPZFRZRThqWHc/edit?pli=1

أو من الرابط التالي

https://www.mediafire.com/?6saai1ceq4970v8

 

صفحات سورية ليست مسؤولة عن هذا الملف، وليست الجهة التي قامت برفعه، اننا فقط نوفر معلومات لمتصفحي موقعنا حول أفضل الكتب الموجودة على الأنترنت

كتب عربية، روايات عربية، تنزيل كتب، تحميل كتب، تحميل كتب عربية،

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى