«كرسيّ الرئاسة».. سر السلطة
عباس بيضون
كارلوس فوانتس عاش سفيراً. لم يكن بعيداً عن السلطة، كان تقريباً في جهازها، قد يكون هذا وراء البصيرة النفاذة والتلقائية والإدراك التي كتب بها رواية «كرسي الرئاسة». بالطبع موهبة فوانتس الكبيرة وفنه الروائي هما بالتأكيد سرّ تلك الجاذبية غير العادية التي لهذه الرواية، ليست رواية «كرسي الرئاسة» الأولى التي كتبت في رسائل،لكن قدرة فوانتس على توظيف الرسائل وإيجاد سياق روائي نابض وحيوي وجذاب منها، هما بالتأكيد يشهدان لفن فوانتس الروائي. استطاع فوانتس عبر هذه الرسائل ان ينشئ ما يمكن اعتباره ملحمة روائية، واستطاع أن يؤسس منها ما يقرب من ان يكون شعراً روائياً، لكن الأهم من ذلك هو ان فوانتس، برغم قربه المادي والحسي، من مسألة السلطة وبرغم أن روايته كتبت من هذا القرب، فقد استطاع بسهولة أخَّاذة أن يحوّل روايته إلى نوع من أسطورة معاصرة، من أسطورة فيها ما في الأسطورة من مباشرة وموازاة. فنحن في كرسي الرئاسة لسنا أمام السلطة الإجرائية فحسب، لسنا أمام السلطة بوصفها تراتبيه وهيكلاً وإجراءات، لسنا أمام السلطة بوصفها بيروقراطية قاتلة كما هو الأمر عند كافكا مثلاً. لسنا أمامها بوصفها فضيحة ضمنية فحسب، بل نحن في سر السلطة، في علاقتها المستورة، في طقوسها وفي سحرها وفي رهبتها وفي مفارقتها وفي هيمنتها وغموضها. أي أننا في رواية فوانتس أمام السلطة بوصفها قدراً، وأمامها بوصفها علاقات متحركة، وبوصفها أسراراً، وبوصفها هيمنة روحية ونفسية وثقافية، وبوصفها مافيا. أي أننا في صلب ميتافيزيق السلطة وتألهها ومفارقتها وكليَّانيتها ونفاذها.
في نص رائق بالغ الحساسية بادي النضج الثقافي وعمق الاستشهادات ونفاذها، يكتب كارلوس فوانتس (دار الجمل، ترجمة جيدة لخالد جبيلي) رواية السلطة متمحورة على موقعها الرئاسي، يصعب تلخيص الرواية المؤلفة من رسائل، ففي ذلك قدر من الاعتداء عليها، إن فنها يجعلها غير قابلة للتلخيص أو يجعل من هذا التلخيص رداً للرواية إلى بحت أحداث فيما هي أكثر من ذلك، فالأحداث على أهميتها في الرواية ليست عصب الرواية. عصب الرواية هو سرد ممتلئ غني سلس وتفاصيل بعضها يكتسب رمزية ونمذجة، وشعرية في بناء النص وتساوق الأحداث، وفي البلاغة الكتابية نفسها. صحيح أن النص يفاجئ أو انه في جانب منه عامر بالمفاجآت سواء فيما يتعلق بماضي الأشخاص أو علاقاتهم، لكن هذه المفاجآت التي غالباً ما تتم، بحبكتها وصياغتها بمقدرة لامعة على السرد والبناء الروائي، ليست هي كل ما في الرواية وليست خلاصاتها ولا محورها. إنها جوانب منها تكون أحياناً رئيسية وأحياناً ثانوية لكن الرواية لا تتوقف عليها.
مع ذلك لا بد من عرض سريع للرواية التي تبدأ برسالة من ماريا دي روساريو إلى نيكولاس بالديبا. هذه الرسالة هي من سياسية محترفة ذات نفوذ وذات صولة إلى من سيغدو متبناها السياسي، ليس فقط متبناها بل هو أيضاً شاب فاتن متعلق بها وهي تلعب على هذا التعلق فتطلب منه أن يقف تحت بيتها ليراها وهي تتعرى. لكن بالديبا يفاجأ أثناء ذلك بأن شخصاً آخر سواه يقف أيضاً في ناحية ثانية ويراقب تعريها. ستبدأ من هنا شبكة العلاقات وحبكتها. علاقات في استتارها وتشابكها وسريتها تعادل حضور السلطة وهيمنتها. سنتعرف عبر الرسائل إلى الرئيس لورينزو تيران الإنساني الديموقراطي الذي يفاجئ بموته المبكر أثناء رئاسته زمرة المتآمرين عليه، سنتعرف على خافيير سينيكا الذي لم يحظ بدون سبب بلقب الرواقي الروماني سينيكا، والذي بانتحاره هو الحكيم بعد يأسه من كل شيء، يكون فعلاً قد أدى نهائياً دور مثاله الروماني، سنتعرف على بيرنال هريرا عشيق ماريا دي روساريو ووالد ابنهما المعاق الذي تخلصا منه في مصحة وسرعان ما هجراه فيها، سنتعرف على بالديبا وسنعرف أن ماضيه الأكاديمي مزور وأن له ماضياً إجرامياً آخر، لكن ذلك لم يحل دون وصوله بعد وفاة الرئيس إلى الرئاسة. إنه عالم يزاوج بين الجريمة والسياسة، بين الأزمات الوجودية والسياسة، وبين التملق والاستصغار والدونية والغايات السياسية. غير أننا ونحن نقرأ ذلك نشعر أن فوانتس يردنا إلى تاريخ السياسة بل إلى أجزاء من تواريخ محددة وعصور محددة، فرغم أن الرواية تدور في المكسيك إلا أن التاريخ الروماني في خلفيتها فسينيكا المكسيكي، كما رأينا، هو استعادة معاصرة لسينيكا الروماني، وهذا الخلط بين الجريمة والسلطة ليس مبتدأه في المكسيك وإنما هو عريق في التاريخ الروماني بل في تاريخ السياسة كلها. وهذه المداهنة والتملق اللذان يسمان السلوك السياسي، ليسا في المكسيك وحدها وإنما هما خاصية دائمة في السياسة إجمالاً، بل ونحن نقرأ «كرسي الرئاسة» لا تغيب عنا أعمال شكسبير، بل يتراءى لنا أننا أمام استعادة معاصرة لريتشارد الثاني ولهاملت وماكبث. بالطبع هذه العودة الشكسبيرية طبيعية ومفهومة ففي المسرح الشكسبيري يمكننا أن نجد الفحوى الانطولوجية لمسألة السلطة وعناصرها وإكسسوارها والصراع عليها. بل يمكننا بالعودة إلى شكسبير الانتباه إلى الشكل المسرحي لرواية فوانتس الذي حلت فيه الرسائل محل الحوارات، كما يمكننا بهذه العودة الانتباه إلى المعالجة الانطولوجية في رواية فوانتس، إلى الجانب الملحمي وحتى شبه الأسطوري في الرواية، إذ نشعر أن وراء الشخصيات الحاضرة في الرواية ظلالاً تاريخية، فرواية فوانتس تنضم هكذا إلى الأعمال الأساسية في معالجة مسألة السلطة كما رأيناها في المسرح اليوناني والمسرح الشكسبيري وكما رأيناها في أمهات الأعمال التي عالجتها. بوسعنا ان نضع كرسي الرئاسة بين هذه الأعمال وأن نعتبرها مساهمة معاصرة في تاريخ أدبي وفكري دار حول مسألة السلطة وكينونتها وسرها وميتافيزيائها.
السفير
يمكن تحميل الرواية من أحد الروابط التالية
http://news.wata.cc/pdf.php?id=1808
صفحات سورية ليست مسؤولة عن هذا الملف، وليست الجهة التي قامت برفعه، اننا فقط نوفر معلومات لمتصفحي موقعنا حول أفضل الكتب الموجودة على الأنترنت
كتب عربية، روايات عربية، تنزيل كتب، تحميل كتب، تحميل كتب عربية،