كتاب يشهّر بقادة الاستقلال ويحتفي بالطغاة: فضائح ‘تاريخ سورية الحديث’!
حسام الدين محمد
يبشرنا هاشم عثمان في مقدمة كتابه ‘تاريخ سورية الحديث’ الصادر عن دار رياض الريس للنشر مؤخرا ب’فضائح واسرار كثيرة سيجدها القارئ في طياته’، كما انه يشير الى رغبة بفضح السياسيين السوريين الذين رسموا خريطة سوريا و’فرط بعضهم بحقوق البلاد والعباد’.
كمثال على هؤلاء، وضمن فترة تمتد بين 1918 و1970 اي 52 عاما بالتمام والكمال، يختار الكاتب في مقدمته شخصا واحدا نموذجا عن الذين ‘فرطوا بحقوق البلاد والعباد’ هو سعد الله الجابري.
‘الفضيحة’ التي أمسكها هاشم عثمان على احد آباء الاستقلال السوري هي تصريح يقول الكتاب ان الجابري صرّح به لصحافي مصري وأعرب فيه عن عدم اهتمامه بمصير ‘جزء عزيز’ من سورية على حد تعبير هاشم عثمان وهو ‘جبل الدروز’، ويشدد عثمان على هذه الواقعة من مصدرين (لكنهما مذكوران في المرجع نفسه).
اختار عثمان اذن التشهير بشخص متوفى عام 1947 (اي قبل 65 عاما) ومات عام 1947 اي بعد سنتين فحسب من الاستقلال عن فرنسا، وتجاهل شخصاً مثل حافظ الأسد حكم سورية مدة 30 عاماً، وكان شخصاً فاعلاً ومحرّكا في السياسة السورية منذ عام 1963 اي منذ 49 عاماً.
هذا التحامل على مخضرمي عهد الاستقلال سيكون هو الخيط الثخين الطويل المستمر طيلة الكتاب كما سيكون الحماس للانقلابيين مثل حسني الزعيم والحياد الماكر مع المؤسس الكبير للدكتاتورية في سورية، حافظ الأسد وحكمه، والتهجم على اعدائه ووصفهم بالتآمر والتعامل مع الرجعية، هو الخيط الآخر لسردية الكتاب.
أكثر الأمثلة اقذاعا على التشهير بالنخبة السياسية السورية المدنية التي ناضلت لاستقلال سورية هو قوله في كتابه متحدثا عن اغتيال الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، احد قادة المعارضة السورية عام 1940: ‘ووجهت اصابع الاتهام الى زعماء الكتلة الوطنية، شكري القوتلي، وسعد الله الجابري وجميل مردم بك ولطفي الحفار. وعزز هذا الاعتقاد هروبهم الى العراق'(!)، اما المرجع الذي يورده كمصدّق لهذا التحليل فهو ‘مذكرات الجنرال كاترو، مجلة الصياد، العدد 2111، تاريخ 17 نيسان/ابريل 1985’، وبما ان من الصعب ان تنشر مجلة اسبوعية مثل ‘الصياد’ كامل مذكرات الجنرال كاترو فهل يعني ذلك ان الأمر ورد في مقالة عنها؟ ثم هل يحتمل حدث جليل مثل هذا ان يعتمد مؤلف كتاب ‘تاريخي’ يدعي الحيدة والموضوعية على مصدر واحد ظهر في مجلة بعد 45 عاما من وفاة الشخص؟
بعد اتهام أهم رجال الاستقلال السوري شكري القوتلي وسعد الله الجابري وجميل مردم بك بقتل زميلهم في مقاومة الفرنسيين عبد الرحمن الشهبندر يقوم هاشم عثمان بايراد تهمة أخرى لا تقلّ بشاعة عن سابقتها حيث يقول بالحرف: ‘جرت الانتخابات في موعدها المحدد، السابع من تموز/يوليو 1947، ولعب التزوير دورا بارزاً فيها بأمر من رئيس الجمهورية شكري القوتلي، ونفذه الأمير بهجت الشهابي، محافظ دمشق. وفي يوم الانتخاب تولى الجيش الأمن في المدينة، وأشرف على التزوير. وقام الحزب الوطني بأعمال البلطجة، في كل مراكز الاقتراع بسورية، ليضمن نجاح مرشحه’ (ص 164).
بعد اتهامات القتل والتزوير تضاف السرقة والفساد، حيث يورد الكتاب ان ‘وزير الخارجية جميل مردم بك يسرف بأموال وزارة الخارجية وبأموال الميرة باعتباره رئيسا لها، وانه اشترى سيارة باسم وزارة الخارجية باثنين وثلاثين الف ليرة سورية’ (ص 141)، وتستحدث وزارة للشباب ‘كرمى لعيون منير العجلاني’ (ص 137).
لكن التشهير بالطبقة السياسية التي قادت النضال ضد فرنسا واستلمت الحكم المدني بعد الاستقلال والتعمية على مثالب بعض قادة حكم البعث المستمر منذ 49 عاما حتى اليوم ليسا هما فضيلتا الكتاب الأساسيتان:
في تعريفه الذي قدّمه الكاتب لمجموع أعماله نقرأ هذه العناوين ونفهم منها مدى أهلية هذا الكاتب لكتابة ‘تاريخ سورية الحديث’ فبينها: ‘بدوي الجبل، اثار وقصائد مجهولة’، ‘العلويون بين الاسطورة والحقيقة’، ‘صفحات من تاريخ الشيعة في ساحل بلاد الشام’، ‘هل العلويون شيعة؟’، ”مقامات ومزارات ومشاهد آل البيت في سورية’، ‘العلويون في التاريخ’، ‘الاسماعيلية بين الحقائق والاباطيل’، ‘الجفر حقيقة ام اسطورة؟’ فمن هذه العناوين العديدة يمكننا القول ان الكاتب منخرط بالفصل بين ‘الحقائق والاباطيل’، كما انه مهتم بالجغرافيا الدينية ‘مزارات آل البيت’، وبمواضيع الاسطورة الدينية الشيعية ‘الجفر’، وتجمع بين كل هذه العناوين الحالة الانتمائية الى طائفة دينية معينة والرغبة في الذبّ والدفاع عنها!
الكاتب، كما تشير مجموعة ‘مؤلفاته’، منهمك في خوض صراع ذي طبيعية دينية سياسية، وعلى ضوء هذه الطبيعة الدينية السياسية يمكننا تفهّم انتقائيته في اختيار الأشخاص الذين تنصبّ عليهم ‘الفضائح’ وتحيط بهم دوائر التشهير، فيما تغيم حدود الفضح وتتراجع امكانيات البوح حين يصل الكتاب والكاتب الى أشخاص من طبيعة دينية سياسية اخرى.
ونستطيع بسهولة متابعة الخط البياني للأسماء بحسب طبيعتها الدينية السياسية ففي بحثنا عن ما يورده الكتاب عن حافظ الأسد مثلاً نجد الاسم يرد في 7 مواضع كلها تقدم معلومات بسيطة عنه مثل توليه الحكم او توليه سلطات وزير الدفاع او انتخابه في القيادة القطرية للحزب (مرتين) وتوليه رئاسة الوزراء واخيرا بدأه عهدا جديدا للبلاد في آخر صفحة من الكتاب.
انجازات الدكتاتورية
في مقدمته يقول هاشم عثمان انه كتب كتابه بعد ان شكى كثيرون ‘من عدم وجود كتاب يضم بين دفتيه تاريخ سورية الحديث (…) يسرد بدقة وقائع هذه الفترة بوجهيها الأبيض والأسود’، لكنه، بعد هذه الاشارة الى سرد الوقائع بدقة لا يكف طوال الكتاب عن ابداء آراء فجة وناتئة أولها محاباته لبعض الطغاة على حساب الحكم المدنيّ، ففي حديثه عن حسني الزعيم يقدم لائحة بعدة صفحات عن ‘انجازات كبيرة جدا لم تعرف لها البلاد مثيلاً’. من هذه الانجازات التي يمكن اعتبارها الأسس الأولى للحكم الدكتاتوري: انشاء مكتب للمظالم ‘يتمتع اثناء تحقيقاته مع الاشخاص العاديين والرسميين بسائر الصلاحيات المعطاة قانوناً لقضاة التحقيق’، وهذا هو الجنين الأولي لما ستعانيه سورية ‘الحديثة’ من تغوّل الاجهزة الأمنية وتجاوزها السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، فمن صلاحيات المكتب المذكور ‘الدخول الى المنازل بغية تحريها’، و’يحق له الانتقال الى اي مكان ضمن الحدود السورية’!
اما ثاني انجازات الزعيم كما يوردها عثمان فهو ‘احداث مديرية عامة للدعاية والنشر’ ومن مهامها ‘توجيه الافكار’، و’مراقبة الافلام وروايات التمثيل’، و’مراقبة المطابع والطباعة والمكتبات وغرف المطالعة العامة والصحافة وجميع المطبوعات الدورية’، و’جمع المعلومات’.
أما قمّة انجازات حسني الزعيم الكبيرة فهي ‘حلّ الاحزاب وختم مكاتبها بالشمع الاحمر ومنع الموظفين من الانتماء الى حزب سياسي او القيام بأي نشاط سياسي’.
ورغم ان عثمان يورد بعض المآخذ على حسني الزعيم منها تسليمه انطون سعادة فهو يعزو ذلك مجددا الى الرعيل القديم من السياسيين ممثلا بمحسن برازي، كما يعتبر موافقته على مرور خط انابيب بترول شركة التابلاين بسورية مأخذا آخر ولكنه يعزوه ايضا الى سياسي مخضرم هو عادل ارسلان نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية آنذاك.
وفي الحين الذي لا يورد عثمان مصادر قوية تدعم اتهاماته للقوتلي والجابري وخليل مردم بك وغيرهم من رجال الاستقلال ولا يهتم البتة بالدفاع عنهم فانه يغدو فجأة شديد الحماس في الدفاع عن الزعيم مجشما نفسه عناء البحث عمن يدافعون عن الضابط الانقلابي فيقول مثلا ‘وقد اوضح أسعد الكوراني حقيقة الأمر وفند اكاذيب ومزاعم الامير عادل ارسلان وضابط المخابرات السوري سامي جمعة’، كما انه يردّ على قول ذكره معروف الدواليبي عن الزعيم بقوله ‘وهذا الكلام لم يرد على لسان أحد ممن تحدثوا عن انقلاب الزعيم وهم كثر’، ثم يقول ردا على ما ذكره مايلز كوبلاند في كتابه ‘لعبة الأمم’: ‘نحب ان نقف وقفة قصيرة وضرورية مع مايلز كوبلاند وكتابه ‘لعبة الأمم’ وما فيه من مغالطات واقوال غير صحيحة عن انقلاب حسني الزعيم’ (ص 204).
وفي عرضه لانقلاب سامي الحناوي يورد مؤرخنا الموضوعي رأيا شديد الفجاجة والتسطح يقول فيه: ‘لو ان الحناوي ‘باس’ يد الزعيم الف مرة، ووضعها على رأسه، لما وفاه حقه لما للزعيم عليه من أفضال’، وبعد ان ينافح عن الزعيم ما زُعم عن علاقة الولايات المتحدة بانقلابه يتهم الحناوي بأن وراءه المال العراقي.
وبما ان عثمان اعتبر حل الاحزاب من منجزات الزعيم فانه لا يتحدث بودّ عن كل الاجراءات الديمقراطية التي قام بها الحناوي، ومنها انتخاب جمعية تأسيسية وضعت دستورا للبلاد ثم انتخبت رئيسا لها للجمعية ورئيسا للدولة هو هاشم الاتاسي، وكذلك احالة القرارات التنفيذية على الحكومة واعادة حرية الصحافة والغاء ‘مديرية الدعاية والنشر والاذاعة’.
شمس الانفصال
ورغم ان كل اجراءات اديب الشيشكلي، الانقلابي الثالث في تاريخ سورية، تكاد تتطابق مع اجراءات حسني الزعيم من منع للاحزاب وتضييق على الصحافة(مثلا يقول هاشم عثمان في الصفحة 258 من كتابه: ‘وفي خطوة مماثلة لما قام به حسني الزعيم في فترة حكمه، وهي حلّ الأحزاب أصدرت الحكومة في اوائل شهر نيسان/ابريل 1952 مرسوما برقم 197 نص على حل جميع الاحزاب والمنظمات’) فان هذه ‘الانجازات’ لسبب غير معلوم – لا تحسب له كما حسبت لزميله.
بيضة القبّان التي تظهر ‘حياد’ هاشم عثمان وتقريره للابيض والاسود يمكن تبينها في عرضه عهد البعث الذي يقسمه ثلاثة عهود، ويقدم لهذا العهد بجملة انشائية كاشفة في لا معناها: ‘غربت شمس الانفصال يوم الثامن من آذار/مارس 1963، لتبدأ سورية مرحلة جديدة من تاريخها يقود دفتها حزب البعث العربي الاشتراكي’! سقامة هذه الجملة وسرياليتها كامنة في تناقضها البنيوي فاذا ‘غربت شمس الانفصال’ فهذا يعني ان الوحدة السورية المصرية قد بُعثت من جديد بينما الذي حصل فعلياً ان أتباع عبد الناصر ما لبثوا ان طوردوا وقتلوا وعذبوا وهرب بعضهم خارج سورية، وان العلاقات السورية المصرية تراجعت اكثر بكثير من تراجعها اثناء عهد الانفصال، بل ان حكم البعث قام باتهام عبد الناصر بأنه كان وراء محاولة انقلابية قام بها العقيد جاسم علوان!
وفي تأريخه لعهد البعث يقدم هاشم عثمان بعض انجازات هذا الحزب كما حصل من احداث دموية في مدينة حماه عام 1964 والتي يحمل الكاتب مسؤوليتها لشخص واحد هو عبد الحليم خدام الذي كان محافظ المدينة يومذاك كما لو ان قرار قصف مسجد وقتل المصلين فيه قرار للمحافظ فحسب ولا تشاركه الحكومة مسؤوليته.
بعد قيام حركة 23 شباط 1966 التي قادها صلاح جديد وحافظ الأسد ضد مؤسسي حزب البعث كميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار وكبار قادته مثل منيف الرزاز يتعامل الكاتب مع هؤلاء على انهم متآمرون (بالحرف) كما انه يستخدم مصطلحات السلطة الانقلابية نفسها فيعتبر انهم قاموا بالتحالف مع ‘جيوب الرجعية’.
يتجاوز هاشم عثمان عملية انقلاب حافظ الأسد على رفاقه عام 1970 كلية ويختصرها في الصيغة التالية: ‘ثم ان القيادة القطرية المؤقتة قررت في التاسع عشر من تشرين الثاني نوفمبر 1970 تسمية الرفيق احمد الخطيب الامين القطري رئيسا للدولة ريثما سينعقد مجلس الشعب وينتخب رئيسا للدولة. كما قررت تكليف الفريق الجوي حافظ الاسد برئاسة مجلس الوزراء.’
تاريخ الوزارات
مشكلة ‘تاريخ سورية الحديث’ ليست في تحامل كاتبه وانحيازاته وتناقضاته بل في كونه مختلاً اختلالا معرفيا صارخا لا يصح ازاءه اعتباره كتاب تاريخ بالمعنى الحقيقي للكلمة، فالكتاب ليس غير ركاكة معرفية متواصلة تستند الى فهم خطي للتاريخ ينبني على مراكمة وقائع بطريقة عشوائية.
يطابق هاشم عثمان في مفهومه البائس للكتابة التاريخية بين تاريخ سورية الحديث وبين تاريخها السياسي، ثم يختصر التاريخ السياسي لسورية الى توالي الحكام ورؤساء الوزراء والوزراء منهمكاً كل مرة بنشر أسماء كل واحد منهم (قارن مثلاً مع المؤرخ العراقي المخضرم عبد الرزاق الحسني الذي كتب ‘تاريخ الوزارات العراقية’ ولم يدّع انه ‘تاريخ العراق الحديث’)، ولكي يمتّع قراءه لا يبخل هاشم عثمان عن تضمين كتابه بيانات سياسية (واحيانا غير سياسية) دون ضابط لسبب اختيارها بالذات، من ذلك مثلا البيان الذي اصدرته حكومة الانفصال السورية واستهلك من كتابه 10 صفحات بالتمام والكمال.
واذا كان هذا البيان في روع الكاتب ذا قيمة تاريخية لا تعوّض بحيث كان على القرّاء الاطلاع عليه فلا قدرة لقارئ الكتاب على فهم ما يحشو الكاتب كتابه من أخبار لا يمكن فهم قيمتها النوعية او معنى لاختيارها، مثل ذكره خبر مرسوم جمهوري عام 1948 لتأسيس منظمة فرعية رسمية لمنظمة التغذية والزراعة للامم المتحدة، او ذكره ان منتدى سكينة بدمشق اقام حفل استقبال لأمير شاعر من الامارات، او ذكره افتتاح مشروع سد الرستن ‘في احتفال رسمي وشعبي شارك فيه وفد برئاسة وزير التجارة الخارجية في بلغاريا يضم ممثلين عن مؤسسة تكنو امبكس البلغارية’!
لا يعرف القارئ متى وكيف ولماذا يختار عثمان خبراً ما وعلى أي أساس يعتبر وروده في كتابه ذا علاقة ب’تاريخ سورية الحديث’، لكن المفارقة الضخمة، في كتاب يحاول التركيز على الشؤون السياسية، ان الشؤون السياسية الحقيقية تمرق من بين أصابعه فلا يهتم بها، او تغيب عن ذهنه تماما او تحضر بخجل.
في ذروة سرديته الأساسية عن تبدل الحكام ووزاراتهم يصحو الكاتب احيانا فجأة ليحكي عن مشاريع اقتصادية او يعدد الكتب المعادية لعبد الناصر التي منعها حكم البعث، او ينقلنا الى أحداث ناتئة لا نفهم علّة ايرادها مثل خبر نقل رفاة الامير عبد القادر الجزائري باعتبار ذلك من منجزات حكومة يوسف زعين ثم خبر مهرجان خطابي كبير في صالة الحمراء بحماه بمناسبة الذكرى الخامسة ‘لشاعر العاصي’ بدر الدين الحامد!
يتسع تاريخ سورية الحديث عند هاشم عثمان لخبر زيارة كاتبة بريطانية مفصلا للقرّاء المتلهفين اية ساعة وصلت الى المطار واي ليلة ومن الذي دعاها ومن استقبلها ثم من زارت مثل وزير الاعلام ورئيس الاتحاد العام لنقابات العمال وجامعة دمشق واتحاد الطلبة – قسم اللغة الانكليزية وصولا الى استقبالها بعاصفة من التصفيق… ولأهمية هذا الخبر الجلل يسرح بنا هاشم عثمان مدى صفحة ونصف اخرى من كتابه!
وبعد هذا الخبر مباشرة ينطلق الكاتب للحديث عن شركة نفط العراق حيث يأخذ هذا الموضوع قرابة الصفحة ايضا فيما استغرق خبر هزيمة حزيران 1967 فقرة واحدة فقط يعزو المسؤولية فيها الى اذاعة وزير الدفاع (دون ان يسميه) خبر سقوط القنيطرة قبل سقوطها!
