كتاب ستيفن هايدمان المهم الى العربية التسلطية في سوريا وصراع المجتمع والدولة
الإعداد والاختيار: يقظان التقي
كتاب “التسلطية في سورية”، صراع المجتمع والدولة قد استغرق وقتاً طويلاً ليكتمل، الكثير من السنوات والكثير من المسودات والأبحاث والمراجعات والمقابلات، التي أجراها المؤلف ستيفن هايدمان بمعاونة كثيرين عن المركز السوري للدراسات السياسية والاستراتيجية واشنطن، ترجمة عباس عباس ومراجعة د. رضوان زيادة، منشورات رياض الريس للكتب والنشر/ طبعة أولى 2011.
يسعى الكتاب الى اظهار الكيفية التي بنيت عليها مؤسسات النظام التسلطي المتين بالتدريج خلال مرحلة اتسمت بمستويات عالية من الصراع الاجتماعي والسياسي. أي الفترة الممتدة من 1963 الى 1970. يحاول الخبير في السياسة السورية ستيفن هايدمان أن يقدم تلك السنوات السبع الأولى من حكم البعث على أنها فترة تداخل فيها الصراع الداخلي ضمن البعث مع نشوء وتوطيد القواعد التأسيسية لدولة تسلطية راسخة وقوية.
بسبب التركيز على الصراعات الحزبية الداخلية خلال هذه السنوات اعتبر نجاح الأسد في تحقيق الاستقرار السياسي بعد العام 1970 لغزاً محيراً ومفاجأة وقطيعة عميقة مع المرحلة السابقة.
اليوم بعد عشر سنوات من احتلال الرئيس بشار الأسد مناصب والده كرئيس للجمهورية والقائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة والأمين العام لحزب البعث. هناك نقطتان حول الأحداث التي حصلت العام 2000؟ الا أن صعود بشار الأسد السريع والسلمي والمنظم كان خادعاً فسوريا في الأشهر والسنوات اللاحقة ستكون أي شيء عدا أن تكون سالمة ومنظمة، فالأسد الصغير سيكون عليه مواجهة تحديات طاغية. ثانياً بقيت الأدوات الاساسية لسيطرة النظام سليمة، كما بحث الأسد عن طريقه للتكيف مع، وليس التعديل الجذري في أطر العمل الدستورية التي تسمح للنظام بتوجيه سياق العلاقات بين الدولة والمجتمع في سوريا. هذا يطرح أسئلة حادة في كيفية فهم السياسة السورية وتحليلها. لماذا حاد الكثير من المحللين للسياسة السورية عن الصواب؟. ما الذي أغفلوه وسبب لهم أساءة تقدير كفاية بشار الأسد في إحكام قبضته على السلطة؟.
هؤلاء المحللون أصابوا بالتأكيد في ملاحظة مهمة وهي “سيادة الأعيان” المتفككة والمثيرة للشقاق، التي كانت ملمحاً ثانياً في السياسة السورية، مع ذلك أهملوا على طول الخط المدى الذي وصله بشار الأسد بميراثه الذي كان أكثر بكثير من مجرد شبكة من الصفوة المتسمة بالشخصية والمحسوبيات والطائفية. وكانوا يغفلون تماماً حجم الدعم الذي تعتمد عليه السياسة السورية وقوة سلطة بشار ليس شخصياً بل كسلطة تسلطية أكثر بكثير مما يوفره بصيغة أفراد بارزين.
المؤلف اذ يميز العلاقة ما بين المؤسسات ومرونة الحكم التسلطي في سوريا لا يخلط في النقاش حول استمرارية التسلطية مع النقاش حول المشروعية السياسية. يضاف الى ذلك توجه النظام الجديد للتعاطي من موقع الحليف مع النزعات الاسلامية وتشديد الحملة الفعالة، ظاهرياً، للتغلب على عزلته الاقليمية والدولية بعد سنوات على اغتيال الرئيس الحريري. الا ان أياً من جهوده المبذولة لشرعنة نفسه لم تجد في حمايته من عواقب أدائه الهزيل. فبالنسبة الى نظام تسلطي كالنظام السوري، لا يمكن أن يكون المستقبل مضموناً ابداً.
أهمية الأبحاث هي المنهجية المعتمدة من منظور مقارن لسوريا كتسلطية ناجحة.
باختصار، لا القمع ولا الطائفية يفسران بصورة تامة قدرة البعث على تعزيز ومأسسة نظام حكم الحزب الواحد المتسلط. ومن الجدير بالذكر أن أياً من هذه الأفكار لا يفسر دوام التسلط الشعبوي في سوريا، نظراً لأن النزعة الشعبوية، خلافاً للتسلطية المتطورة في شرق آسيا توظف نموذجاً، بوصفه قاعدة غير مستقرة لنظام حكم دائم.
حين تطرح التجربة السوريا حول كيفية واسباب نجاح نظام تسلط شعبوي على نحو خاص عقب درجة عالياً نسبياً من الاستقرار والحفاظ عليها في هذه الحالة الخاصة. ثمة مجازفة في وصف سوريا بأنها شعبوية وبأن هذه التسمية سياسية جداً. يسعى الكتاب الى شرح مرونة نظام الحكم في سوريا الذي ينطوي على أكثر من حدود الطاقة العميقة أو التقسيمات الطائفية الى التسلطية الشعبوية.
الكتاب يعكس هاجساً مزدوجاً يتعلق أحد بعديه بالموروث الذي أدى الوصول الى سدة الحكم التسلطي (1946 1963) والبعد الآخر يتصل بالمؤسسات (1963 1969) أي الصيغة التي تحترم مصالح النظام بطرق أخرى أيضاً. ومن الجليّ أن التجربة السورية تعد الأكثر تميزاً بين الأنظمة التسلطية الشعبوية التي أُتبعت الطريق البيروفي أو المكسيكي أو المصري. لكن بالنسبة للبعث انبثقت فكرة عبر الاتحادات، المؤدية الى ظهور دولة تتسم بالشعبوية والتسلط بوصفها بديلاً فعلياً عن كل من الدولة الناصرية المرنة والحلف الاجتماعي الليبرالي التعددي. أما التسوية الطبقية فتمت التضحية بها لصالح متطلبات توطيد النظام وضمان سيطرة الدولة على الاقتصاد الوطني. ثم من بين النتائج الأكثر أهمية هي الكيفية التي أدت الى تحويل مؤسسات الدولة وتوسيع القدرة التنظيمية لها وبرز اتساع نطاق سيطرة الدولة على المجتمع السوري بعد الاستقلال وبروز الدولة بوصفها أداة للتعبئة والاصلاح الاجتماعي، وثانياً الاتساع المذهل لسيطرة الدولة على الاقتصاد السوري. وقد فرض هذان المتغيران تحديات مهمة أمام النخب من أصحاب الأعمال ومناصريهم السياسيين للمحافظة على سيطرتهم على ديناميات تشكل الدولة وتحديد الكيفية التي سيدار بها الاقتصاد الوطني انطلاقاً من الارث التسلطي وتشكل الليبرالية المضبوطة وترسيخ هذا الحكم التسلطي من خلال السيطرة على النقابات والعمال وعلى المجتمع السوري ككل. وعلى الرغم من سنوات حكمه الأولى شديدة التقلب والحافلة بالصراعات، الا ان قيادة البعث نجحت في تحقيق التحويل الأكثر حسماً في السياسة والمجتمع والاقتصاد السوري في القرن العشرين. مع ذلك لم يتح لسوريا الاندماج في نظام رأسمالي أكبر.
كتاب لم يفهم آلية عمل الأجهزة المؤسساتية اليوم والبارحة وكانت السبب وراء قدرة النظام السوري على تعزيز قبضته على السلطة منذ العام 2000 الى المدى الذي وصلت فيه الأمور أخيراً الى الثورة الشعبية والى المدى الذي تثقل فيه الضغوط الاقليمية والدولية كاهل بشار الأسد أو السياسة الفئوية التي تهدد قبضته على السلطة وقد تسقطها.
هنا مقتطفات من الفصل الثامن من الكتاب بعنوان “دور المصالح والمؤسسات في استمرار التسلطية السورية”.
دور المصالح والمؤسسات في استمرار التسلطية السورية
تمتّع قادة حزب البعث بمكتسبات طويلة المدى نتيجة نجاحهم في تخطي المعضلات الأساسية المتعلقة بترسيخ نظام شعبوي تسلطي. منذ عام 1970 استمرت التسلطية الشعبوية في تحديد وتحريك السياسة والمجتمع والاقتصاد في سورية. ان شبكات المنظمات الشعبية التي أنشئت في الستينيات كي تكون أدوات فاعلة في التعبئة والسيطرة لا تزال تشكل مقومات أساسية في جهاز الهيمنة لدى النظام. كما أن جماعات المصالح والاتحادات لا تزال مندرجة ضمن بنى مؤسساتية نقابوية وتحت السيطرة الكاملة للدولة وحزب البعث. حتى أن السياسة الاجتماعية مستمرة بوصفها انعكاساً لهموم شعبوية من حيث توزيع الحصص. ان خطط التقشف قد أدت الى تقليص النفقات الاجتماعية، مع ذلك استمرت البرامج العديدة للصحة العامة والخدمات الاجتماعية والتعليمية، على الرغم من المؤشرات المتزايدة الى ما يعانيه النظام من إنهاك وضغط وتصدع. لقد انفتحت أمام القطاع الخاص مساحة جديدة في الاقتصاد السياسي السوري، لكن الاستراتيجية التنموية الأكبر لهذا الأخير والسياسات الاقتصادية الكلية المتأتية عنها بقيت عرضة للنزعة التدخلية الشاملة من قبل الدولة.
في الحقيقة، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 قطع كبار الساسة السوريين، ومن ضمنهم حافظ الأسد، أشواطاً طويلة في السنين الفائتة لاعادة صوغ القوانين المتعلقة بالتزامهم بالتنمية في ظل ادارة الدولة. اضافة الى ذلك، خلال العقود الثلاثة من حكم حافظ الأسد قامت الطبقة السياسية المهيمنة، التي جاءت بها الصراعات الداخلية للحزب في الستينيات، بتحويل الدول الى مصدر هائل للايرادات، الأمر الذي ولد دافعاً اضافية لترسيخ التدابير السياسية والاقتصادية المتبعة. وضمن نطاق اقتصاد سياسي شعبوي نشأت صيغة جديدة ومتقاطعة من التحالفات وشبكات الأعمال التي ربطت ما بين نخبة الدولة وكبار الرأسماليين في حقل واسع من النشاطات الهادفة الى الربح بصورة أساسية.
ولّدت نهاية الحرب الباردة ردود أفعال سياسية واقتصادية على حد سواء، ولكن تم التخفيف من آثارها أيضاً. فقد قام النظام السوري فعلاً، في أعقاب الانتفاضات الشعبية التي اجتاحت الأنظمة الدكتاتورية الاشتراكية في أوروبا الشرقية، بخطوات متواضعة ولكن مضبوطة بغية توفير فرص جديدة للمشاركة السياسية. في عام 1990 وسّعت الحكومة السلطة التشريعية السورية، المجلس الوطني (مجلس الشعب)، بنحو الثلث وزادت من عدد المقاعد التي يمكن أن يشغلها سياسيون ليسوا منتمين لحزب البعث؛ وقد كانت هذه التغييرات، معظمها، وليس كلياً، تجميلية. وصار الخطاب الرسمي ينطوي على اشارات متزادية الى أهمية التعددية والى تجنب التغييرات التي من شأنها زعزعة “السلم الاجتماعي” وهو المصطلح الذي حظي بأولوية خاصة في السنوات القليلة الماضية.
أعادت الانتخابات البرلمانية التي جرت في أيار 1990 عدداً قليلاًم ن ممثلي القطاع الخاص الى المجلس الوطني وذلك لأول مرة منذ عام 1963. أعطيت لأعضاء أو منتسبين للحزب الحاكم، وفاز الرئيس الأسد في السنة التالية بولاية حكم رابعة بدعم مفترض بلغت نسبته 99,8% من أصوات الناخبين. أما انتخابات المجلس النيابي التي جرت في كانون الأول 1998 فقد أعادت الأغلبية الساحقة من ممثلي حزب البعث. وعموماً استمر العمل بالدستور الذي أعلنه حزب البعث عام 1964، بما في ذلك المطلب الملزم بأن يشكل أعضاء المنظمات الشعبية غالبية ممثلي المجلس. اضافة الى ذلك يبقى حزب البعض نفسه المنظمة السياسية الرسمية الأقوى نفوذاً في البلاد على الرغم من التعديل الرمزي لسياسة الحزب الواحد المتمثل في تشكيل حكومة جبهة وطنية في أوائل السبعينيات. لقد شهد حزب البعث في الحياة السورية تغييراً واضحاً في دوره على مر السنين؛ ويتجسد اليوم دوره الرئيس بوصفه أحد المكونات الأساسية لشبكة المحسوبية لدى نظام الحكم؛ ويؤخذ في الحسبان من زاوية انتهازية أكثر منها ايديولوجية. مع ذلك يستمر الحزب بوصفه مجالاً هاماً لممارسة الدمج الاجتماعي والتعبئة فارضاً نفسه بقوة على المجتمع السوري من خلال المشاركة شبه القسرية في منظمات تطاول الحركات الشبابية لطلاب المدارس والمخيمات الصيفية والمجموعات الطلابية انتهاء بالمنظمات الشعبية. اجمالاً تجعل هذه الأمور من حزب البعث ممثلاً هاماً في اعادة انتاج هوية النظام الشعبوية حتى بين صفوف أولئك الذين يضمرون السخرية لحزب البعث.
ما مر ذكره يفترض ان الملامح المميزة لحكومة شعبوية كما ورد في المقدمة لا تزال تصوغ المنطق السياسي للنخبة التسلطية الحاكمة في سورية. كما ان العناصر الرئيسية في نظام الحكم السوري لا تزال مستمرة بقوة من خلال التأكيد على سياسات اعادة التوزيع الاقتصادية، والتحالف السياسي الذي يعتمد الى درجة كبيرة على المجموعات الاجتماعية الشعبوية، واستخدام الخطابات الشعبوية المواكبة للمتغيرات بوصفها قاعدة للتعبئة السياسية واكساب الشرعية وبناء المؤسسات. ان هذا الخطوط الهامة الملائمة للخطاب الراديكالي هي الأكثر بروزاً، ربما لأن خطابات من هذه الشاكلة قد استبدلت كلياً في أماكن أخرى من العالم بالحديث عن الاخفاقات التنموية لاشتراكية الدولة. على الرغم من ذلك فإن الاعلام السوري والمنظمات الشعبية، اضافة الى التصريحات الرسمية لمسؤولي الحزب الأساسيين ووزراء الحكومة، لا تزال مليئة بإغواءات الاشتراكية والحاجة الى الجموع والسير باتجاه الثورة.
بعد سنين على ما يزعم بأنه نهاية التاريخ، المقترنة بالفوز الساحق لرأسمالية السوق الليبرالية، يحافظ الخطاب السياسي السوري في الغالب على نبرته الثورية العتيقة. ان ما أطلق عليه أحد الباحثين “فوز” الأفكار الاقتصادية الليبرالية في تطوير العالم يبقى بعيد المنال ولو أنه مطمح يحتفظ ببريقه لدى الكثير من السوريين.
