كتاب يرصد المجتمع العميق للإخوان والسلفيين في مصر ويؤكد فقدهما له/ محمد الحمامصي
أكد د.عمار علي حسن أن التنظيمات والجماعات الدينية المسيسة قد سعت إلى تحقيق العمق في ركاب “التدين الاجتماعي”، أو التدابير الاجتماعية النابعة من الدين والتدين، والتي تبلغ ذروتها في شهر رمضان، وتستقطب حتى غير المتدينين. وتتجلى في أعمال مثل الصدقة دافعة البلاء، وصلة الأرحام، وكفالة اليتيم، وتوظيف الورع والخشوع في تحقيق السلم الأهلي، والاستفادة من المحرم الديني في الضبط الاجتماعي. ويرمي هذا إلى تكوين رأسمال اجتماعي عريض، وعابر للطبقات الاجتماعية، يمكن توظيفه في عملية التقدم نحو حيازة السلطة بتحويله إلى رأسمال سياسي، وهو ما تحقق بالفعل في مصر خلال وقت مبكر.
وأضاف في دراسته “المجتمع العميق للإخوان والسلفيين في مصر” الصادرة عن وحدة الدراسات المستقبلية بمكتبة الإسكندرية “يمكن أن حصر أسباب ترسخ “المجتمع العميق” في العالم العربي عمومًا، وفي مصر على وجه الخصوص، في النقاط التالية: جمعنة الإسلام؛ فهناك اعتقاد راسخ في أن الإسلام “دين الجماعة”، وتوالي الحقب الاستعمارية، والتمييز متعدد الأوجه، وقِدم المجتمعات العربية، وطبيعة العمران.
وعن تأثير هذا العمق الاجتماعي على الدولة في العالم العربي بشكل عام، قال د.عمار إنه إذا كان هذا العمق طوعيًّا ومتماشيًا مع الدولة الوطنية، والأفكار أو التصورات التي ينطلق منها متماشية أو منسجمة مع الثقافة المدنية والموروثات الشعبية التي تحفظ تماسك الجماعة الوطنية، فإنه يساعد الدولة على الصمود في وجه عوامل التفكك والانهيار، ويعطيها، حتى لو كانت هشة، فرصة لتتعلم من تجربة الماضي، وتبني على المجتمع العميق فتحافظ على وجودها وتنطلق به إلى الأمام. أما إذا كان هذا العمق منجذبًا إلى جماعات أو تنظيمات أيديولوجية تعمل على هدم الدولة الوطنية، أو لا تؤمن بها، فمن دون شك سيُستغل في تهشيم ما تبقى من الدولة، لإسقاطها وإقامة كيان سياسي آخر محلها.
وتناول د.عمار الدولة المصرية وحيازة الإخوان والسلفيين لـ “رأسمال اجتماعي”. حيث أثبتت البحوث الميدانية بالفعل أن التنظيمات والجماعات الدينية هي الأكثر مشاركة في تعويض العجز الذي تعانيه الدولة في توفير الخدمات الاجتماعية الأساسية لمواطنيها، وخاصة بالمناطق الفقيرة في الأرياف والأحياء العشوائية في المدن.
ورأى أن الحقيقة التي لا مهرب منها هي أن بناء “العمق الاجتماعي” للإخوان والسلفيين في أوقات عديدة لم يكن بعيدًا ليس فقط عن عجز الدولة في تقديم الخدمات للمواطنين، إنما أيضًا عن تواطؤها أو صمتها وأحيانًا دعمها.
وأوضح د.عمار إن التيار الديني لعب على التناقضات والتقلبات بين المصالح والأيديولوجيات وتمكن من جعل خطه البياني يسير دومًا في تصاعد نحو السلطة السياسية من خلال تعميق تواجده اجتماعيًّا، عابرًا للطبقات والشرائح والفئات، ومستندًا إلى “التنمية القاعدية” كأسلوب لمخاطبة المواطن المصري، وخاصة في الفئات الوسطى والدنيا، لينجح في جذبها إليه قبل أن تنفض عنه بعد انكشاف نواياه الحقيقة ووجود هوة واسعة بين الشعارات التي يرفعها وقدرته على تطبيقها في الواقع المعيش.
أما عن وسائل التمدد الاجتماعي لدى الإخوان والسلفيين في مصر، فقال “هناك مؤشران واضحان على توافر “العمق الاجتماعي” لجماعة الإخوان والتيار السلفي على اختلاف مناهله وتوجهاته؛ الأول هو انتشار مؤسساتهما الاجتماعية المتمثلة في العيادات الصحية ومراكز الدروس التعليمية والخدمات المصرفية غير الرسمية، والثاني هو ما أتاحه المسجد من فرص لا تنقطع في عقد الاجتماعات وجهًا لوجه مع الناس، خمس مرات في اليوم الواحد، ومرة كل أسبوع بعد صلاة الجمعة.
وأوضح “منذ وقت مبكر حرص مؤسس “الإخوان المسلمين” حسن البنا على أن يكون لجماعته ظهير اجتماعي قوي، يستند إلى قدرات اقتصادية ملموسة، وقد نفذ الإخوان تعاليمه فأقاموا المدارس والمستوصفات والمستشفيات والمزارع والمشروعات العقارية وشركات مواد البناء وشركات للنقل والمواصلات، وشركات لتجارة الجملة والتجزئة في المواد الغذائية والخردوات والملابس الجاهزة وغيرها. كما أقامت الجماعة العديد من المشروعات الاقتصادية تراوحت بين أنشطة التعدين والمحاجر فالغزل والنسيج فالتمويل الإسلامي إلى الطباعة والنشر والإعلام. وكان معظمها في شكل شركات مساهمة، وإلى جانب العشرات من الشركات الصغيرة التي غطت مختلف المحافظات المصرية واهتمت بأنشطة عديدة، وكانت هناك شركات كبرى نسبيًّا. وقد حصدت جماعة الإخوان من مصادر دخلها جميعًا، بما في ذلك أرباح شركاتها، مبلغًا يصل إلى 7 مليارات جنيه مصري (حوالي مليار دولار) في عام 2012، وهو العام الذي تمكنت فيه من إيصال أحد قياداتها إلى سدة الرئاسة.
ولفت إلى أن التنظيم الإداري لجماعة الإخوان يشكل مركز عملية التمدد الاجتماعي وجهة إدارتها، وهو يسير وفق ما حدده مؤسس الجماعة لها من تعريف واسع بأنها “دعوة سلفية وطريقة سنية وحقيقة صوفية وهيئة سياسية وجماعة رياضية وشركة اقتصادية وهيئة اجتماعية”. فمثل هذا التعريف فتح بذلك بابًا لتنظيم عملية امتدادها الاجتماعي، بدءًا بالمرشد ومكتب والإرشاد ومجلس الشورى، ثم المكاتب الإدارية، الموزعة على المحافظات، وتشرف على المناطق في كل محافظة، والتي تتكون من الشُّعب الواقعة في دائرة المركز أو القسم، بحد أدنى ثلاث شُعب وبحد أقصى عشر شُعب، والشعبة هي أصغر الوحدات الإدارية، ولها مجلس إدارة وجمعية عمومية، وتضم جميع الإخوان الواقعين ضمن دائرة الشعبة، وهي تنقسم في النهاية إلى مجموعة من الأسر، ولكل أسرة نقيب يتم اختياره من أعضائها.
أما بالنسبة للسلفيين، فيبين د.عمار أن مختلف جماعاتهم لا تحبذ العمل التنظيمي، وكانوا ينتقدون بشدة “الدعوة السلفية” التي نشأت في الإسكندرية؛ لأنها كان تنزع نحو التنظيم بشقيه العلني والسري. لكن الأمر تغير بعد ثورة يناير؛ إذ سارعت السلفية السائلة إلى تنظيم نفسها، واتكأت في جانب من مسلكها هذا على الجمعيات السلفية التقليدية؛ مثل “جمعية أنصار السنة المحمدية” و”الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة”.
وأضاف “استند هذا التمدد الاجتماعي إلى شبكات من القدرات الاقتصادية والدعوية. فالسلفيون لديهم ركائز مالية، وإن كان حجم أعمالهم وأموالهم يلفه غموض، حتى الآن، خاصة أن استثمارات رجال الأعمال منهم توصف بأنها متوسطة الحجم، وليس فيهم أمثال رجال الأعمال الإخوان الكبار؛ مثل يوسف ندا وحسن مالك وخيرت الشاطر”.
وأشار إلى أنه إذا كانت تنظيمات “الجهاد” غير معنية ببناء عمق اجتماعي؛ لأنها مجموعات عنقودية سرية تمارس العنف، فإن بعض “الجماعة الإسلامية” التي نشأت في مصر منتصف سبعينيات القرن العشرين أدركت منذ البداية أنها لن تتمكن من تحقيق أهدافها من دون عمل جماعي ملتزم شرعًا ومنضبط حركيًّا. وذلك من منطلق إيمانها بأن الاجتماع ضرورة لتحقيق من ضرورات الحركة الإسلامية لتحصيل أسباب القوة.
وتطرق عمار علي حسن إلى فقدان الإخوان والسلفيين لعمقهم الاجتماعي تدريجيًّا. فبعد وصولهم إلى السلطة في مصر أخذ تنظيم “الإخوان المسلمين” وجماعات “التيار السلفي” يفقدون تدريجيًّا “العمق الاجتماعي” الذي صنعوه على مهل عبر عقود من الزمن ومن خلال وسائل عدة، وكان يشكل بالنسبة لهم “الذخيرة البشرية” التي يستمدون منها العزم والنصرة، سواء عبر حشود جماهيرية متتابعة هي أقرب إلى “استعراض القوة” أو عبر التصويت في الانتخابات بدءًا من الاتحادات والروابط إلى الانتخابات التشريعية مرورًا بالنقابات المهنية.
ويتجسد فقدان العمق الاجتماعي للإخوان والسلفيين في عدة مظاهر يمكن ذكرها على النحو التالي: أفول سحر الخطاب المتأسلم، السيطرة على منافذ الوعظ ومراقبتها، استهداف مؤسسات الرعاية الاجتماعية، والمواجهة الشعبية.
وترتب على فقدان “جماعة الإخوان المسلمين” و”التيار السلفي” الكثير من عمقهم الاجتماعي الذي صنعوه في دأب ومثابرة، عدة آثار، هي في وجهها الآخر، تعد بعض مظاهر تسطح هذا العمق أو إصابته تدريجيًّا بالضحالة، وهي كما ذكرها الكاتب: إعادة صياغة الصورة الإخوانية والسلفية، تقليص قدرة الإخوان والسلفيين على التعبئة والتجنيد، وتزعزع المنتمين للإخوان والسلفيين.
ايلاف