كلبٌ في حديقة السّبكي!/ علي جازو
ربّما، على نحوٍ لا يمكن تبريره ولا الدفاع عنه، يتساوى مؤيّدو النظام السوري، ومعارضوه ممّن لم يُقتَلوا بعدُ أو لم يعتقلوا أو لم يحسبوا في عداد المفقودين، في درجة عدميّة هي مزيج من اللعنة والإحباط ونفاذ الصبر. ولعل شراسة المأساة السورية وفداحتها تتجلّى، والتي كانت في البداية ثورة سلمية فريدة ذات حامل أخلاقي وطني مدهش، فيمن حوّل البطولة الفذة إلى مأساة مفجعة، وحَطَّ بمطالب محقّة إلى دَرَك حرب أهلية مروِّعة!
أبرياء، مدنيون وأطفال ونساء، بلا حول ولا قوة يقتلون كل يوم. ومطلب وقف الحرب لا يعني شيئاً لأحد! عشرات الآلاف من المخطوفين ومجهولي المصير، و أكثر من 200 ألف معتقل لا يمكن توقع المصير الذي ينتظرهم، ينتظر أي واحد منهم.
بالأمس القريب خرج طبيب معتقَل مريضاً بالتهاب مميت في الكبد! نال عفو رئيس النظام السوري الذي أهدى إليه مع العفو مرضاً مميتاً. يا ترى كم من شبيه له لا ندري عنهم شيئاً، أيّ شيء! ولنعرف عن كثب هول الحرب، علينا الاستماع إلى سائق يقلّ مسافرين من بيروت – دمشق، ثم يعود بهم إلى بيروت بعد أيام.
سائق عادي، كغيره ربما، يحمل معه دزينة من علب السجائر وبضع أكياس خبز لبناني كي يتجاوز حاجزاً بعد آخر من معبر “الجديدة” إلى دمشق “حصن العروبة” التي أهانت العرب قبل غيرهم! ستة حواجز نظاميّة يليها حاجز لفرقة ماهر الأسد في انتظار العائدين كي يحيوا أياماً قليلة تحت سقف الوطن.
حواجزُ لجنودٍ، هم فقراء سوريا وحطب حريقها اليومي، يرضون بعلبة سجائر أو كيس خبز، تفصل معبر الجديدة عن قلب دمشق؛ دمشق التي ينبح فيها كلبٌ قريب من حديقة السبكي بحيّ الصالحية بعد كل طلقة مدفعية أو صاروخ أو انفجار أو سقوط قذيفة هاون، تحمل نار “الوطن” إلى حيّ المليحة أو حيّ القدم أو جوبر التي تحدّ ساحة العباسيين حيث ساحة لملعب كرة القدم الذي غدا ثكنة عسكرية!
ولعل بشاعة النظام السوري هي في تحويل اللعب إلى مأساة يومية. ومن يعرف تاريخ كرة القدم السورية، يتذكر أن “نادي الجيش” (وقد كان لاعبوه من عداد القوات المسلّحة ويمكن ببساطة إجبار اللاعبين على اللعب ومعاقبتهم تعسّفاً واعتباطاً)، واحد من “أقوى” نوادي كرة القدم السورية، ويترأسه ضابط بدَلاً من مدرب عاديّ!
والشيء بالشيء يذكر، فقد استلم إدارة المؤسسسة العامة للسينما، أوائل عهدها، في سبعينيات القرن الماضي، التي هي ربما كلّ عهدها لاحقاً، ضابطٌ طيّار، وقد طار بها فعلاً إلى مصافّ سينما عالمية، في وقت كان فيه كل مخرج سينمائي سوري ينتظر سنوات طويلة حتى يحظى بفرصة عمل واحدة، يتيمة ربما.
قد تكون سوريا “الأسدية” نسخة عن عبث “البعث” الذي دمّر بلدين عربيين، فسوريا والعراق كانتا من عداد “دول” يمكن أن تكون غير ما هي عليه الآن على كلّ صعيد.
يتذكر مهاجرٌ، وهو طالبٌ كردي سوريّ من شمال سوريا، ينزل أرض العاصمة دمشق في ستينيات القرن الماضي أول مرة، قبل أن تحمله الطائرة إلى برلين “الغربية” حينها، موضحاً أن الفرق بين دمشق وبرلين حينها ما كان على ما صار إليه بعد 50 عاماً من حكم “البعث”. فبرلين التي خرجت مدمّرة من الحرب العالمية الثانية، لم تصدم الطالب الشاب حينها في شيء، لا في بيوتها البسيطة ولا في تخطيط شوارعها ولا في نظافتها العامة ولا حتى في مستوى طلابها العلمي. شيء من التشابه جمع عاصمة عربية فتية إلى عاصمة أوروبية حديثة. غير أن سيطرة “البعث” وعسكرة الحياة العامة، التي كانت انتقاماً من أهل المدن وثقافتها المنفتحة على نحو ما، باعدت دمشق عن برلين حتى غدت الأولى سجناً مرعباً، فيما تحولت الثانية إلى مهرَب لمن نجا من جحيم الأسدَين.
في منزل قريب من ساحة السبع بحرات وسط دمشق، تربي عائلة بضع دجاجات على سطح منزلها. في الليل، الليل الذي يحلّ باكراً على دمشق كل يوم، يمكنك السير مئة خطوة فقط من منزل أصحاب الدجاجات وصولاً إلى مطرح كلب قريب من حديقة السبكي. الدجاجات تبيض كي تطعم عائلة فقيرة، بات شراء البيض بالنسبة إليها كلفة فوق طاقتها، فيما الكلب، جرّاء دوي القذائف، يعلن بعد كل قذيفة وكلّ نباح أنه لم يصب بواحدة منها بعد.
هذه هي العاصمة الآن: حياة ريفية معتمة في حدّها الأدنى، بين دجاجٍات كريمات تعين عائلة فقيرة، وكلب يحرس سياج حديقة السبكي، المفتوحة للا أحد سوى الفقراء والنازحين والتائهين.
المدن