ان عناصر الاستمرار القوية هذه لا تفترض أن الاقتصاد السياسي لسورية أو نظام حكمها ظل ساكناً ولم يطرأ عليه أي تغيير خلال الأعوام الثلاثين الأخيرة. فضمن حدود الهوية الشعبوية التسلطية لنظام الحكم طرأت تعديلات جوهرية على البنية والممارسة والخاطب، فقد اضطر الى تبني تحولات ما بعد الحرب الباردة على مستوى بيئته الاستراتيجية والتجاوب مع التحديات التي فرضتها عملية السلام الجارية بين العرب واسرائيل. في ابعد محاولاته مدى للتكيف مع الظروف الجديدة تعامل النظام مع المصاعب الاقتصادية المحلية بتبني نماذج عالمية والتكيف معها مفضلاً استراتيجيات لاتنمية الاقتصادية القائمة على السوق. ان اقتصاد سورية، على غرار العديد من البلدان النامية، قد تأثر بشكل عميق وسلبي بأزمة الثمانينيات الحادة هذه الأزمة التي استفحلت بسبب الانخفاض الحاد في تدفق المعونانت العربية والأجنبية والمعدلات المرتفعة جداً للانفاق العسكري بالقياس الى الانتاج المحلي الاجمالي نتيجة لذلك تناقصت قدرة النظام على مواصلة استجرار المنافع لنفسه ولزبانيته؛ فمن كانت ثروته مرتبطة بالقطاع العام عانى من تراجع حاد وغير متسق في مستوى معيشته. كذلك تناقصت الاعانات المالية التي تقدمها الحكومة للمرافق الأساسية، وغدت الزيادات في اجور القطاع العام متخلفة عن معدل التضخم.
استجابة لذلك بدأت الحكومة عملية انتقائية في الاصلاح الاقتصادي اتخذت دون تدخل صندوق النقد الدولي بل انسجاماً مع المنطق السياسي لاستمرار النظام وليس استجابة للمنطق الاقتصادي لنظرية الكلاسيكية الجديدة في التنمية. لقد وسع الاصلاح الاقتصادي من دور القطاع الخاص وخفف من بعض القيود المفروضة على الاستثمار الخاص والأجنبي، وأخيراً تحرك النظام لبناء علاقات مستقرة مع مؤسسات الاقراض العالمية مسدداً دينواً طال استحقاقها للبنك الدولي في منتصف 1997. كما أن الجهود التي بذلها النظام لاعادة تشريع القطاع الخاص لم تجرد القطاع العام من مكانته المميزة بوصفه حجر الأساس لما يعرف الآن رسمياً بـ”الاقتصاد المختلط”. ولم تجر خصخصة لمشاريع الدولة في سورية، حتى أن كبار الساسة السوريين قد استبعدوا كل امكانية للقيام بخطوات مماثلة في المستقبل معتبرين أنه غير مسموح بها. وتم دمج القطاع الخاص في نظام الحكم ولو بشكل غير كامل، لكن يبقى لاعباً سياسياً ومشاركاً ثانوياً في عملية صنع السياسة الاقتصادية. فالدولة، وليس الرأسمال، هي من يحدد شروط انخراط القطاع الخاص وحدود مشاركته.
ما من شك في أن اجراءات التعديل والتأقلم هذه على تواضعها، قياساً بالتغييرات في أمكنة أخرى، نجحت في احداث تعديلات واسعة في نظام الحكم في سورية. انها تحمل امكانية انتقال سورية بشكل حاسم الى تدابير اقتصادية وسياسة ما بعد شعبوية وأكثر تعددية. ولعل أبرز التحديات التي واجهها النظام يتركز في احتمال أن يؤدي اجتماع أربعة عوامل الضغوط الاقتصادية واعادة التخطيط الاستراتيجي وعملية السلام والتقنيات المعلوماتية الجديدة غير المركزية الى قلب التوازن الذي تأسس ما بين عام 1963 و1970 وإفساح المجال أمام اعادة صياغة واسعة لنظام الحكم. ان الخوف من احتمال حدوث ذلك تسبب في نشوء جدال كبير ضمن حزب البعض وفي صفوف المعارضة الراديكالية. ولم يعقد أي مؤتمر عام للحزب منذ عقد من الزمان وذلك جزئياً لمنع أي افصاح علني عن شقاق داخلي.
على أية حال ان المفاجئ في تعديلات هذه الفترة ليس المستوى الذي وصلت اليه في خلخلة التدابير المعتمدة، بل الدرجة التي بلغتها التسلطية الشعبوية السورية في اظهار قدرتها على التكيف مع هذه التعديلات. لقد أظهر النظام على الدوام مرونته وقدرته على التاقلم مع شروط الاحتواء المعاد تحديدها، واعادة بلورة سياساته الاقتصادية والخارجية. لقد تعامل النظام مع هذه الحدود على أنها مرنة ومطاوعة وقابلة للتعديل، الأمر الذي جنبه الى حد بعيد الخيارات القطعية الحادة التي قد تعرضه لضغوط تغييرات أوسع. لكن حتى هذه المرونة لها حدودها هي الأخرى. ان الحاجة الملحة الى اعادة انتاج نظام حكم شعبوي تسلطي قد اتسمت برسم حدود التغيير العملي ضمن اقتصاد سورية السياسي، وتم التعامل بقسوة شديدة مع أي مؤشر يهدد هذا المطلب. وعلى الرغم من استعدادها للتكيف مع درجة كبيرة من التغيير الا ان “الطبقة العليا المقدسة” في “المملكة السياسية” الشعبوية في سورية قد ظلت معافاة من حيث بنيتها الأساسية.
ان الشعبوية الراديكالية في سورية، بوصفها نظام حكم وطيد ومتكيف، قد طورت معها مساراً مناقضاً لوجهة النظر التي حُملت طويلاً على أن الشعبوية تشكل بالضرورة أساساً غير متين في مشروع بناء الدولة. وعلى النقيض مما رآه الأميركيون اللاتينيون تجربة نموذجية عن فشل بناء الدولة الشعبوية، فقد توطدت الشعبوية السورية ضمن “مساحة سياسية قانونية وبنية تحتية تنظيمية” مارست نفوذاً قوياً ومستمراً على السياسة اليومية وصناعة السياسة. وإذا ما أجبرتنا التجربة السورية على اعادة النظر في امكانية تشكيل دولة شعبوية تسلطية ناجحة، فثمة مجذور من أن هذا المسار بالتحديد لا يمكن توفره على نحو متساؤٍ لدى كل النخب الشعبوية الراغبة في ذلك. ففي أميركا اللاتينية ظهر أن المشاكل العامة التي تحول دون بناء نظام شعبوي كانت حاسمة، في حين أنها لم تكن كذلك في سورية. من الواضح ان القدرة على تجاوز معضلات ترسيخ الشعبوية التسلطية متفاوتة لدى البشر؛ وقد ناقشت بأنها متصلة بمجموعة مميزة من الخصائص البنيوية والمؤسساتية؛ وبالطرق التي يمكن فيها لهذه الخصائص البنيوية والمؤسساتية، وبالطرق التي يمكن فيها لهذه الخصائص أن تؤثر في الخيارات الاستراتيجية. فالمؤسسات والبنى الاقتصادية لا تفسر بذاتها، وتلقائياً، الخيارات الخاصة للأطراف السياسية الفاعلة، لكنها مع ذلك تمارس تأثيراً كبيراً.انها تشكل ذخيرة استراتيجية بطريقة توفر معها خيارات معينة فيما تستبعد خيارات أخرى، وتزيد من احتمالات المكاسب التي يمكن تحقيقها باتباع استراتيجية مطروحة والتخفيف من التكاليف المحتملة.
من بين الظروف البنيوية التي وضعتها بالحسبان في هذا الكتاب، والتي تستحق اعتباراً خاصاً وتنطوي على مضامين نظرية محددة، مسألة انعزال سورية الجزئي عن الشبكات الرأسمالية القائمة حالياً. ان افتقار سورية للاندماج في نظام رأسمالي أكبر في فترة الاستقلال فتح احتمالات مواجهة الرأسماليين المحليين وتهميشهم بطريقة ربما لم تكن لتحدث في ظل ظروف أخرى. بالتأكيد ان تجربة بناء دولة شعبوية فاشلة في حالات أخرى غالباً ما يُعزى، على الأقل جزئياً، الى العلاقة السببية بين الاندماج في شبكات رأسمالية عالمية للتبادل وبين القيود المفروضة على السقف الذي عنده يمكن للساسة الشعبويين أن يهملوا مصالح الرأسمال المحلي. وثمة سعي دائم للتأكيد ان الاندماج العمق يقترن حتماً بمستوى عال من القيود المفروضة على القوى السياسية الشعبوية الفاعلة. ان تجربة سورية، على الأقل، تؤكد نفي علاقة كهذه. فالاندماج الضعيف يرتبط تبادلياً بضعف القيود المفروضة على النخب الشعبوية لاسياسية الراديكالية في ما يتعلق بمدى امكانية اعادة تنظيم الاقتصاد وتهميش الرأسماليين. ان ترابطاً كهذا يترك تساؤلاً بلا جواب متعلقاً بما اذا كان الاندماج الضعيف سبباً في راديكالية الشعبويين السوريين، لكنه بالتأكيد أسهم بقوة في خلق بيئة استراتيجية اعتُبرت فيها الشعبوية الراديكالية خياراً سياسياً قابلاً للتطبيق.
