صفحات العالم

كفى رياءً وتلاعباً في الحديث عن البوصلة!


ماجد كيالي

عجّت الخطابات أو الإنشاءات السياسية العقائدية، في العقود الماضية، بمصطلحات من مثل «القضية المركزية«، و«الحلقة المركزية«، و«المعركة المركزية«، و«التناقض الرئيسي«، لكنها ظلت مجرد مصطلحات فولكلورية، مثلها مثل الشعارات، إذ لا تمثّلات لها في عالم السياسة الواقعي، حيث كل شيء يخضع للتلاعب والمخاتلة والتوظيف في سبيل السلطة.

هكذا بيّنت التجربة، وبثمن باهظ، أن النظم الجمهورية، التي نشأت بواسطة الانقلابات العسكرية، إنما حاولت تعزيز شرعيتها بالقضايا الخارجية، أي بادعاء تمسّكها «المبدئي» بالقضايا القومية، ولاسيما قضية فلسطين، أكثر بكثير مما حاولت ذلك في القضايا الداخلية، المتعلقة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ورفع المستوى المعيشي والتعليمي والصحي لمواطنيها، والتي تعضد وتمكن رصيد القوة لديها، في مواجهة التحديات الخارجية.

لا بل إن هذه النظم ذهبت أبعد من ذلك بكثير، في سبيل فرض سيطرتها، ما تمثّل، أولاً، في مصادرتها الحريات، وتهميشها المجالين العام والخاص، بعد تغوّل الأجهزة الأمنية التي اشتغلت على إنشائها وتقويتها. وثانياً، بإعاقتها التنمية نظراً لتحكمها بالثروة الوطنية، واحتكارها المجال الاقتصادي، وتبديدها الموارد، وإفسادها جهاز الدولة، وتخريبها البيئة، وإهمالها البنى التحتية، وإفقارها المواطنين. وثالثاً، في تخريبها الجيش، وعبثها بعقيدته الوطنية. فالجيش بات بمثابة مؤسسة فوق المؤسسات، وبات الشغل الشاغل له ليس حماية الوطن، وإنما حماية النظام الحاكم، وصون امتيازات كبار الضباط، أو طبقة العسكر، أو بيروقراطية الجيش. وقد شهدنا في حالات اليمن وليبيا وسوريا أن هذا الجيش الذي أُنفقت عليه عشرات مليارات الدولارات، على التسلح والتدريب والمرتبات، على حساب التنمية ومستوى المعيشة، تم تفكيكه، أو تم انشاء جيش مواز له، ما تمثل في كتائب القذافي، في الحالة الليبية، والحرس الجمهوري في الحالتين اليمنية والسورية؛ إضافة الى الفرق او الوحدات الخاصة المرتبطة مباشرة بالنظام.

ماذا يعني ذلك؟ هذا يعني أن النظم المذكورة إنما قدمت ادعاءات كاذبة، ومزيفة، لمجرّد تعزيز شرعيتها، وتكريس هيمنتها السلطوية، وتغطية اخفاقاتها في مجالات بناء الدولة والاقتصاد الوطني، وإعاقتها التحول الديموقراطي، ومصادرتها حقوق الانسان والمواطن.

اللافت ان العقائديين، أو «المبدئيين»، لايبدو أنهم يبالون بكل ذلك، فهم غير مستعدين البتّة للاعتراف بمحصلة اختبار ادّعاءات هذه الأنظمة على ضوء ممارستها السياسية، في حيّز الواقع، بعد مرور نصف قرن تقريباً، الأمر الذي يبعث على الظنّ، بأن المسألة عندهم مجرّد إنشاء أو شعار، ولا أكثر من ذلك، فالمهم أن تبقى القضايا، والمهم ان تتحول البلدان إلى «ساحات«، بغض النظر عن المواطنين ومصائرهم، وبغض النظر عن القضايا المطروحة أيضاً. وفي هذا الإطار يمكن مراجعة سيرة القذافي، وسيرة نظاميّ البعث في العراق وسوريا لملاحظة تحول هذه البلدان الى جمهوريات وراثية، مع ممارسات هي على الضد تماماً من الشعارات المطروحة، والمتمثلة بالوحدة والحرية والاشتراكية.

هؤلاء العقائديون و»المبدئيون»، على تجاهلهم الواقع، وقعوا في حال من انفصام الشخصية، أيضاً، في موقفهم من الثورات العربية، التي هللوا لها حينما وقعت في تونس ومصر، وحتى في اليمن، وابدوا ممانعة شديدة لها، وتشكيكا بشرعيتها ومقاصدها، حينما وقعت في ليبيا، وبالأخص حين وصلت الى سوريا.

لقد اضعتم البوصلة؟ أين البوصلة»؟ كل شيء إلا البوصلة! هذا ما طلع علينا به العقائديون، الممانعون، «المبدئيون»، للتشكيك بالثورات العربية، لكأن فلسطين كانت محطّ أنظار الأنظمة، أو كأن هذه الأنظمة كانت تقاوم اسرائيل حقاً! وفي الواقع فإن قضية فلسطين لم تكن على رأس جدول اهتمامات هذه الأنظمة، إلا في الخطابات التلفزيونية، وكأداة استخدامية لسد الطلب على الحرية والديموقراطية ورفع مستوى المعيشة.

فمنذ أكثر من أربعة عقود، بات مؤشر البوصلة عند نظام الأسد الأب: «سورية الأسد الى الأبد»، وهذا الشعار بات مع وريثه: «بشار الأسد او نحرق البلد»، محولاً بذلك الصراع من مجرد صراع سياسي على السلطة، إلى صراع على الوجود، لا يحل إلا ببقاء الأسد الى الابد، أو خراب البلد. وهذه البوصلة كانت حولت سورية إلى مزرعة خاصة، تم بها تقويض الدولة، وتهميش المجتمع، واحتلال المجالين العام والخاص. لذا فإن من يتحدثون عن ضياع البوصلة، في معرض معارضتهم للثورة السورية، الأكثر شرعية بين الثورات الحاصلة، يؤكدون تماهيهم، عن قصد أو من دونه، مع بوصلة الأسد هذه، التي محت الوطن والمواطن، واحتلت المكان والزمان، والحاضر والمستقبل، واستباحت البلاد والعباد.

اللافت أن هؤلاء المتحدثين «المبدئيين» عن البوصلة لا يرون، أو يتقصدون تجاهل، ان العدو الإسرائيلي هو في الجنوب من سوريا، وإن الطائرات السورية التي تم دفع ثمنها المليارات لم تحلق قط في سماء هذا العدو، ولا حتى من باب «السياحة»، ومنذ 42 عاماً، ولا طلقة رصاصة حتى ضد اسرائيل. الأنكى من ذلك أن هؤلاء، أيضاً، لا يرون، او يتقصدون تجاهل، أن الطائرات والدبابات والمدفعية هي التي فقدت بوصلتها، وباتت تلقي بحممها، منذ أكثر من عام، على السوريين وبيوتهم في دوما والزبداني وحي التضامن والقابون وبرزة وداريا في دمشق، وفي اقصى الشمال، في دير الزور وحلب وإدلب والبوكمال فضلا عن حمص وحماه والمعرة.

والسؤال الذي يمكن طرحه هنا بوجع: إذا كان النظام السوري مستعدا لتحمّل هذا الثمن الباهظ، مع كل هذا القتل والدمار، في سوريا، فلم لم يقم بذلك من اجل استعادة هضبة الجولان المحتلة؟ ولمَ لمْ يطلق ولا رصاصة واحدة على إسرائيل منذ مابعد حرب 1973؟!

آن لهؤلاء أن يدركوا بأن الإنسان/المواطن هو المعيار الأول لأي قضية، فعن أي ممانعة ومقاومة يتحدثون في ظل أنظمة لا تعترف بمكانة المواطن أصلاً، فما بالك بالحديث عن حرية هذا المواطن وحقوقه؟ وعن اية مقاومة، وأية بوصلة، يجري الحديث بينما الشعوب تعيش في حال من الخوف والقهر والظلم والامتهان واستلاب الإرادة.

قصارى القول، فإن نظم الإستبداد والافساد هي المسؤولة عن تمكين اسرائيل وتفوقها في هذه المنطقة، فالشعوب المقيدة، والمهمشة، لا تقاوم. لذا، لا يمكن الحديث عن أوطان حرة من دون مواطنين أحرار. وفلسطين ليست مجرد قطعة أرض. فهي أيضاً، معنى للحرية والكرامة والعدالة. فكفى رياء وتلاعباً، بالبوصلة، أو في الحديث عن البوصلة.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى