كسروان: البحث عن المعنى الضائع/ حازم صاغيّة وبيسان الشيخ
-1- من العائلات إلى العائلات… مروراً بالحرب والحزب وما بينهما
ثمّة دهشة في العالم تضرب كسروان. أهل ذاك القضاء، الممتدّ ما بين نهري الكلب جنوباً وإبراهيم شمالاً، هيّأوا أنفسهم طويلاً وهيّأهم تكوين لبنان الطائفيّ، لأن يكونوا «عمق النصارى» في مواجهة الإسلام. لكنّهم لم يحظوا في تاريخهم الحديث إلاّ بأعداء مسيحيّين، وموارنة تحديداً.
فمن آل الخازن في مواجهة الكنيسة والفلاّحين أواخر القرن التاسع عشر، إلى بشراويّي «القوّات اللبنانيّة» في ثمانينات القرن العشرين، راحت الوقائع تعاند الأماني، وذهب كثيرٌ من إعداد النفس لليوم العصيب هباء منثوراً. وبين هذين الانقسامين الكبيرين، رسم العام 1968 ابنَ كسروان، الرئيس الراحل فؤاد شهاب، عدوّاً لبني جلدته. هكذا أسقط «الحلف الثلاثيّ» الشهير لائحته في عقر داره باعتباره «عميلاً» لجمال عبدالناصر.
هكذا يُلاحَظ في الكسروانيّين أنّهم يتحدّثون عن «الإسلام» أكثر ممّا يتحدّثون عن «المسلمين»، فكأنّهم يرفعون قضيّتهم إلى مصاف الجوهر فيما يجنّبونها بشراً يجهلونهم. فهم، وفق سيّدة أقامت طويلاً في جونيه، عاصمة القضاء، «لا يعرفون مسلمين»، وحتّى الشيعة الذين يجاورونهم في البقاع، يقتصر التماسّ معهم على مناسبات عزاء متفرّقة.
وكسروان، ذاك القضاء الذي يعدّ أكثر من 200 ألف نسمة، من أصفى المناطق المارونيّة في لبنان، إذ يبلغ موارنته 90 في المئة من سكّانه. ولا شكّ في أنّ الصفاء هذا اضطلع بدور أساس في تعزيز اكتفائهم الذاتيّ، بحيث نُسبت الى الكسروانيّين كلمة «غريب» التي قيل إنّهم يطلقونها على كلّ وافد حتّى لو عاش عشرات السنين بين ظهرانيهم.
وبالمقارنة مع سائر أقضية الجبل، حضنت جبيل أقليّة شيعيّة كبرى، فيما للشيعة والدروز في المتن الجنوبيّ حضور كثيف، بينما استمرّت زعامة الشوف وعاليه معقودة للدروز. وهذا كلّه غير وارد في كسروان التي لا «يلوّث» صفاءها المارونيّ أيُّ حضور مسيحيّ آخر كالحضور الأرثوذكسيّ والأرمنيّ الوازن في المتن الشماليّ.
آل الخازن
وما يزيد حيرة كسروان بالعالم والحيرة بها في آن أنّ الزمن يشهد انهيار دول برمّتها في الشرق الأوسط، لكنّ عالم جونيه وكسروان يبدأ بالعائلات وبها ينتهي. ولمّا كانت سياسة العائلات تختلط بمعارك البلديّة والمخترة، انطوى الأمر على كثير من السفاسف والترّهات.
فمع سلام الطائف، حلّ «حزب الله» و «أمل» محلّ عائلات الشيعة، وأزاح رفيق الحريري سائر الرموز السنّيّة. أمّا عند المسيحيّين الذين تشتّتت أحزابهم، ولم تطلب الرضا السوريّ، أو لم تحرزه، فاستُحضرت العائلات من ثلاّجاتها. وحين حدث التحوّل الكبير في 2005، وجد العائدان الكبيران، ميشال عون وسمير جعجع، أنّ عليهما التوافق مع هذه العائلات على نحو ما. هكذا تألّفت خلطة كسروانيّة تجمع على نحو غريب ومتقلّب وضعيف المعنى بين الحزب والعائلة. وبموجب التركيبة هذه، بات نفوذ الأوّل يجد في الثانية ممرّه الإجباريّ وشرطه الشارط.
وما إن تُذكر العائلات في كسروان حتّى يُذكر آل الخازن. فهم الذين لازموا تاريخ جبل لبنان منذ القرن السابع عشر، وضدّ «إقطاعهم» نهضت الحركات العاميّة والفلاّحيّة في القرن التاسع عشر حيث برز اسم طانيوس شاهين.
ولئن امتدّ مهد خازنيّي الجرد من عجلتون حتّى مزرعة كفر ذبيان ومنها إلى الحدود مع البقاع، فقد توزّعوا على سائر قرى كسروان ومناطقها، من دون أن يتجاوز عددهم بضع مئات. بيد أنّ قدرتهم على توفير الخدمات، تبعاً لموقعهم من الإدارات المتعاقبة ولكونهم «حرّاس بكركي»، زوّدتهم شعبيّة أعرض من عددهم الأصليّ.
لكنّ الخازنيّين، على ما يشير النائب الحاليّ والأستاذ الجامعيّ فريد الياس الخازن، كانوا دوماً متعدّدي الرؤوس والزعامات. فهم سبق أن انقسموا في الأربعينات والخمسينات بين النائبين السابقين فريد الخازن، الدستوريّ، وزعامته في غوسطا، وكسروان الخازن، الكتلويّ، وزعامته في عجلتون. ثمّ انقسموا في الستينات بين النائب السابق الياس الخازن، الشهابيّ، ورشَيْد الخازن، الشمعونيّ. وهم اليوم مقسومون بين فريد الياس، النائب الحاليّ، وخصمه النائب السابق فريد هيكل الخازن، مع وجود وجه ثالث لا يعوزه الطموح هو كلوفيس الخازن.
إلاّ أنّ تلك العائلة التي امتحنها التاريخ بقسوة غير مَرّة، لا تزال أكثر العائلات الكسروانيّة تلاحماً. فإذا صحّ أنّ أعيانها راسلوا البطريركيّة المارونيّة معلنين أنّ فريد هيكل، لا فريد الياس، هو الذي يمثّلهم، وأنّ الأخير تؤخذ عليه «أكاديميّته» وضعف صلته بالسياسات المحلّيّة، فهذا لا يلغي أنّ أكثريّة العائلة تصوّت للمتنافسين الاثنين من أبنائها.
ويسجّل النائب الخازن، بحقّ، أنّ الذين دخلوا الحياة السياسيّة لاحقاً، من بوّابة عائلاتهم أو من باب حزب الكتائب، إنّما فعلوا من موقع الخصومة لآل الخازن وزعامتهم. ففي كتابه «بيروت ولبنان في عهد آل عثمان»، يروي يوسف الحكيم أنّ الأيّام الأخيرة من عهد المتصرفيّة شهدت تجدّد النزاع الناشب بين «حزب» المشايخ الخازنيّين ومَن يسمّيهم «حزب الشعب» الذي قاده حبيب بيطار ونعّوم باخوس وجورج زوين وبولس نجيم، الكاتب الذي عرف بـ «جوبلان» وكتب، منذ 1908، عن «القضيّة اللبنانيّة». والزعامات هذه بدأت تطلّ برأسها مع بدايات عهد المتصرفيّة ونشأة «مشايخ الصلح» الذين أضحى أعضاء «مجلس الإدارة» يُنتخبون منهم، وعلى ضفاف تلك الانتخابات جعلت تنشأ وتتعزّز حزبيّات قرويّة جديدة تشقّ «حزب الشعب» نفسه وتصدّع وحدته.
الأنتي خازن
ووفق الباحث أنطوان سلامة، ظهرت، مع المتصرفيّة، عائلات «بورجوازيّة» جديدة، مع نشأة مهن كالمراباة وبروز متعلّمين ومحامين وصيادلة من آل زوين وغانم وسواهما.
والراهن أنّ الزعامة انتقلت في فتوح كسروان إلى آل زوين، فمكثت في يد جورج إلى أن تعهّدها ابنه موريس. وبدورها التفّت العصبيّات المقابلة حول نعّوم باخوس الذي ينتمي إلى غزير، ومنه إلى قريبه لويس زيادة وصولاً الى فؤاد البون من جورة بدران الصغيرة، هو الذي ظلّ يؤيّد زوين ويواليه إلى أن حضّه الرئيس بشارة الخوري على منافسته بقصد إرجاع زوين إلى بيت الطاعة. فموريس زوين، وعلى عكس عادته، عارض العهد إذّاك لأن الشيخ الدستوريّ فريد الخازن تخلّى عنه وتركه على قارعة لائحته الانتخابيّة.
أمّا في الساحل الذي يدور حول مدينة جونيه فظهرت في ذوق مكايل عائلات نفّاع وبويز وكرم ظهور عائلة تقلا الكاثوليكيّة والشاعر الياس أبو شبكة. وكانت ذوق مكايل أحد المهود القليلة لسياسة حديثة نسبيّاً ارتبطت بفئات وسطى صاعدة. فهي إحدى المديريّات التسع التي قُسّم إليها قضاء كسروان وفق نظام جبل لبنان في 1861 الذي عُدّل بعد عامين. وهي أساساً أكبر القرى الكسروانيّة والسوق التجاريّة التي يؤمّها أصحاب الحاجات للتبضّع والإفادة من جودة منتجاتها. وبين المنتوجات التي امتازت بها صناعات مختلفة أبرزها النسيج. وقد مرّ زمن عرفت الذوق خلاله ما ينوف عن ثلاثمئة نول تغزل وتنسج، حتى تضافر انتشار الحياكة الآليّة وتفاقم الهجرة فحدّا منها وراحا يحاصرانها في رقعة منكمشة.
وهنا أيضاً لم ينفصل ظهور العائلات التي وفدت إلى السياسة، ككرم وبويز ونفّاع، عن النزاع مع الخازنيّين. ولئن تولّى زعامةَ العصبيّة الدستوريّة في الساحل آل تقلا الكاثوليك وجورج كرم المعروف بثرائه، فقد نيط أمر الكتلويّة بنهاد بويز الذي اقترن بآنسة من آل الدبس في البقاع سبق لشقيقة إميل إده، لويزا، أن تبنّتها وأورثتها ما تيسّر من أرزاقها. ومع التوسّع التدريجيّ الذي حقّقه حزب الكتائب، عبر مرشّحه التقليديّ غير الكسروانيّ الأصل لويس أبو شرف، استقرّت خريطة القوى الانتخابيّة حتّى حرب السنتين على النحو الآتي: جرود كسروان حيث الزعامة التقليديّة لآل الخازن المتعدّدي الرؤوس، وفتوح كسروان التي تتبع آل زوين في متنها ويعود هامشها الى من يناهضهم، والساحل المقسوم الى الحزبيّة الكـتلويّة بزعامة نهاد بويز، والوجه الدستوريّ، ثمّ الشهابيّ، فؤاد نفّاع، وحزب الكتائب.
كتائب وحرب
مع الكتائب، كان الحزب الحديث الأهمّ والأكبر الذي لا يشبه ائتلافي العائلات اللذين عُرفا بالكتلة الدستوريّة لبشارة الخوري والكتلة الوطنيّة لإميل إدّه.
وبالفعل عرفت كسروان أفراداً شيوعيّين كان منهم أوّل شيوعيّي لبنان، النقابيّ الذي عاش في مصر فؤاد الشمالي، كما أثّرت بعض أفكارهم الإنسانويّة في الشاعر الياس أبو شبكة، من دون أن تزحزحه عن ولائه العميق للكتلة الوطنيّة. كذلك ظهر فيها أفراد قوميّون سوريّون حمل أبرزهم أيضاً اسم فؤاد الشمالي، المنضمّ إلى جماعة «أيلول الأسود» الإرهابيّة.
لكنّ الكتائب هم وحدهم الذين كوّنوا بيئة تناظر قوّتُها، وقد انضوت فيها عائلات صغرى ومهمّشة، قوّةَ العائلات السياسيّة الكبرى. هكذا تمكّن مرشّحهم الدائم وأحد خطبائهم، الياس أبو شرف، من الوصول مرّات عدّة إلى الندوة النيابيّة.
ومع اندلاع حرب السنتين، انكفأت العائلات السياسيّة كالخازن وزوين والبون، وبدا للأفراد بينهم ممّن أرادوا «الدفاع عن المسيحيّين» أنّ الأحزاب قاطرتهم إلى ذلك.
وبالفعل وُجدت في كسروان التنظيمات الشـــبابيّة والراديكاليّـــة كلّها، من «التـــنظيم» الذي دعمته الرهبنة المارونيّة كما دعمته أجهزة تابعة للجيش، إلى «حرّاس الأرز» الذي استوحى، عند نشأته، هياج الــشاعر ســعيد عقل، المقفّى الموزون منه وغير الموزون.
يومذاك استُنفر «المجتمع المسيحيّ» كلّه. ولمّا كان المطران الذي تولّى البطريركيّة عام 1975، مع اندلاع الحرب، رجلاً معتدلاً من الجنوب، هو أنطونيوس بطرس خريش، تولّت الرهبانيّات وجامعة الكسليك وظائف الحضّ والتعبئة التي عزفت عنها بطريركيّة مترفّعة. وإذ لم تتورّع الرهبانيّات عن التسليح وتدريب التلامذة على القتال، لم تتورّع الكسليك عن دفع الأفكار إلى نهاياتها القصوى. وبوجود الأباتي شربل قسّيس على رأس الرهبانيّات، ولدت «الجبهة اللبنانيّة» في هذه البيئة الكسروانيّة الملتهبة.
لكنّ حزب الكتائب ظلّ القوّة السياسيّة والعسكريّة الأبرز، مثلما كان الإطار التنظيميّ الأوسع والأشدّ خبرة، فضلاً عن معرفة مديدة ربطت الكسروانيّين به. فإلى وراثة العائلات، بدا شريكا الانتصار الانتخابيّ في 1968 مطروحين أيضاً للتوريث: ذاك أنّ ريمون إدّه سلك طريقاً انشقّ بها عن قاعدته المارونيّة وانتهت به إلى المنفى الطوعيّ في باريس. أمّا كميل شمعون الذي تقدّمت به السنّ، فلم يعد يملك الجاذبيّة التي ينافس بها جاذبيّة الكتائبيّين الشبّان، وعلى رأسهم بشير بيار الجميّل. فالأخير، في توحيده البندقيّة المسيحيّة بعد حرب السنتين، وحّد الزعامة أيضاً في مهمّة تُوّجت عام 1980 مع مقتلة الصفرا التي قضت على المقاتلين الشماعنة.
وعلى امتداد هذه السنوات التي حوّلت بشير الجميّل معبوداً للكسروانيّين، نزف دم كثير بعدما ارتسمت لوحات بالغة البشاعة ســـبق أن شهدتها ساحات جونيه، إبّان حرب السنتين، حيث سُحل أفراد مغضوب عليهم وصفّقت لسحلهم وهلّلت جماعات غاضبة.
مع ذلك، ولأسباب كثيرة بعضها اقتصاديّ وبعضها يتعلّق بماضي الكتائب كحزب مألوف، وبنجم بشير الذي انبثق تمرّده من ذاك الكنف الأليف، لم ينفر الكسروانيّون من الكتائب النفورَ الذي عبّروا عنه لاحقاً حيال «القوّات اللبنانيّة».
-2-الطريق إلى ميشال عون تمرّ من… جونيه
كان على القوّات اللبنانيّة، منذ بشير الجميّل وخصوصاً بعده، أن تموّل نفسها بنفسها.
ذاك أنّها افتقرت إلى الدعم والتمويل اللذين وفّرتهما دول كالعراق وليبيا وإيران لميليشيات المناطق الغربيّة، ما جعل وطأة القوّات على «مجتمعها المسيحيّ» ثقيلة ومباشرة.
فمنذ 1978، مع مباشرة «توحيد البندقيّة» وبناء جيش تنحلّ الميليشيات فيه، بُدئ بفرض الخوّات المنظّمة كضريبة الواحد بالألف على العمليّات العقاريّة، ووضع نظام للجباية، فضلاً عن افتتاح مؤسّسات ومجالس قضاء لديها محقّقون يتبعونها.
لكنّ ذلك رافقه توطّد في الأمن وازدهار أمّنته تجارة السلاح والمخدّرات والتهريب الواسع الذي أعقب نهب مرفأ بيروت. كذلك شرعت تنتعش صناعة الترفيه من أصغر «سناك» للوجبات السريعة إلى الكازينوات والملاهي الليليّة بأنواعها المحلّلة والمحرّمة. ذاك أنّ مسيحيّي المناطق الأخرى تدفّقوا على جونيه، من فقرائهم ومهجَّريهم إلى أغنيائهم ومستثمريهم، فيما باتت المدينة، وهي عاصمة المسيحيّين، مُطالَبة بتوفير الحاجات والخدمات التي يسعى إليها مقاتلوهم الشبّان.
فحين انتُخب بشير رئيساً للجمهوريّة، بدا للكسروانيّين أنّ تلك الصفحة طويت بحسناتها وسيّئاتها، وأنّهم كوفئوا على صبرهم المكافأة التي يستحــــقّون. لكـــنْ لا. فبشير ما لبث أن اغتيل، والـــطريق تبدّت طويلة وشاقّة ودامية أيضاً، فضلاً عن تناقضات لا تُحصى على جانبيها.
حبيقة وجعجع والشماليّون
لقد والت القوّاتِ اللبنانيّة، المولودة من رحم الكتائب والمستفيدة من شيخوختها، عائلاتٌ صغرى تشبه تلك التي والت الكتائب من قبل. أمّا العائلات الكبرى فسايرتهم بوصفهم السلطة التي تستطيع تدبير المصالح وتوزيع المغانم. ولئن لوحظ أنّ الإقبال كان في الفتوح أعلى منه في مدينة جونيه، وفي القرى الصغرى أكثر منه في تلك الأكبر، فهذا لا يلغي أنّ كسروان تحوّلت عمقاً للسلطة القوّاتيّة وقلعة لها ومجمّعاً لأسلحتها الأثقل، كما كانت استراحةَ مقاتليها تبعاً لبُعدها النسبيّ عن مصادر القصف الذي كان يستهدف المناطق الشرقيّة.
على أيّة حال، ما لبثت أن تجمّعت نُذر النقمة على القوّات الذين، كما قال لنا أكثر من كسروانيّ، «تورّطوا في أعمال قتل»، فيما هيمنوا على المنطقة صوتاً واحداً ولوناً واحداً. وإلى المعالم التي لا يزال يذكرها الكسروانيّون بوصفها الدلالة على العهد القوّاتيّ، كزحمة الأفران والسطو على بنزين المحطّات، زاد الفساد وتضاعفت الضرائب، مع أنّ التهريب المفتوح والسائب أتاح استمرار درجة ملحوظة من البحبوحة السابقة.
فوق هذا فعلت فعلها الارتدادات العنفيّة للصراعات داخل القوّات نفسها. فحين تمكّن سمير جعجع من إنزال الهزيمة بإيلي حبيقة، مطالع 1986، بات «حكم أهل الشمال غليظاً وفاقعاً».
وفيما شرعت البيوت تبدي انزعاجها من ارتفاع الضرائب، راحت الشوارع والأحياء تبدي انزعاجاً مماثلاً من تكاثر اللهجة الشماليّة. وهي حساسيّة يرى الباحث أنطوان سلامة أنّ لها سوابقها في نزاع يوسف كرم وطانيوس شاهين، وفي خلافات دائمة كانت تنشب بين أساقفة بشرّي وأساقفة كسروان.
ويُلاحَظ، في هذا المعرض، أنّ تعبير «شماليّ» يدمج البشراويّ والزغرتاويّ، من دون تمييز، على رغم ما بينهما من حساسيّة لا تقلّ عن تلك الشماليّة – الجبليّة. فيُذكر، مثلاً، أنّ نزوح الشماليّين عن كسروان، بعد جريمة قتل طوني فرنجيّة في 1978، حرّر كازينو المعاملتين من قبضتهم التي فرضوها مع انتخاب سليمان فرنجيّة رئيساً للجمهوريّة قبل ثماني سنوات.
لكنّ أهل جونيه والساحل يبقون أقلّ من أهل الجرد تعبيراً عن امتعاضهم من القواتيّين والشماليّين. فمن كسروان لم يُقتل كثيرون في الحرب، حتّى أنّ الساحل بقي عمليّاً خارجها. أمّا الأفراد الذين قضوا كمقاتلين فأكثرهم من غزير ومن حراجل وباقي قرى الجرد. فوق هذا، فسكّان جونيه أقلّ انفعالاً وحدّة في التعبير، بسبب مدينيّتهم، كما بسبب مصالح ومشاريع تجاريّة على الساحل يملك الشماليّون جزءاً كبيراً منها. بيد أنّ هذا وإن خفّف الاستياء، لم يخفّف الرغبة في توكيد المسافة عن القوّات بوصفها ميليشيا لا تليق بـ «حضاريّتنا».
… وجاء المخلّص
هكذا حين كانت قبضة القوّات ثقيلة على جونيه وكسروان، ونشبت «حرب الإلغاء» في 1990 بينها وبين ميشال عون، وقف أغلب الكسروانيّين ضدّ حكّامهم، متعاطفين مع قائد الجيش السابق. وعندما أُدخل سمير جعجع السجنَ في 1993، سُرّ كسروانيّون كثيرون من غير أن يشمتوا.
فلوهلة جسّد عون الخير في مقابل الشرّ الذي جسّده لهم جعجع. ذاك أنّ أوّلهما استنطق العصبيّة الجبليّة ضدّ الشماليّين استنطاقه الاحتجاج الأخلاقيّ على القوّات. وحول عون التفّ المتضرّرون من القوّات ممّن عاهدوا أنفسهم ألاّ يقبلوا بغير السلطة الشرعيّة سلطةً وألاّ يدفعوا الضرائب لسواها. وبوصفه قائد جيش ورئيس الحكومة المسيحيّة التي خلفت عهد أمين الجميّل، حظي عون بتلك المواصفات. فمعركته مع القوّات، وفقاً لجوان حبيش رئيس بلديّة جونيه السابق، كانت «بداية تأسيسه مشروع الدولة الذي يحمله». وهذا ما عزّزه انتساب عون إلى المزاج السياسيّ نفسه الذي ينتسب إليه القوّاتيّون والكسروانيّون. فهو أيضاً حارب السوريّين وتعرّض للنفي الطويل بسبب حربه هذه، حتّى إذا عاد، عاد مرفقاً بصورة المسيحيّ القويّ الذي «لا يسير – كما يفعل جعجع – وراء سعد الحريري».
وكان المحكّ انتخابات 2005، حيث فاز الجنرال بأكثر من 38 ألف صوت، فيما نال منصور البون الذي رأس اللائحة المنافسة، أقلّ من 20 ألفاً. هكذا، وعلى نحو ذكّر بما فعله «الحلف الثلاثيّ» في 1968، بدا الانتصار من نصيب الخطّ الذي رفع لواء «الدفاع عن مصالح المسيحيّين»، بعد «حملة صليبيّة» لمواجهة «الحلف الرباعيّ» المسلم.
ولئن «استدارت سيّدة حريصا» في 1968، فقد ذهبت الخرافة في 2005 مذهب العثور على مخلّص كامل الأوصاف وعلى خلاص شامل يكون خاتمة الأحزان جميعها. فوفق النائب الخازن الذي استعار تعبيراً شهيراً لوليد جنبلاط، لفح عون المنطقة كأنّه تسونامي، فانتسب إلى تيّاره أربعون ألف شخص، واستطاع وحده أن يفعل ما فعله في 1968 الزعماء الثلاثة الأكبر بين الموارنة آنذاك.
وربّما كان ارتفاع شعبيّة عون بين النساء اللواتي خاطبهن بشكل خاص، الدليل الأبرز على ذاك التطلّع الذي عرفته مجتمعات كثيرة أخرى إلى المخلّص الفحل الذي يختصر الذكورة. وبالفعل استطاع قائد الجيش السابق أن يدغدغ صوراً وأن يخاطب مشاعر وافدة من نزاعات الأخوة والأشقّاء. فمن خلال مبايعته كُفّر عن الذنب حيال فؤاد شهاب الذي طعنه الكسروانيّون وتنكّروا له، وكان هو الآخر قائد جيش قبل أن يبني كرئيس جمهوريّة أوّل أتوستراد ويربط بين جونيه وقراها الجرديّة. وفي الوقت ذاته أقنع الكسروانيّون أنفسهم، عبر عون، بأنّ موارنة الجبل ما زالوا أقوياء: فلا الموت أخذ كميل شمعون، ولا حبيب الشرتوني قتل بشير الجميّل.
ولم يكن بلا دلالة أنّ الجنرال كان القطب المارونيّ الأوّل في التاريخ اللبنانيّ الحديث الذي يختار كسروان منصّته الانتــــخابيّة. فشمعون شوفيّ، وريمون إدّه جبيليّ، وبيار الجميّل بيروتيّ، وحميد وسليمان فرنجيّة زغرتاويّان.
«حزب الله»
لكنْ، وكما يعترف النائب العونيّ فريد الخازن، تأدّى عن «التفاهم» مع «حزب الله» تراجع نسبيّ في قوّة عون وتيّاره. ذاك أنّ تعلّق الكسروانيّين بـ «الدولة» الذي رفعوه في وجه القوّات، صُدم بهذا «التفاهم» مع حزب مسلّح. ثمّ إنّهم، على عكس موارنة عين الرمّانة مثلاً، لا يعرفون الضاحية الجنوبيّة ولا يختلطون بأهلها. وفي المقابل فالشيعة، على عكس السنّة الذين يمرّون بجونيه في طريقهم إلى طرابلس، لا يجدون ما يحوجهم إلى ذاك المرور. لهذا، وعلى ما يرى، الدكتور جوزيف خوري، كان لا بدّ من صنع صورة عن «الشيعيّ» يتداولها الكسروانيّون بوصفه المقاتل الشهم والبعيد في آن معاً. وقد انطوت الصورة هذه على تضاعيف عدّة، منها أنّ الشيعيّ ليس السنّيّ الذي والى عبدالناصر ثمّ والى المقاومة الفلسطينيّة علماً بأنّ أحد أبرز قادتها قال إنّ «الطريق إلى فلسطين تمرّ من جونيه». وهذا فضلاً عن أنّ الشيعيّ ليس من اعتاد حشر الرئيس المارونيّ مطالباً بالمشاركة، وليس من درج على قطع طريق الساحل كلّما تدهورت الأوضاع السياسيّة والأمنيّة. ولم يخل الأمر من تبريرات مصنوعة لإقناع صاحبها أوّلاً، مفادها أنّ عون إنّما «يستغلّ الشيعة لتكسير السنّة».
وربّما جاز القول إنّ النظرة الكسروانيّة إلى الشيعة أقلّ حدّة منها إلى السنّة، حيث لا تزال أشباح المماليك تحضر أحياناً. لكنّ هذا لا يلغي انطواء تلك النظرة على مصادر للحدّة والتوتّر. فمنذ أبي نادر وأبي نوفل الخازن، مطالع القرن السابع عشر، وهما المتّهمان بـ «تنصير الأرض»، لا يغيب النقاش في ما إذا كان الخازنيّان قد اشتريا الأراضي من الشيعة أو استوليا عليها بالقوّة التي أفضت إلى تهجيرهم إلى بعلبك. وبالفعل، وكما يلاحظ أنطوان سلامة، لا تزال في كسروان آثار تدلّ إلى الوجود الشيعيّ، كمنطقة بيت المهدي قرب ميروبا وحيّ دار علي في فاريّا، كما لا تزال بلدة حراجل، حيث احتدم الصراع القديم حول المُلكيّة، تعبّر عن هذا التشبّع المسيحيّ والنضاليّ الذي ينمّ عنه التقديس البالغ للعذراء وطقوس الاحتفال المبالِغة بسيّدة حراجل. وهي أحداث كان للتاريخ أن يطويها لولا أنّ الواقع يعيد نكأها مرّةً بعد مرّة في منطقة لا يموت موتاها. فقبل عام ونيّف مثلاً، كان لاحتكاك بين شبّان من قريتي ميروبا وحراجل وآخرين من قرية لاسا الشيعيّة أن تسبّب بسقوط قتيلين. ولم يكن سبب الاحتكاك يتعدّى أفضليّة مرور الشاحنات على طرقات محفّرة.
فالتحالف مع «حزب الله» يبقى، في آخر المطاف، أمراً ملتبساً. فمن جهة، وبسبب الانكفاء المسيحيّ عن السياسات الوطنيّة في متنها العريض، والاستغراق في الهموم المحلّيّة والعائليّة الصغرى، يلوح كأنّ ذاك التحالف هو ما يمنّ عليهم بموقع في تلك السياسات، وما يلبّي بالتالي المزاعم التأسيسيّة الكبرى لدى المسيحيّين. ومن جهة أخرى، هناك خوف من حزب الله فاقمته أحداث أيّار (مايو) 2008 حين وجّه الحزب سلاحه إلى الداخل، فلم يكن ذاك الشهم البعيد الذي صوّره لهم عون.
وهذا، على عمومه، ما عكسته نتائج انتخابات 2009 العامّة، خصوصاً وقد انحازت البطريركيّة المارونيّة، وعلى رأسها البطريرك نصر الله صفير، إلى خصوم الجنرال. فعلى عكس الانتصار المؤزّر في 2005، نال عون قرابة 32 ألف صوت فيما نال منصور البون، رئيس اللائحة المقابلة، أكثر من 29 ألفاً، مقلّصاً الفارق بينه وبين جيلبرت زوين، المرشّحة على لائحة عون، إلى بضع مئات من الأصوات.
-3- حيرة أبرشيّة بالعالم في زمن… “داعش”
< تغيّرت جونيه كثيراً منذ حرب السنتين. فالبلدة البحريّة ذات السطوح القرميديّة، المنسجمة والمتواضعة في استعراض مفاتنها، لم يبق منها الكثير. ذاك أنّ القرى الثلاث، حارة صخر وساحل علما وصربا، التي تشكّلت جونيه من تمدّدها العمرانيّ، باتت هدفاً للباطون الزاحف الذي يستهوي الباحثين عن سكن رخيص مثلما يستهوي الساعين إلى ربح وفير.
ضدّ بيروت
فمع تلك الحرب، أواسط السبعينات، تدفّق المسيحيّون بكثرة على جونيه. لقد جاؤوا من مناطقهم الأبعد بحيث أصابوها بنموّ عشوائيّ مصحوب، كما الحال دوماً، بعديد المشاكل البيئيّة. فقبلاً لم يكن فيها سوى الكازينو ونادي اليخوت في الكسليك وبعض الفنادق المتفرّقة، وبالطبع جامعة الكسليك. لكنْ مع الحرب، ومع شفط الرمول، تكاثر البناء ونشأت المشاريع السياحيّة الكبرى ومسابح وفنادق خاصّة وعشوائيّة يحميها في الغالب متنفّذون أقوياء، فيما راحت تتزايد الجامعات الخاصّة عاماً بعد عام. كذلك ارتفع عدد سكّان المدينة ومحيطها القريب إلى 250 ألفاً، أي أضعاف ما كان عليه من قبل.
وجونيه، التي كانت أساساً مرفأ صغيراً وسوقاً لأهل الجرد الكسروانيّ، نما اقتصادها وليلها على إيقاع الدفق السكّانيّ والشبّان المقاتلين. لكنْ ربّما جاز التأريخ لبداية ذاك التحوّل بسرقة مرفأ بيروت حيث انفجرت التجارة في جونيه بعدما نُصبت فيها الخيم لبيع السلع المسروقة في العاصمة ومنها. ولئن حصل هذا قبل أن يزدهر مرفأ جونيه نفسه، والذي اضطلع في الحرب بدور أساسيّ، فإنّه نمّ عن وجه بارز من وجوه العلاقة ببيروت وبفكرة «المركز» اللبنانيّ ذاته.
فكسروان، بوصفها «عاصمة الموارنة»، تستبطن وعياً نافياً لـ «عاصمة اللبنانيّين» أو محتجّاً عليه. فلم يكن صدفة أن يمهّد انهيار الوسط التجاريّ وسرقة المرفأ لانتفاخ جونيه التي آوت المسيحيّين الهاربين من مناطقهم والمهدَّدين فيها. والحال أنّ الوعي هذا، في اكتفائه الذاتيّ وفي انكفائه على رقعته الجغرافيّة، يرى إلى بيروت بوصفها، وفقاً لجوزيف خوري، «المكان المسلم، الشاهق والبعيد في وقت واحد». وأغلب الظنّ أنّ اكتظاظ الأتوستراد الذي يصل جونيه ببيروت، مُنكّداً ومُلوّثاً حياة السكّان على جانبيه، يضيف جرعة عداء أخرى لبيروت. وفي الأحوال كافّة يُلمَس كيف أنّ ما يجري في العاصمة يكاد لا يعني الكسروانيّين، حتّى لا نذكر ما قد يجري في طرابلس أو صيدا.
كذلك لم يكن صدفة أنّ يترافق تراجع جونيه السياحيّ والخدميّ، حين غادرها مع انتهاء الحرب كثيرون من المهجّرين إليها ومن التجّار الذين قصدوها، مع انبعاث بيروت بعد اتّفاق الطائف. وهذا ما أثار لدى الكسروانيّين فرضيّات تغازل الوعي التآمريّ، بعضها يردّ ذاك التراجع إلى قيام الوسط التجاريّ، وبعضها يردّه إلى توسّع شارع فردان، لكنّها كلّها تردّه إلى بيروت مرموزاً إليها بهذه التسمية أو تلك. هكذا، مثلاً، سرت سريان النار في الهشيم شائعة أنّ آل الحريري ينوون بناء جامع في جونيه، أو أنّ حليفهم المناوئ لميشال عون، منصور البون، يبيع أراضي للحريري ويبني مسجداً بين ظهرانيهم.
لكنّ ما لا يُنتبه دائماً إليه أنّ الكتائبيّين، والقوّاتيّين من بعدهم، هم الذين كانوا وسيط التغيير الذي لفح جونيه. فهم من فتح الباب لـ «الأغراب»، إمّا كمقاتلين أو كلاجئين هجّرتهم الحرب التي خاضها الطرفان المذكوران، ولاحقاً كمستثمرين وباحثين عن أرباح سريعة. وبالمعنى هذا، انكسر «الغريب» الذي وُصف به طويلاً أهل جونيه، ليستقرّ في الجرد محافظاً هناك على درجة من «الصفاء» أعلى.
فالوافدون، أو بعضهم، عمّروا المدينة بأموالهم تعميراً سيّئاً، كما أحدثوا انفتاحاً على العالم الخارجيّ لم تعرفه من قبل كسروان. وكان هذا، على ما يجري عادة في الحروب، مختلطاً وملتبساً بما فيه الكفاية. فقد استثمروا على البحر وأقام البيارتة منهم، وخصوصاً الشماليّين، مطاعمهم، كما انتشرت مشاريع سياحيّة رخيصة على الساحل، جاعلةً السباحة هواية مكلفة ومحصورة بأعضاء نادي اليخوت في الكسليك. والحال، وكما يلاحظ جوزيف خوري، أنّ التقليد التجاريّ ضعيف أصلاً في جونيه. ذاك أنّ المشاريع التي انتقلت منها، وربّما كانت بوظة القزيلي أهمّها، لم تنجح في التمدّد إلى باقي المناطق اللبنانيّة. بيد أن التمديُن «بالرخص»، كما وصفه واحد ممّن تحدّثنا إليهم، جعل المدينة متاحة ماليّاً لأعداد أكبر من المسيحيّين الذين تضاعف تدفّقهم عليها.
انفتاح… يجدّد الانغلاق
فباسم الدفاع عن الطائفة إذاً انهارت خطوط الدفاع عن المنطقة التي تهاوت عزلتها. وهو انهيار انطوى على تناقضات وتفاوت. فلدى الاستماع مثلاً إلى نائب رئيس البلديّة الحاليّ فؤاد بويري يتحدّث بشيء من الافتخار عن نشأة الفنادق والفورة العمرانيّة، لا يفوته تحوّل «عدم بيع الأراضي للغريب» شاغلاً أساسيّاً، وإن ظلّ مُحدّثنا يرفض الربط بين غربة «الغريب» وطائفته. بيد أنّ السنوات الأخيرة شهدت ضخّ أموال عراقيّة مسيحيّة، كما شاع شراء بعض المسيحيّين العراقيّين بيوتاً في وسط المدينة، واليوم يُلحظ في كسروان رأس مال سوريّ مسيحيّ أيضاً.
لكنّ شعوراً غامضاً يلازم الناظر إلى هذا الشريط الساحليّ، مفاده أنّه يأخذ سالكَه إلى لا مكان، أو يردّه لا محالة إلى المكان الذي انطلق أصلاً منه. فجونيه وساحلها محبوسان في نهاية الأمر بين طرابلس وبيروت السنيّتين، محكومان بأفقهما المُلزم، ولن يغيّر كسرُ عزلتهما حقيقةَ أنّ الجرد الكسروانيّ سيبقى، حتّى إشعار آخر، الرئة المضمونة.
هكذا، ومن بين أسباب عدّة أخرى، تُفهم قوّة ما سمّاه أحدهم «العصب الدينيّ» في كسروان، وهو ما يُلحظ، مثلاً لا حصراً، في إقبال الشبيبة على الكهنوت.
فالرهبانيّات المارونيّة اللبنانيّة الأكبر مركزها كسروان، وثمّة نشاطات رعويّة وأخويّات كثيرة كـ «الحبل بلا دنس» و «جنود مريم»، التي تعقد مؤتمراً سنويّاً وتبدو أشبه بحزب غير سياسيّ ينضوي فيه أفراد تعدّدت أحزابهم واختلفت، إلاّ أنّ قيادته تعود حصراً إلى بكركي. وبدورها تملك الأخيرة جيشاً «أبيض» مؤلّفاً من رجال الدين والرعويّات والأديرة والمدارس والجامعات وسائر المؤسّسات، ما يمنحها موقعاً مؤثّراً في توجيه شرائح كبيرة من السكّان وفي رسم خياراتهم. وتضطلع الآلة الإعلاميّة للكنيسة، خصوصاً محطّة «تيلي لوميار» (النور) التلفزيونيّة، بدور ساعدها في نشر أشكال جديدة من التشدّد الدينيّ والطقوس المصاحبة له، كـ «الخلوات» التي تستقطب شبّاناً وفتيات إلى أديرة يقيمون فيها أسبوعاً أو أكثر منقطعين للعبادة والصلاة. وغنيّ عن القول إنّ تماثيل العذراء بالأحجام جميعاً، فضلاً عن باقي الصور والرموز المسيحيّة، هي من حواضر كلّ بيت وكلّ شارع في كسروان التي تحضن، بسبب بكركي وحريصا والتلفريك، سياحة دينيّة مرموقة.
هكذا يبدو طبيعيّاً أن تظهر احتجاجات أخلاقيّة على بعض نتائج الانفتاح التي استمرّت بعد ضمور الدور السياحيّ لجونيه. فمنذ الثمانينات، نمت خدمات في المعاملتين استفزّت المحافظين، وكان وجود المسلّحين الشبّان وضرورة ترفيههم والترويح عنهم أحد أسباب الطلب على الخدمات تلك. لكنْ في أواخر ذاك العقد، كما في التسعينات، تظاهر كسروانيّون مؤمنون ضدّ هذا الوسواس الخنّاس، وشملوا بغضبهم الإعلانات التي عدّوها جنسيّة وغير أخلاقيّة.
ويبدو فؤاد بويري أحد أصوات الاحتجاج الأخلاقيّ على بعض نتائج السياحة. فهو يتحدّث عن الإزعاج الليليّ للسكّان، وعن «أوكار دعارة ومخدّرات» يقول إنّها «ضُبطت»، كما يستنكر وجود علب ليل على مقربة من كنائس ومدارس.
ودور الكنيسة، على أيّ حال، لا يلغي التراجع الذي أصاب بعض وظائفها. فهي، وفق كثيرين، لم تعد تقدّم الخدمات التي درجت طويلاً على تقديمها من تعليم وطبابة، وبات جلّ اهتمامها، كما يقول نقّادها، منصبّاً على تعمير الأديرة المهدّمة.
الحياة القليلة والصغرى
هذا العالم الأبرشيّ المحكوم بخلطة العائلات والأحزاب والكنيسة يمضي في حياته التي تظهّرها انتخابات البلديّة والمخترة. وبالطبع يبقى ميشال عون وزعامته أكبر محطّات التقاطع بين مصادر تلك الحياة الصغرى والقليلة. فهو الذي يصفه جوان حبيش بأنّه من «أعاد فرز المجتمع والعائلات» و «من تدور المعارك الانتخابيّة بين من يؤيّده ومن لا يؤيّده»، من دون أن تحول هذه الحقيقة دون اضطرار عون، في 2005 ثمّ في 2009، إلى اصطحاب اثنين من أبناء العائلات السياسيّة، هما جيلبرت زوين وفريد الخازن، على لائحته.
ويندفع بعيداً نعّوم جرجي مطر، مختار حارة صخر غير المولع بعون، في توكيده على أهميّة العائلات، بحيث يشدّد على أنّ شرط إسقاط الجنرال في أيّة انتخابات مقبلة تشكيل لائحة عائلات في وجهه من دون مشاركة الأحزاب. لكنّ التفتّت الكسروانيّ يجعل المرشّحين، العائليّين منهم والحزبيّين، يفيضون كثيراً عمّا تسعه لائحتان متنافستان تقتصر كلّ منهما على خمسة مرشّحين فحسب. وهذا ما يهبط إلى السويّات التمثيليّة الأدنى، بحيث سبق لـ13 مرشّحاً، على ما أخبرنا مطر، أن خاضوا معركة المجلس الاختياريّ في حارة صخر.
ثمّ إنّ السياسة في كسروان هي التسلّي بأخبار السياسيّين. فنوّاب عون، مثلاً، يرفلون في العاديّة فلا يثيرون انطباعات أو ردود فعل يحتكرها عون وحده. أمّا خصم الجنرال الأبرز، منصور البون، وهو نجل فؤاد البون، فيبدو كأنّ لكلّ كسروانيّ من أيّ عمر وبلدة رواية شخصيّة معه. فمنزله امتداد للشارع، يرتاح فيه سائقو سيّارات الأجرة في ساحة جونية شتاءً، فيدخلون من دون أن يقرعوا الباب. وليس من باب الدعابة ما يحكى عن أنّ البون يسبق الناس إلى المستشفى أو المطار لعيادة مريض أو لاستقبال جنازة.
وفي مقابل البون، «الخدوم» و «الشعبيّ»، يقف فارس بويز، نجل نهاد بويز والصهر السابق للرئيس الياس الهراوي. فهو من تصطبغ صورته بالتعالي والعنجهيّة والامتناع عن تقديم الخدمات من أيّ نوع، بحيث نال في انتخابات 2009 أقلّ الأصوات في اللائحة التي ضمّته. وثمّة أسماء جديدة، أو جديدة نسبيّاً، يتداولها الكلام، كنعمت أفرام، نجل الوزير الراحل جورج أفرام، وابن شقيق رئيس البلديّة الحاليّ أنطوان. وميزة عائلة أفرام كونها أسرة صناعيّة تملك مؤسّسات وشركات كـ «إندفكو» للإنماء الصناعيّ و «سانيتّا»، فضلاً عن مؤسّسات علاج من إدمان المخدّرات كـ «أمّ النور». وهذا جميعاً ما يتيح لهم توفير فرص عمل كثيرة لطالبيها، أو تقديم منح دراسيّة وخدمات إنمائيّة متفرّقة.
ويُذكر في هذا المعرض رئيس اتّحاد بلديّات كسروان نهاد نوفل الذي يُربط اسمه غالباً بـ «الإنماء» وبكونه «محسوباً على الرئيس السابق ميشال سليمان».
الوضاعة الأبرشيّة
لكنّ الباحث عن مواقف كبرى، تتجانس مع المزاعم الوطنيّة أو المارونيّة، فعن عبث يبحث. ذاك أنّ الغالبيّة الساحقة لزعماء كسروان وسياسيّيها تعاملت مع عهد الوصاية السوريّة، وشغلت في ظلّه مواقع نيابيّة أو وزاريّة. فالراحل جورج أفرام كان نائباً في 2000-2004 وتولّى عديد الحقائب الوزاريّة، ناجحاً في إخفاء كلّ لون سياسيّ له. أمّا فريد هيكل الخازن فكان نائباً في الفترة نفسها، يصفه بعض محبّيه بأنّه «لا يشتم سوريّة لأنّ مصالح وعلاقات وثيقة تربطه بها». وبدوره حلّ فارس بويز نائباً ووزيراً شبه دائم في سنوات الوصاية، وكوزير خارجيّة كان محامياً لا يلين عن «وحدة المسار والمصير». وثمّة كثيرون يتّهمون بويز بأنّه سعى طويلاً، مثله مثل فريد هيكل الخازن، لإغراء ميشال عون باصطحابه على لائحته. ومعروفٌ أنّ منصور البون، مثله مثل بويز، رشّح نفسه للتعيين نائباً في 1992 على رغم إرادة بكركي المقاطِعة. إلاّ أنّه سارع، بُعيد اختياره، إلى الصعود إليها وسؤال البطريرك صفير غفرانه.
هكذا يتصرّف السياسيّ الكسروانيّ بموجب حكمة تقول إنّ الغياب عن المنصب لأربع سنوات متتالية كفيل بتقويض زعامته. ووفقاً لحكمة كهذه تراه يبدي استعداداً مطلقاً للإذعان وللرضوخ لكلّ باب عالٍ، بحيث ينشأ نوع من الوضاعة الأبرشيّة غير المعنيّة بأيّ بُعد وطنيّ مزعوم.
وهذا ما يفسّر جزئيّاً الاكتساح العونيّ في 2005 إذ خاطبت العونيّة أيضاً الشعور بالكرامة والرفض لسنوات الوصاية وللذلّ الذي مارسه الأعيان الصغار إبّانها. لكنّه يفسّر أيضاً كيف أنّ كسروان لم تنجب زعيماً مارونيّاً واحداً من صنف زعماء الصفّ الأوّل. وعلى رغم كونها «عاصمة الموارنة»، لم يبرز من المحاربين، خلال سنوات الحروب، إلاّ اسم كسروانيّ واحد، هو القياديّ القوّاتيّ فادي أفرام الذي بقي هامشيّاً جدّاً في عائلته ومنطقته.
هذا العالم الغريب
يسير التاريخ سيراً بطيئاً، لكنّه مخادع، في كسروان. فالعونيّون والقوّاتيّون، وفقاً لأنطوان سلامة الذي وضع كتاباً عن طانيوس شاهين، يتنازعون على من هم الأحفاد الفعليّون للثائر الفلاحيّ. وهناك دائماً من يفتخر خطابيّاً بشاهين، أو بالراديكاليّ الكسروانيّ الآخر فارس الشدياق. لكنّ كسروان التي كانت الأبكر في ضرب العائلات، تعود إلى سياسة الأعيان الصغار وإلى همومهم.
يزكّي هذا الميلَ أنّ المسيحيّين عموماً، والكسروانيّين منهم خصوصاً، باتوا يفتقرون تماماً إلى كلّ أداة في فهم واقع بدأ منذ 1990 يبدو لهم غريباً وغامضاً.
فعند جوان حبيش، «لا يبدي الكسروانيّون أيّ قلق حيال الفراغ الرئاسيّ وباقي المسائل الوطنيّة الكبرى. ما يهمّهم هو الأمن والاستقرار ولقمة العيش لأنّ همومهم اليوميّة أكبر من كلّ همّ سياسيّ». أمّا اللاعبون الكبار والمؤثّرون فكلّهم غرباء مطلقون، أكانوا لبنانيّين أم غير لبنانيّين.
وإذا كانت حركة «داعش» أثارت لديهم بعض الخوف، وقدّمت للعونيّة حججاً سبق أن انتزعها منها «التفاهم» مع «حزب الله»، فهذا لا يحول دون آراء واسعة لا تنقصها سذاجة الاستخفاف بالحركة المذكورة. فـ «داعش»، وفق أحدهم، «لا تعنينا… فإذا جاءت أغلقنا حدودنا من المدفون إلى نهر الكلب، والسلاحُ موجود والشباب موجودون».
وربّما عزّز هذا النظر الضيّق إلى الأمور المحيطة أنّ الكسروانيّين، الذين استقبلوا المهجَّرين اللبنانيّين إبّان الحرب، لم يُهجَّروا هم أنفسهم من قبل. فحين انفجر الوضع السوريّ، وهو بدوره حدث غير مفهوم تماماً، تأكّد لهم صواب انكفائهم واكتفائهم، واتّسعت دائرة الكلام عن فيديراليّة ترسّخ مسافتهم وتسهر عليها.
فهم تعاطفوا مع السوريّين في بدايات ثورتهم، لكنّ الثورة طالت و «باتت تُضجرنا»، فضلاً عن تراجع العداء لآل الأسد، وهم أعداء الأمس، مع تقدّم الحركات السلفيّة والجهاديّة.
فوق هذا فالثورات العربيّة، لا سيّما منها السوريّة، ضربت الكثير من الصادرات الزراعيّة الكسروانيّة، التي يعتمد عليها أهل الجرد، إلى ليبيا ومصر والخليج.
وإذ يُقدّر اليوم عدد السوريّين في جونيه بخمسة آلاف، معظمهم عمّال ورش تقيم عائلاتهم معهم، فإنّ التذمّر يتزايد من تسوّل السوريّين الأفقر. وبينما يتفهّم البعض ألمهم «لأنّنا سبق أن عرفنا آلام المهجّرين اللبنانيّين الذين أتوا إلينا»، فهذا لا يلغي أنّهم «حين يتكاثرون قريباً من مناطق سكنيّة يسبّبون إزعاجاً (…) لقد طرأت حوادث مع العمّال السوريّين وبعض القرى منعهم من الحركة ليلاً».
ونحن، في آخر المطاف، هنا. ونحن، في آخر المطاف، هكذا. وليتدبّر سائر الكون أمره.
الحياة