ان عزو هذه الأهمية الكبرى للاندماج الضعيف في سورية له مضامينه النظرية التي تمتد الى أبعد من خصوصيات القضية السورية. ففي نظرية التنمية ثمة صيغ متعددة تفترض ان اندماج البلدان النامية في نظام رأسمالي عالمي يعد عاملاً أساسياً في بروز الأنظمة التسلطية في الأطراف. كذلك تركز بوجه خاص على صيغة التسلطية التي يمكمن هدفها في وضع الاقتصاديات المحلية على قدم المساواة مع مصالح الرأسمال الأجنبي. هذه الصيغ النظرية تنطوي ضمناً على رأي مفاده ان غياب الرأسمال الأجنبي، أي غياب الرأسمالية العالمية، سيوفر مسارات تنموية أكثر ديموقراطية. لكن التجربة السورية تفترض بأن وجهات نظر كهذه مفرطة في التفاؤل. ويحكم الأهمية القصوى لاختلاف الصيغ التي يمكن أن تتخذها التسلطية فالصيغ الشعبوية تنكشف عن طرائق عمل اجتماعية واقتصادية وسياسية شديدة الاختلاف عن نظيراتها في الصيغ التسلطية البيروقراطية يجب أن ندرك أن الاندماج الضعيف والاندماج العميق قد يؤديان الدور نفسه في تسهيل اقامة أنظمة حكم تسلطية. لذا فإن هيرشمان محق لا محالة حين يفترض أن ادخال اقتصاد ما في السوق العالمية قد تكون له عواقب مقيدة للأشكال التسلطية المتوفر لدى نخب الدولة. أما نتائج الاندماج الأقل عمقاً في الأسواق العالمية فقد تتمخض عن تسلطية أقل قيوداً، لا عن نشوء ديموقراطيات ليبرالية. فالتفاوت في درجة اندماج الدول النامية في السوق العالمية يخلق بداهة مسارات مختلفة في بناء تسلطية الدولة، لكنه لا يدعم الافتراض القائل بأن اندماجاً أقل يعني ديموقراطية أكثر.
هذه الاشتراطات مهمة، ولكن تنوعات على هذه الدرجة من الغنى من شأنها ترك أسئلة كثيرة دون دواب. ان تبيان العوامل المحلية التي تحدد موقع دولة ما بالنسبة الى السوق العالمية يمكن أن يساعد في توضيح الآليات المتبعة على المستوى المحلي، التي تدعم أو تقوض ترسيخ نظام تسلطي وتصوغ هويته بوصفه شعبوياً أو بيروقراطياً أو أي صفة أخرى. ان المناقشة المطروحة هنا قد اعتبرت الاندماج الضعيف في سورية واحداً من أهم التنوعات المتفردة المستقلة، ولكنها أيضاً تفسر هذا الشرط على انه محصلة لتاريخ معين، مع الأخذ بالحسبان أسباب الاندماج الضعيف المتمثلة في تجربة سورية بوصفها شبه مستعمرة فرنسية، اضافة الى وارداتها المحدودة من المنح وسوقها المحلية الصغيرة وزناً مميزاً أكبر للنتائج المتمخضة عن العوامل المحلية البنوية والمتزامنة في توضيح موقع الدولة ضمن النظام العالمي ومسار تشكيل الدولة على حد سواء(…).
المستقبل