كرامة السوريين التي أهينت في ساحة قرية البيضا
محمد منصور
لن ينسى الكثير من السوريين الصور التي تناوب على بثها العديد من القنوات الفضائية خلال يوم الجمعة الفائت (15/4/2011)، والتي تظهر فيها مجموعة من شبيحة أو بلطجية الأمن السوري المدججين بالسلاح، وهم يدوسون شباب ورجال قرية البيضا في محافظة بانياس، بعد أن ألقوهم أرضاً في ساحة القرية؛ فيما راحت تلك العناصر المسلحة، تدوسهم وتركل وجوههم الكريمة بأحذيتها.
وتمعن في إذلالهم وهم مقيدو الأيدي، ثم تقوم بالتقاط الصور التذكارية بكاميرا احد الهواتف المحمولة… ويصرخ أحد الشبيحة بزميل له (عفّس… عفس) فيما هو يدوس ظهر أخيه السوري ويرقص بلا ذرة خجل أو حياء أمام الكاميرا!
شكلت هذه الصور صدمة قاسية لكثير من السوريين، مثلما هزت الضمير الإنساني أو ما تبقى منه لدى الرأي العام العالمي… ولم تتوقف المهانة عند هذا الحد، بل انبرى الإعلام السوري والمحسوبون عليه، الذين يظهرون كمحللين في القنوات الفضائية (المعادية)… انبروا جميعاً يكذبون هذه الصور، وظهر أستاذ القانون الدولي عصام التكروري على قناة (العربية)، ليقول ان هناك من ورطكم بهذه الصور يا سيدي، فهي لعناصر البيشمركة ومصورة في العراق… أما رئيس اتحاد الصحافيين السوريين إلياس مراد، فيقول على فضائية أخرى ان هذه الصور لفدائيي صدام، كما يظهر عضو مجلس الشعب ورجل الدين عبد السلام راجح، الذي نحتسب في شهادته الباطلة أمام الله، ليكرر اتهام البيشمركة نفسه، الذي تبنته قناة (الدنيا) التابعة، مؤكدة أن أحد الذين يظهرون في الصور، (معالمه ولون لباسه غير واضح البتة) لباسه يشبه لباس المارينز الأمريكي.
شهادة الزور
شعر أهالي قرية البيضا بأن شهادة الزور الوقحة التي يقدمها الإعلام السوري وبعض المحللين الغارقين في العار والمستعدين لابتكار شتى أنواع الكذب من دون أن يرف لهم جفن، ومن دون أن يقيموا حرمة لعلم أو دين أو ضمير… شعروا بأن هؤلاء قد تكالبوا عليهم دفعة واحدة، ففوق الإهانة والمذلة والشتم والضرب التي تعرضوا لها، تكبر غصة الظلم والقهر في حلوقهم، حين يرون إعلام وطنهم وهو يحاول أن يغطي على هذا العار الإنساني بالكذب والتزوير. ولم يجد هؤلاء من رد أو وسيلة دفاع سوى كاميرات هواتفهم المحمولة، فنزلوا في اليوم التالي إلى ساحة قرية البيضا التي تظهر معالمها بوضوح في الفيديو السابق، وصوروا الساحة وبثوا صورها على موقع اليوتيوب على شبكة الانترنت… وحتى لا يتهموا بالفبركة مرة أخرى، اختاروا شاباً يظهر وجهه بوضوح في الفيديو السابق، ووقف هذا الشاب المجروح في كرامته وكبريائه في وسط الساحة، ليتحدث لكاميرا الهاتف الجوال، وهو يحمل بطاقة الهوية الشخصية بيده، ويعرّف بنفسه بلا أي لبس: (أنا اسمي أحمد البياسي، مواطن عربي سوري، دخل علينا الجيش بحجة التفتيش وذهب من دون أن يعتقل أي شخص… وما إن غادر حتى جاءت وراءه عناصر الأمن والمخابرات، سحبونا من فوق، وربطونا بالساحة، وصاروا يدعسون علينا ويسبونا ويشتمونا، وسبوا أعراضنا وذلونا، ووصفونا بابناء الزانية) كانت هذه هي كلمات أحمد البياسي كما ظهر بالصوت والصورة وهو يحمل بطاقته الشخصية بيده، وكأنه يريد أن يقول للعالم كله: أنا بشر من لحم ودم، لي اسم، ولي هوية، وأنا ابن هذا الوطن، ولست من مضطهدي عناصر البيشمركة أو فدائيي صدام… فأي خالد عبود يمكن أن يكذبني بعد الآن، وأي عصام داري يمكن أن يظهر ليتحدث عن استخدام ماكياج؟ وفي فيديو آخر يظهر صوت شاب آخر، ليتحدث عن ساحة قرية البيضا التي قالوا إنها في العراق فيقول: (هذه هي ساحة البيضا التي قالوا إنها في العراق… ما لها بالعراق ولا شي… هذي ساحة البيضا ببانياس، وهذي الدكاكين الموجودة كلها، وهذا التلفزيون السوري كله كذاب). بهذه الكلمات البسيطة المجروحة، المملوءة بقهر الإهانة أولا، وقهر التزوير والإنكار ثانياَ… يتحدث هؤلاء السوريون الشرفاء، وقد هالهم أن يصل الإفك الباطل بإعلامهم إلى حد لا يصدقه عقل، ولا تقبله كرامة حر.
اعتراف خجول
بعد نشر هذه الصور التأكيدية على نطاق واسع، دخلت جريدة ‘الأخبار’ اللبنانية التابعة لحزب الله، على خط إسناد هذه الرواية التي انكشف زيفها، وقدمت اعترافاً خجولاً بأن الفيديو (حقيقي وليس مفبركاً) فأشارت إلى أن مصدراً سورياً أكد أن الشريط حقيقي لكنه يعود لسنوات خلت، ولا علاقة له بقرية البيضا… وعادت للقول بأن الصور التي نشرت على موقع التواصل الاجتماعي (لم يجر التحقق من صحتها) في محاولة لإيجاد منفذ للتشكيك، حتى بعد ظهور صور شهادة البياسي، وبعض الأهالي الآخرين، ثم ظهور فيديو آخر لصور الشبيحة أنفسهم، في ساحة البيضا نفسها، وهم يؤكدون للسيد الرئيس في هتافات حضارية: (يا بشار ولا تهتم نحنا رجالك بنشرب دم).
وهكذا كان على رجال قرية البيضا، ان يداروا غصة الألم بعد أن نشرت صورهم وهم يهانون ويذلون في وطنهم بطريقة همجية مقززة… كان عليهم أن يداروا جرحاً يطل من عيونهم إذا التقت عين أب مهان بنظرة في عين ابنه، أو أخ في عين أخيه… لكن السوريين الذي جعلهم حلم الحرية قلباً واحداً ويداً واحدة، هتفوا لرجال قرية البيضا في حمص بالأمس: (من حمص لبانياس أهل البيضا على الراس) فقد شعر الكثير من السوريين بأن كل ركلة حذاء وجهت لوجه شاب أو رجل من أهالي البيضا وجهت لوجوههم، ومستهم جميعهم، وأهانتهم وآلمتهم جميعاً… وأن كرامتهم قد ديست في تلك الساحة الحزينة التي لا يدين ما جرى فيها أهلها، بل من اعتدوا عليهم ونكلوا بهم… فمن العار أن يكون أنصار أي حاكم على وجه الأرض بهذه الأخلاق… وهذه الهمجية، وهذا الفقر المدقع بمشاعر الكرامة الإنسانية!
‘المنار’ على الخط
على قناة (المنار) الحليفة، ظهر السفير السوري علي عبد الكريم، وهو مدير سابق للتلفزيون السوري، ليقول إن الرواية التي قدمها التلفزيون السوري الرسمي عن تورط أحد نواب تيار المستقبل بدعم ما سمي (خلية إرهابية) هي (إخبار يستوجب من السلطات اللبنانية التحقيق في الأمر) لكن أحداً لم يظهر على شاشة الإعلام الرسمي، ليقول ان ما حدث لأهالي البيضا في صور مباشرة تقلع عين المكابر: (إخبار يستوجب التحقيق) أيضاً، ويستوجب إنزال العقاب وإحقاق العدالة. ودرءا لأي فتنة أو عذر نقول: إن من قام بهذا العمل الهمجي المخزي لا يحسبه السوريون على أي طائفة، ولا يأخذون بجريرته أي جماعة… فأمام القانون: العقاب لا يميز سوى بين مرتكب وبريء… وإحقاق العدالة هو تكريس للوحدة الوطنية التي يفخر بها السوريون، أما الفتنة بعينها فهي ما قام به الإعلام الرسمي وحلفاؤه، من محاولات مستميتة لتزوير آلام الضحايا، وإغلاق الجرح من دون تنظيف أو علاج!
ثمة نقطة أخرى لا شك ستستغربها أجهزة الأمن، وهي أن مثل هذه الأفعال بل وأقسى، تحدث في السجون والمعتقلات السورية منذ سنوات طويلة، ويخرج المساجين ويتحدثون بها لذويهم، أو يبلعون ما لحق بهم من إهانات في أعماقهم ويسكتون وهم راضون أو مجبرون (لا فرق)… فلماذا هذا التركيز على حادثة ليست الأولى وربما لن تكون الأخيرة؟
أسئلة لا تفهم أجهزة الأمن بالتأكيد أن إجابتها بدهية الآن: فالمشكلة ببساطة هي في الصورة. هذه الصورة الصادمة التي بثتها المحطات التلفزيونية (المغرضة) عشرات المرات، صارت في ذمة الرأي العام، ولم تعد في ذمة أصحاب العلاقة وحسب… وإذا اعتادت أجهزة الأمن السورية أن ترى فيما يسمى (الرأي العام) مجرد تفصيل لا قيمة له، فيجب ألا تنسى أن هؤلاء الكومبارس، لم يعودوا مجرد عدد يضاف لمسيرة تأييد تخرج بكبسة زر، بل صاروا أشخاصا يخرجون للتظاهر، ويرفعون ـ بلا إذن مسبق- شعارات لا ترضى عنها أجهزة الأمن… وهم يطلبون العيش بكرامة مهما كلفهم ذلك من تضحيات. فإذا فهمت السلطات الأمنية هذه (المتغيرات) الجوهرية في ما حدث للشارع السوري، فإنها ستفهم بالتالي: أن إهانة أهالي أهل البيضا… صارت إهانة في العمق لكثير من السوريين، وهي في أبسط أعراف اللغة الدبلوماسية التي تحدث بها الشاعر علي عبد الكريم: (إخبار يستوجب التحقيق) لا تسخير أبواق الإعلام للإنكار والكذب واختلاق سيناريوهات غبية لا يصدقها حتى مطلقوها!
ناقد فني من سورية
القدس العربي