كتالونيا: جمرة متقدة تحت رماد قومي لا يخمد/ صبحي حديدي
ما الذي يريده مواطنو إقليم كتالونيا، أكثر مما يتمتعون به اليوم، ومنذ عقود: لغة كتالانية مستقلة، برلمان مستقل، شرطة مستقلة، رئيس مستقل، ثقافة مستقلة مرتكزة على هوية خاصة مستقلة؟ يتساءل المراقب المعتاد على القياس المنطقي البسيط، أو ذاك التبسيطي ربما؛ حائراً، في كثير أو قليل، إزاء نتائج الاستفتاء الأخير، الذي انتهى إلى مطالبة ساحقة بالاستقلال عن الجسم الإسباني. صحيح أنّ رئيس الإقليم، كارلس بيغديمونت، وقّع ما سُمّي «إعلان الاستقلال» عن مدريد، الذي ينصّ أحد بنوده على «قيام الجمهورية الكتالونية كدولة مستقلة وذات سيادة تحترم القانون والديمقراطية والمبادئ الاجتماعية»؛ إلا أنّ الرجل قرن التوقيع بقرار موازٍ يقضي بتعليق هذا الإعلان، ريثما يدخل الإقليم في مفاوضات مع الحكومة الإسبانية المركزية، للاتفاق حول تفاصيل تنفيذه.
من جانبها رهنت هذه الحكومة، بلسان رئيس الوزراء ماريانو راخوي، إمكانية الشروع في المفاوضات بتخلّي الإقليم عن فكرة الاستقلال نهائياً؛ وذكّرت بقرار المحكمة الدستورية، لعام 2010، الذي أجهز على مطامح الإقليم في وضع اللغة الكتالانية في مرتبة أولوية أعلى من اللغة الإسبانية، كما شطب كلّ إشارة إلى «كتالونيا بوصفها أمّة». ليس هذا فحسب، إذْ لم يتردد راخوي في التهديد بتعليق مظاهر الحكم الذاتي، وتفعيل المادة 155 من الدستور (التي تشير إلى البلاد كـ«وحدة لا تنفصم»)، بما يعني إعادة فرض الحكم المركزي على الإقليم. ورغم أنه لم يلمّح إلى ما ارتكبته الشرطة من أعمال قمع عنيفة ضدّ الكتالانيين قبيل الاستفتاء وبعده، إلا أنّ راخوي لوّح بالهراوة: «ثمة حاجة ملحة لإنهاء الوضع الذي تمرّ به كتالونيا، لإعادته إلى حالة الأمن والاستقرار والهدوء، والقيام بذلك في أسرع وقت ممكن».
فيشنت بارتال، مؤسس ومدير صحيفة «فيلاويب» الإلكترونية، ذات التأثير والانتشار الواسعين، يشدد على خمس حقائق؛ لا مفرّ من أخذها بعين الاعتبار، إذا شاء المراقب أن يلمّ بعناصر مشهد المواجهة الكتالونية مع المركز: 1) أنّ مدريد، الحكومة المركزية، هي التي أخلّت بالقواعد التي وضعتها بنفسها، حين أبطلت المحكمة الدستورية وضع الاستقلال الذاتي كما تمّ التوصل إليه سنة 2005؛ و2) أنّ إسبانيا هي التي رفضت الدخول في حوار مع كتالونيا حول الاستقلال، أو حول أيّ أمر آخر في الواقع؛ و3) أنّ الشعب الكتالوني منح برلمانه، الشرعي المنتخب، تفويضاً ديمقراطياً لإعلان الاستقلال؛ و4) أنّ القانون الدولي يوفّر أرضية شرعية لتقرير المصير وللانفصال من طرف واحد، في آن معاً؛ و5) أنّ التعاطي الدولي الراهن أعطى مساندة صريحة لسيرورات تقرير المصير القومية، فخلق بذلك عُرفاً له صفة قبول الدول الجديدة ضمن إطار منظومة المجتمع الدولي.
لكنّ تعنت مدريد، في وجه نتيجة الاستفتاء الشعبي الكتالوني، ينتهي إلى حال اشتباك عالقة، تنذر بتصعيد غير مسبوق في علاقة مدريد مع برشلونة؛ كما أنها، استطراداً، تهدد بعودة التوتر إلى سابق عهدٍ مشحون، ودامٍ أيضاً، كان الجنرال فرانكو قد دشنه حين استولى على السلطة سنة 1939، فحظر استخدام اللغة الكتالانية، وحلّ جميع المؤسسات الكتالانية، وعلى رأسها الحكومة المستقلة. ولكنّ الحال العالقة، في جانب خاصّ يتجاوز حدود إسبانيا والجزيرة الإيبيرية، نذير جديد بظاهرة استيقاظ القوميات؛ التي قيل إنها انطوت مع تقويض جدار برلين، وشيوع نظريات «نهاية التاريخ» وانتصار «الإنسان الأخير» ابن اقتصاد السوق وحده، واقتصار صراعاته على «صدام الحضارات» وليس التناحر الداخلي بين القوميات والأقوام والإثنيات…
ولقد عفّ بارتال عن استعراض لائحة «الجُزُر» القومية المنزرعة في قلب أوروبا، القارّة العجوز إياها؛ والتي طالبت بالاستقلال عن كيانات أكبر، أو تكتم مطالباتها في انتظار السانحة المناسبة، ليس دون إبقاء جمرات النار حيّة متقدة تحت (ما يلوح أنه) رماد خامد. في وسع المرء أن يبدأ من اسكتلندا، التي لم تتكفل 300 سنة من ملازمة الكنف الاتحادي، أو وجود برلمان مستقل، وحزب قومي التوجّه، واستفتاء رافض للانفصال… في إقناع مواطنيها بأنّ المزيد من قوانين الحكم الذاتي لا تشبع غليل المتعطشين إلى أمجاد الماضي الاسكتلندي، الحافل بالثارات ضدّ التاج البريطاني. وللمرء ذاته أن يعرّج على إقليم الباسك، جار كتالونيا، والذي يتمتع أكثر من سواه بجباية ضرائب مستقلة وقوانين إدارية واسعة النطاق ومتعددة المجالات؛ الأمر الذي لم يخنق الرغائب القومية في الاستقلال، ولم يَحُلْ دون ولادة منظمة «إيتا» التي ظلت إرهابية طيلة نصف قرن، ولم تتخلّ عن خياراتها العنفية إلا قبل ستّ سنوات فقط. وأمّا في ألمانيا، ورغم الاستقرار الاقتصادي والسياسي المتميز على النطاق الأوروبي، وتراث الانقسام إلى ألمانيا شرقية وأخرى غربية؛ فإنّ القوميين البافاريين لم يكتفوا بحزب يمثلهم في البرلمان، هو الوحيد من نوعه، المنخرط في ائتلاف أنغيلا ميركل الحاكم؛ ولهذا فإنّ حلم «ولاية بافاريا الحرّة»، الأكبر مساحة ضمن الاتحاد الألماني، ما انفكّ يدغدغ وجدانهم الجَمْعي، ويلحّ، ويستفيق كلما أغفى قليلاً!
ألا تبدو هذه الجمرات وكأنها توشك على إحراق صورة الهوية الغربية المعاصرة، السابحة بأمان واطمئنان في عوالم وردية من الرفاه والاستقرار والعلم والتكنولوجيا والليبرالية، التي تعبر الثقافات والأمم كما السكّين في قالب الزبدة؟ ألا تبدو استفاقة الأقوام والقوميات، في قلب «أوروبا الرأسمالية الظافرة»، وكأنها استعادة طبق الأصل لكلّ أحقاب الـ «ما قبل» في الحكايات الكبرى للحضارة الغربية؛ من اليونان القديم، إلى روما القديمة، إلى رحلة كريستوفر كولومبوس، إلى عصر الأنوار والحداثة؟ ألا نقف، من جديد، أمام اهتزاز المشهد الغربي برّمته، خصوصاً في تلك الرؤية التي نهضت وتنهض على ثلاثة أقانيم جوهرية: الرأسمالية، واقتصاد السوق؛ وحقوق الإنسان، كما تقترن وجوباً بالشكل الغربي ـ الأمريكي من الديمقراطية العلمانية؛ وإطار الأمّة ـ الدولة، كصيغة هوية، معتمَدة في العلاقات الدولية؟
هذا، غنيّ عن القول، مشهد لا يسرّ المبشّرين بأنّ الاختراع الغربي للرأسمالية، وللعلم والديمقراطية الليبرالية، برهن على نجاح منقطع النظير؛ بل هو يتقدّم حثيثاً لاجتياح العالم القديم والعالم الحديث في آن معاً، ما قبل الحرب الباردة وما بعدها، ما قبل الحداثة وما بعدها، ما قبل التاريخ وما بعده. وأمّا إذا أشاح المرء بنظره بعيداً عن هذه المخططات الوردية للعالم القادم، وحدّق مليّاً في ما يجري اليوم بالذات، بصدد قوميات أوروبا ثمّ في الولايات المتحدة ذاتها، فإنّ الهويّة الغربية قد تبدو قويّة ومدجّجة بالسلاح والعتاد والمال والأسواق، ولكنها ليست تلك الهوية الظافرة المطمئنة الآمنة. وفي قلب أوروبا، في البلقان التاريخي مهد الحروب والسلام، وفي اسكتلندا وبافاريا وبادانيا والباسك وكورسيكا والفلاندرز وبروتانيا وتيرول… ثمة قوميات تستفيق على قرون غابرة، وهويات قيل إنها طُويت أو اندثرت، وصراعات لا يهدأ الواحد منها حتى يندلع آخر.
أليس الـ «ما بعد» هو، أيضاً، هذه الاستفاقة العنفية (من جانب شرطة إسبانيا المركزية) في وجه الاستفاقة القومية (كما عبّر عنها الكتالانيون المصممون على تنفيذ الاستفتاء)؟ وماذا عن هذه الجولات المباغتة في حروب قومية، قيل لنا إنها انقرضت مرّة وإلى الأبد؟ أليست، بدورها، عاقبة شبه حتمية لعجز مجتمعات ما بعد الحرب الباردة عن التلاؤم مع الأقانيم الغربية «الظافرة»؟ وكم من الجمر يتوجب أن يتقد، قبل أن يشتعل الرماد، فيُشعل نيران الأقوام والقوميات؛ في قلب الحلبات التي قيل إنها أقفلت أبواب التاريخ، مرّة وإلى الأبد؟
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي