صفحات الثقافةممدوح عزام

كلمة لم تفتح نظرية العدالة/ ممدوح عزام

 

 

في مسرحية صلاح عبد الصبور الشعرية “مأساة الحلّاج”، يقرر القاضي أبو عمر أمام الحلاج في محاكمته: “قد ثبت في كف خليفتنا الصالح – أبقاه الله – ميزان العدل وسيفه”، فيجيبه الحلّاج الذي سيُحكم بالموت: “لا يجتمعان بكف واحدة يا سيد!”.

الملاحظ أنه رغم التعاطف الذي حظي به الحلّاج في التاريخ العربي، كشهيد مظلوم، إلا أنّ الكتابات العربية، التي ناقشت مسألة العدالة، مالت إلى كفّة القاضي “أبو عمر”. وأُطلِق على تلك الكتابات اسم “الآداب السلطانية”.

إذ بدا الكثير من الفقهاء والفلاسفة العرب أكثر انشغالاً بالتوجه في خطابهم إلى السلطان، من أجل إرشاده إلى أفضل الوسائل لتطبيق الوصفة المناسبة لعدالة ممنوحة من ذاته، ومن منظوره للحكم، لا إلى بناء نظرية في العدالة مستمدة من شؤون الناس وهمومهم ومشاغلهم وحاجاتهم المادية والروحية؛ فكتب الماوردي كتاباً سماه: “نصيحة الملوك”، وكتب الغزالي “التبر المسبوك في نصيحة الملوك”، وكتب الحضرمي “الإشارة في تدبير الإمارة”، وكتب المالقي “الشهب اللامعة في السياسة النافعة”.

وفي عنوان كتابي الماوردي والغزالي خطاب صريح في المسعى والتوجه إلى السلطان أو الملك لا إلى الرأي العام. والهدف هو حمايته من احتمالات القلاقل والاحتجاجات التي قد يقوم بها سكان مملكته.

تنهض جميع هذه الآداب على مبدأ خطير تم تعميمه طوال التاريخ العربي، هو مبدأ تنزيه السلطان، ومنحه ما يسميه إبراهيم القادري بوتشيش في كتابه “خطاب العدالة في الآداب السلطانية” مبدأ التفويض الإلهي، أو ما يسمّى في الفكر السياسي “الحق الإلهي” الذي يجمع عليه جميع كتّاب الآداب السلطانية.

وهنا تبدو صفة الراعي التي اكتسبها السلطان العربي صيغةً ملطفةً عن قسوة وصرامة نظرية التفويض، بينما تظل صفة الرعية التي منحت للمحكومين من قبل السلطان، الوجه الآخر للحكم الذي يجعلهم أدنى منزلة من صفة المواطن التي منحت للبشر في أوطان أخرى.

وقد أفضى هذا إلى غياب نظرية للعدالة في الفكر العربي، عدا الأفكار التي صدرت عن بطانة فاسدة أرادت إعفاء الحكّام من أي قصاص. والمؤسف أن الفكر العربي لم يقدم حتى الآن تعويضاً مهماً عن هذا الغياب، في أي من النظريات السياسية الكبرى التي استعارها من الفكر الإنساني.

المتتبع لتاريخ العلاقة بين السلطان العربي و”الرعية” العربية يعرف أن من النادر أن يكون أي سلطان عربي قد استمع إلى نصائح الفقهاء في أي شأن من شؤون الحكم. وعوض ذلك، أقدم هؤلاء على تعميم مبدأ طاعة المحكومين، و”انتصر جميع كتّاب الآداب السلطانية لمقولة الطاعة المطلقة للسلطان، أعادلاً كان أم جائراً”.

وبالعودة إلى مسرحية صلاح عبد الصبور، يسأل القاضي أبو عمر الحلاج: “لم أرسلت إليهم برسائلك المسمومة؟”، فيجيبه: “عاينت الفقر يعربد في الطرقات/ ويهدم روح الإنسان/ فسألت النفس: ماذا أصنع؟/ .. هل أدعو الظَلَمة/ أن يضعوا الظلم عن الناس؟”. ثم يقرر بلا مواربة: “لكن هل تفتح كلمة/ قلباً مقفولاً برتاج ذهبي؟”

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى