كلمات عن رياض الأسعد!
ميشيل كيلو
لا بد أن أبدأ هذه المقالة باعتراف هو أنني كنت أعتبر العقيد رياض الأسعد حجر عثرة في وجه تطور الجيش الحر ووحدته، وأعتقد أنه يرى الأمور من خلال ذاتية متورمة، ويريد البقاء بأي ثمن على رأس هرم عسكري لا يملك المؤهلات اللازمة لاحتلاله، ولا يستحق أن يكون في قمته. صحيح أنني لم أخبر أحدا بما كنت أفكر فيه حول العقيد الأسعد، لكنني كنت كلما ذكر اسمه أستعيد هذه الأفكار، وأستهجن في نفسي المواقف التي يتخذها، كما كنت أعتقد أنه ألعوبة بيد مخابرات دول خارجية: إقليمية وعربية، وصنيعة متدخلين في الشأن السوري، يسوغ التعاطي معهم بحجة إقامة توازن ما بينهم، ضروري لاستمرار جيشه.
وكان يقال لي إن محاولات كثيرة تمت لانتزاع الجيش من العقيد، لكنها فشلت جميعها بسبب قدرته على المناورة، وما له من اختراقات في الجيش الحر. وعلى الجملة، كانت نظرتي إلى الرجل سلبية تماما، وكنت أعتبره رمز فساد للطبقة العسكرية، يوازي ما تتسم به الطبقة السياسية الممسكة بالمجلس الوطني والائتلاف من فساد.
ثم فجأة، تمت إعادة هيكلة قوات مقاتلة من داخل الجيش الحر وخارجه، أزاحت العقيد الأسعد عن قيادة هذا الجيش و«ركنته» جانبا، دون أن تعطيه أي دور من أي نوع كان، غير أن يكون خارج الجيش المعاد هيكلته. ماذا كان رد فعل الرجل الذي أظهر حقيقة معدنه؟
– كذب فكرة شاعت عن موقفه كشخص يرى كل شيء من خلال موقعه على رأس الجيش الحر. بعد اتخاذ قرار إبعاده، لم يدخل في صراع مع أي أحد، ولم يدل بأي تصريح ضد أحد، ولم يعمل لتشكيل كتلة يستعيد بمعونتها مكانته الضائعة، ولم يتصل بالسياسيين والعسكريين شاكيا أمره ونادبا حظه، ولم يجر الجيش إلى صراعات جانبية. غيبوه فقبل الغياب عن القمة واستعاض عن موقعه الرفيع بالنزول إلى الأرض والميدان، حيث برز كرجل وطني ذي كبرياء يغلب المصلحة العامة على مصالحه الخاصة والشخصية، تحقيقا لمبدأ شرعي يقول بضرورة تجنب الضرر حين لا يمكن جلب المنفعة. نزل الرجل إلى الأرض وشرع يقاتل كأي جندي مجهول لا اسم له في سبيل القضية التي يؤمن بها، رغم تنكر كثيرين من الذين كانوا تحت إمرته أو أصحابه له، وسيرهم في قافلة المتهيكلين خارجيا. هكذا، صرنا نسمع من حين لآخر أخباره المتقطعة، ونعلم أنه كان مرة في ريف إدلب، وأخرى في حلب، وثالثة في ريف حماه أو داخل المدينة نفسها، وأنه وهب نفسه للعمل الميداني المباشر، المفعم بنكران الذات، بعد أن انتزعت منه القدرة على العمل القيادي. وفي النهاية، علمنا بتعرضه لعملية اغتيال تؤكد أن النظام الأسدي ظل مصرا على التخلص منه، حتى بعد أن تحول إلى جندي مقاتل في جيش المقاومة.
– يبدو أن الرجل لم يكن في نظرته إلى نفسه كجندي مجهول أقل مكانة منه كقائد للجيش الحر وكرمز له. لقد أدار ظهره للمنصب وانغمس في دور وطني أراد صنعه مع مئات آلاف الرجال المجهولين، الذين لا يعلنون عن أسمائهم، وتؤكد أفعالهم أنهم صناع وطننا الجديد. كان العقيد رياض الأسعد يعرف أن صناعة الوطن أفعال، فانصرف إلى صناعته مع مواطنين يضحون بكل شيء في سبيله، ولأنهم لا يملكون الكثير، فإنهم يضحون بأغلى ما يملكه البشر: حياتهم. تمسك العقيد بدفع هذا الثمن، فنزل إلى الميدان بدل أن ينسحب من «الحياة العامة»، راغبا في دفع ثمن يدفعه كثيرون غيره، ليس من أجل إقناعنا بما يختلف عما كنا نظنه عنه، بل ليرينا من خلال أفعاله أن الوطنية تلزمه أن لا يضن بحياته من أجل حرية هي له ولغيره، وأن لا يقر بوجود حد يصعب تخطيه بين وجوده كفرد ووجود وطنه وشعبه، ويجعل من تنقله بين أمكنة القتال المتنوعة سبيله إلى الشهادة، وتعبيره الخاص عن استعداده لها في أي وقت وأي مكان، بصمت وسرية ودون ضجيج. كان يقال لنا إنه رجل همه الشهرة، فإذا به يعرف كيف يعيش في النسيان، ويجد له موقعا فيه مع طالبي الشهادة، غايته وغاية كل رجل حر يكره الطغيان، يعرف أنه إن خرج من الحياة بقي خالدا في ذاكرة شعبه، مع أنه لا يكترث بالخلود أو يجعله مطلبه وغايته.
كذبتنا أفعال العقيد رياض الأسعد، التي أثبتت أنه من زمن الحرية، الذي ينتمي إليه ويضع يده في يد سواه من أبناء الشعب ليجعلوا منه زمنا وطنيا، سيكون لكل سوري فيه نصيب، على الضد من مقاتلي المكاسب، الذين يتاجرون بالوطن والشعب، ويعيشون على الأنانية والانتهازية والكذب، ويجهلون قيم الوطنية ويضحون بالسوريين، الذين يحولون موتهم إلى استثمار شخصي يعزز مكانتهم في فنادق وفيللات العواصم التي تديرهم، بعد أن باعوها ضمائرهم وتحولوا إلى عبء على وطنهم الذي لن ينقذه شيء غير ما كان يفعله رياض الأسعد: النزول إلى الشعب والغرق بصمت وتواضع فيه، ومقاسمته مصيره، والانتماء القاطع والنهائي إليه، وتبني خياره الذي لا لبس ولا فذلكة فيه: الموت أو الحرية.
فقد العقيد الأسعد ساقه، التي وضعته في القمة من صفوف الأحرار، وجعلت منه، مع أنه بساق واحدة، رمزا لن يسبقه أحد إلى احتلال أغلى موقع يمكن أن يسكن مناضل وإنسان فيه: ضمير شعبه، الذي سيرى فيه من الآن فصاعدا قدوة يتمنى أن يكون محبا لوطنه مثلها!
الشرق الأوسط