كلام يجب أن يُقال: سورية والقدس العربي
أنور بدر
بعد مضي عقد ونيف على عملي كمراسل ثقافي لصحيفة القدس العربي في دمشق، لم أفكر للحظة واحدة بوجوب تدبيج الثناء لصحيفتي، لاعتقادي أن الإعلام الحقيقي يدافع عن نفسه دائما.
ولا أدعي أنني كنت متطابقا مع كل ما تنشره الصحيفة من دراسات ومقالات، ولا مع كل ما يرد فيها من تحاليل وآراء، لكنني أينما ذهبت من درعا في الجنوب إلى الرقة ودير الزور في شمال شرق سورية مرورا بالوسط والساحل، كنت أكتشف احترام الناس لصحيفة القدس العربي باعتبارها نموذجا للخطاب الذي يعبر بقدر المستطاع عن هموم الناس في المستوى السياسي والثقافي أيضا، ويمثل تطلعاتهم القومية بدرجة من العقلانية التي تفتقر إليها الخطابات الأيديولوجية عموما.
وفي حديث مع أحد وزراء الإعلام في سورية حول ضرورة إدخال الصحيفة إلى البلد أو رفع الحجب عن نسختها الإلكترونية بأقل تعديل، احتراماً لخطابها القومي الذي يعبر في العمق عن أيديولوجيا البعث وإن افترقا في السياسة، ولتطابق موقفهما من القضايا الأساسية للصراع العربي الإسرائيلي والموقف من الخارج عموماً، كان الجواب في واد آخر، ربما يقودنا إلى ما نحن فيه الآن، حين يحيل الوزير تلك القضية إلى جهات أخرى!
تلك الوصاية الأمنية على الإعلام وسياسة الرقابة والمنع وحجب المواقع الإلكترونية هي باعتقادي أحد وجوه وأسباب الأزمة التي تفجرت في سورية، وأحد وجوه وأسباب العجز عن حل هذه الأزمة أيضاً، لأنها ببساطة أدت إلى فقدان الثقة بين المواطن وبين خطاب النظام السياسي، وغيبت دور الإعلام كسلطة رابعة يمكن أن تراقب وتشير إلى مواطن الخلل والفساد الإداري والسياسي، حتى أن خطاب الإصلاح الأخير، إن كان هنالك من إصلاح، عجز عن الوصول إلى الناس المعنيين به، بينما اكتشفنا على النقيض من ذلك ثبات الخطاب القومي لصحيفة القدس العربي، في التزامها بحاجات الجماهير العربية للإصلاح والتغيير، من تونس ومصر إلى اليمن وليبيا وصولا إلى سورية، خطاب ينتمي للناس ويتواصل معهم، ولم يكن مفاجئا أن ينبه هذا الخطاب إلى مخاطر التدخل الخارجي في ليبيا حتى قبل حدوثه، بل ذهب هذا الخطاب إلى تأكيد مقولة النظام السوري بوجود مؤامرة واستهداف خارجي لها، وإعلان التضامن مع سورية في أي مواجهة على هذا الصعيد، شرط أن لا توجه البنادق إلى صدور المتظاهرين من أبناء الشعب والمنادين بالإصلاح، لأن هذا الإصلاح هو الذي يقوي الموقف السوري في مواجهة تلك الاستهدافات الخارجية إن وجدت، وهو الذي يضمن الوحدة الوطنية لأبناء الشعب في مواجهة التجييش الطائفي، وهو الذي يصون الوطن ويزود عن أمنه واستقراره، وبغير ذلك تنتصر الفتنة والمؤامرة، ويتعمق شرخ الانقسامات التي تهدد مستقبل البلاد حتى بعد انتهاء الانتفاضة السورية بأي اتجاه كان، ناهيك عن إمكانية الوصول إلى خيارات ليبية أو عراقية لا يتمناها أحد.
وقد لفت انتباهي في تغطية القدس العربي لأحداث سورية تنوع المشاركات العربية، وتنوع وجهات النظر التي غطت مساحة كبيرة مما جرى ويجري حتى الآن، بل نستطيع القول أن كتاب القدس العربي العرب كانوا الأجرأ في تناولهم للهم السوري من بعض كتبة المواد السوريين، وربما يعود ذلك لمساحة الأمان التي يتمتع بها الكتبة العرب قياسا إلى زملائهم السوريين، كما كان لافتا للانتباه كثافة المشاركات السورية من داخل سورية وخارجها أيضا، خاصة وأن المعارضة السورية تفتقر إلى منبر إعلامي مستقل، فكانت القدس العربي هذا المنبر الذي أتاح للكثيرين فرصة التعبير عن آرائهم وأفكارهم بحرية، فكتبت عشرات الأسماء في هذه الصحيفة دون انتظار مكافأة مالية، فربما يكون ذلك في آخر اهتمامات المهتمين بالانتفاضة السورية وما يمكن أن تسفر عنه من انعكاسات على مستقبل سورية ومستقبل المنطقة العربية ككل. وليس أدل على حجم هذا الاهتمام من أن الحدث السوري احتل في الكثير من أعداد الصحيفة ما بين 25 بالمئة إلى 50 بالمئة من مساحة الصحيفة اليومية، بل غدت القدس العربي مرجعا للكثير من المواقع الإلكترونية وللكثير من الإعلاميين فيما يخص متابعتهم للشأن السوري وشأن الثورات العربية عموما.
وإذا كان الإعلام قد انتقل من دور المتتبع للحدث واللاحق عليه سابقا، إلى دور المساهم في صناعة الحدث وتوجيه مساراته، فإننا يجب أن نعترف بالدور الريادي لصحيفة القدس العربي فيما ينتاب المنطقة من تسونامي الثورات الارتدادية، دورا وطنيا يلتزم بمطالب الجماهير العربية في الإصلاح والتغيير أبدا، وفي مواجهة كل استهدافات الخارج أيضا، دورا تستحق عليه تحية حب من كل عربي في طول البلاد وعرضها، وهو بعض من الكلام الذي أجد ضرورة أن يُقال في هذه المرحلة.
القدس العربي