وفي صفحة اخرى يقدم المؤرخ بيانا لصلاح البيطار يستهلك صفحتين من كتابه وينتقل بعد ذلك مباشرة للقول: وحديث السياسة يجب ان لا ينسينا الاشارة الى بعض الاجراءات والتدابير التي اتخذتها الحكومة. منها احداث شركة باسم الشركة العربية السورية لانشاء الري مرورا باسعار الدقيق والخبز وتوزيع الكتب المدرسية والاقساط المدرسية الخ الخ وصولا الى تنظيم زراعة القطن!
وعلى طريقة بطل ‘الحب في زمن الكوليرا’ الذي يكتب اوراقا لتذكره بما يفعله ثم ينسى اين وضع الأوراق فان كاتبنا كثيرا ما يحدثنا عن أحداث جليلة ثم ينسى اخبارنا بنتائجها مثل خبر اتهامه شكري القوتلي بتزوير الانتخابات عام 1947 دون ان يقدم للقراء بعد ذلك حصيلة هذه الانتخابات لنقوم بربط منطقي بين التزوير والنتائج.
واذا كانت النتائج غير مهمة في روع الكاتب فان ما يفاجئ في تحليلاته احالة السبب نتيجة والنتيجة سبباً كأن يعتبر الانقلاب الأول في سوريا بسبب مؤامرة قام بها ‘رئيس مجلس الوزراء خالد العظم، ورئيس الجمهورية شكري القوتلي والنائب فيصل العسلي’ الذين ‘اشتركوا في مؤامرة ضد الجيش وقائده، واستغلوا قصة السمن المغشوش وضخموها واتخذوها ذريعة لتنفيذ مأربهم’، اما كيف يستقيم ان يكون المنقلب على الحكومة مظلوما ويكون الرئيس والحكومة ومجلس النواب متآمرين عليه، وقد زجّوا بعد الانقلاب في السجن، فهذا متروك لعلم الكاتب الأريب!
باختصار، فان ‘تاريخ سورية الحديث’ يتنافى تماما مع عنوانه، فهو ليس ‘تاريخا’ بقدر ما هو ‘أمالي’ ابي علي القالي، التي يتحوّل ‘التاريخ’ فيها الى حكايات تشرد في كل اتجاه، ويتحول ‘المؤرخ’ الى حكواتي قرر بعد مغادرته أطلال آل البيت ومزاراته ان يقوم بعمل عظيم عنوانه: تاريخ سورية الحديث!
لا يتوفر الكتاب على منهج ولا يجهد بالتدقيق في اصطلاحات ولا حتى يدقق بمعلوماته (يورد الكتاب مدينة مراكش مثلا ويعتبرها في الجزائر، كما يورد مدينة الحسجة بالجيم وهي الحسكة)، ولا يدرك ان التاريخ سياسة وثقافة ولغة وعمارة وهو تحليل للأبنية والأنظمة التي انتجت الواقع.
الكاتب المتنطع لكتابة تاريخ سورية حرّ فيما يدّعيه لكن المسؤولية تقع على دار بسمعة ورصانة ومصداقية رياض الريس للنشر التي سمحت بنشر هذا الكتاب الدعيّ.
بغض النظر عن كل تنفجه وادعاءاته فان هاشم عثمان صدق على الأقل في مقولة واحدة قالها وهو انه سيقدم للقراء فضائح كثيرة. كتاب ‘تاريخ سورية الحديث’ هو أكبر هذه الفضائح.
القدس العربي
إرجعوا إلى المدعو رياض نجيب الريس ودار نشره المزعومة وحاولوا أن تصنفوا مجموع ما صدر عن هذه الدار منذ تأسيسها .
وبحيادية تامة ، من هو الممول الحقيقي لهذه الدار الشهيرة!!!