كتّاب اللحم الحيّ
عقل العويط
يخجل المرء من نفسه ومن بلده، وهو يقارن بين ما يجري عنده وما يجري على مقربة، في سوريا خصوصاً، وفي دنيا العرب.
هناك يكسرون تماثيل الخوف في أرواحهم وفي المشهد العام، ويذهبون الى الاندماج بجسد الحلم، هنا نمعن في الوأد.
هناك يبحثون عن لقمة حرية، وإن يكن بحثهم يفضي الى مقتلة، هنا نزهق عنق الحرية ونتباهى بأننا شهود زور.
هناك يصادقون جمرة الشمس، وإن مُحرقة، هنا نطفئ الجمرة بكذبة حرية.
لم يعد تباهينا الفارغ يجدي، لأنه استنفد كل أوهامه.
لم يعد الانشاء اللفظي الذي نختبئ وراءه يعني شيئاً، فغيرنا يصنع كلماته باللحم الحيّ. وتبقى بعد فناء اللحم الحيّ!
فيا كتّاب اللحم الحيّ، يا صنّاع الحياة بالشجاعة المطلقة، بالموت المطلق، أنتم تخترعون لنا سبباً وجيهاً للمعنى. وللحياة.
منكم، أيها الثوّار في سوريا خصوصاً، وفي دنيا العرب، نتعلّم معنى أن يكون المرء كريماً جسوراً وصاحب كرامة.
من الأولاد الصغار، من الفتية، من الكهول، من النسوة، من الفتيات، من المغنّين، من الشعراء، من الرسّامين، من العمّال والفلاّحين، من الأساتذة، من الكتّاب، من المثقفين، من الهامشيين، من هؤلاء وغيرهم، في سوريا خصوصاً، وفي دنيا العرب، نتعلّم كيف يستعاد المعنى الى المعنى.
سلامٌ لكم من قلبي، وسلامٌ لكم من كلماتي، يا شعراء الحرية الجدد، في سوريا خصوصاً، وفي كل مكان حرّ آخر من دنيا العرب.
لقد عرّيتمونا من ورقة التين، فبماذا ننستر بعد الآن؟
أبشعارات الترف السخيف، أم بشعارات المقاومة، أم بشعارات الحرية المخصية؟
كانت لنا في ما مضى، من زمن طريّ قريب، ومن زمن أبعد، أوقاتٌ مكتوبة باللحم الحيّ، بالأعمار المخطوفة، بالشعر الخالص، فماذا فعلنا بهذه الأوقات؟
لقد أهدرناها، مثلما يُهدَر النظر من العيون، بل مثلما تُهدَر العيون من النظرات. بلا أيّ ثمن. وبدون أيّ معنى.
أيجب أن يذهب كل شيء سدىً عندنا؟ أيجب أن نظلّ رهينة هؤلاء “الساسة” المحليين والإقليميين؟ رهينة المذاهب والطوائف حيناً؟ الفساد ورهاب الشعبوية حيناً آخر؟ الإحباط اليأس الصمت العفن المراوحة أحياناً أخرى؟ والسلاح الجائر في كل الأحيان؟
أللاستقالة من لحمنا الحيّ حدود؟ أللاستقالة من الكرامة حدود؟ ألخجل الثقافة حدود؟ لا. لم يعد للاستقالة والخجل من حدود.
لهذا السبب، يجب وضع حدّ بالثقافة لهذا الموت العلني التافه.
يجب أن نخترع لأنفسنا “موتاً” من نوع آخر، موتاً لا يكون تافهاً. موتاً يكون هو الحياة. بهذا فقط، نخترع لنا ولبلدنا ولعلاقتنا اللبنانية – السورية حياة حرة كريمة، بالتحرر والاستقلال والسيادة والديموقراطية.
لهذا السبب بالذات، يجب أن نلتقي يا سيدات، ويا سادة. يجب أن نلتقي الآن وفوراً. وهنا.
لا أعرف كيف، لكن يجب أن نلتقي داخل الكلمات، ولِمَ لا، وجهاً لوجه.
أخاطب الثوّار، لا أنتم، أيها الغارقون في مستنقعات الإفلاس السياسي والأمني والعسكريتاري والميليشيوي والديني والثقافي.
أخاطب نفوسنا، نفوس مثقفينا، وهؤلاء الذين يعتقدون أنه لا يزال في الإمكان صناعة معجزةٍ ما في هذا البلد الصغير، المنكوب بصغائر سياسييه وقوّاديه وبسذاجة أمراء طوائفه، وبلاهاتهم المستفيضة.
أخاطب مَن يجب أن يسمع، ومَن يجب أن يخجل، ومَن يجب أن ينتفض.
لقد آن أوان التفكير في أننا، حتى هذه اللحظة، نقيم خارج المعادلة التاريخية التي تنصنع الآن في سوريا الثورة والمجتمع والشعب، وفي سائر دنيا العرب.
لقد آن أوان التفكير في أننا يجب أن نحجز لنا، ولبلدنا، مكاناً مشرِّفاً في هذه المنطقة الثائرة والمشرّعة على احتمالات المصائر الغامضة.
يجب أن نلتقي يا سيدات، ويا سادة. يجب أن نلتقي هنا، على ما قال لنا أحد كتّاب هذا “الملحق”، في العدد السابق منه. لكن، من أجل ماذا يجب أن نلتقي؟ من أجل أن نكون فحسب. ومن أجل أن نخترع المعنى.
فيا كتّاب اللحم الحيّ، في سوريا، ولبنان، فلنفكّر قليلاً وكثيراً. من أجل أن نكون فحسب. ومن أجل أن نخترع المعنى. للكلمات. للناس. وللبلاد. هناك وهنا.
النهار