كلينتون ونقد أوباما: نبيذ عتيق في دنان مثقوبة/ صبحي حديدي
للمصادفات مشيئة تبدو، مراراً، أكثر انسجاماً مع أحكام التاريخ، من انسياقها خلف الأقدار العشوائية؛ وفي هذا، شاءت المصادفة أن ترتفع أصوات النقد لسياسة الرئيس الأمريكي باراك أوباما في سوريا، مع دنوّ الذكرى الأولى للهجمة الكيماوية التي شنّها جيش بشار الأسد ضدّ الغوطتين، الشرقية والغربية، فجر 21 آب (أغسطس) 2013. ذلك، من جانب آخر، لأنّ تلك الواقعة ترافقت مع مناخات تلويح أوباما بـ»ضربة محدودة للغاية» ضدّ بعض منشآت النظام ومواقعه العسكرية؛ وما جرى، بعدئذ، من ألعاب إحالة إلى الكونغرس، وتأجيل، وتسويف، واكتفاء بصفقة تفكيك سلاح النظام الكيماوي، مقابل إلغاء الضربة نهائياً.
وإذ تتصادف اليوم مع نقد سياسات أوباما، حول مآلات صعود «داعش» في سوريا، ثمّ بعدئذ في العراق، تحديداً؛ فذلك لأنّ البعض يحمّل أوباما، شخصياً، مسؤولية الوقوف مكتوف اليدين أمام تعاظم قوى «الجهاديين»، مقابل انحسار نفوذ «المعتدلين» و»العلمانيين» في أوساط المعارضة السورية، ضدّ نظام الأسد؛ أسوة بالانتفاضات الشعبية الجنينية، ضدّ حكومة نوري المالكي فيالعراق. والمنطق في هذا بسيط، ولعله تبسيطي أيضاً، عن سابق قصد أو عن قصور واختزال: لو تمّ تسليح «الجيش السوري الحرّ» منذ بدايات المواجهات العسكرية مع النظام السوري، فإنّ المشهد على الأرض كان سيتبدّل لصالح «المعتدلين» و»العلمانيين»، وكان سيحدّ من قدرات «الجهاديين» على التسلّح والتموّل وتجنيد المقاتلين…
هكذا، على سبيل المثال الأوّل، نقرأ وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، هيلاري كلنتون، في حوارها الأخير المطوّل مع جيفري غولدبيرغ، الذي سألها إنْ كان الوضع مع «داعش» سيبدو كما هو اليوم لو أنّ أمريكا فعلت المزيد من أجل «بناء معارضة سورية معتدلة»، فقالت: «الواقع أنني لا أعرف الجواب على هذا السؤال. أعرف أنّ الفشل في المساعدة على بناء قوّة قتالية ذات مصداقية، مؤلفة من أناس كانوا في أساس انطلاق مظاهرات الاحتجاج ضدّ الأسد ـ وكان في عدادهم إسلاميون، وعلمانيون، وكلّ فئات الوسط ـ ذلك الفشل ترك فراغاً كبيراً، ملأه الجهاديون الآن». وفي موضع آخر، من سياق السؤال إياه، تابعت كلنتون: «في نزاع مثل هذا، الرجال الأشداء حَمَلة السلاح سوف يكونون، في أي انتقال سياسي، لاعبين أكثر ترجيحاً من أولئك المتواجدين في الخارج والمكتفين بالكلام. ولهذا توجّب أن نفكّر على نحو يتيح دعم أولئك الذين على الأرض، وتسليحهم بشكل أفضل».
والحال أنّ كلنتون، خلال وجودها في الخارجية الأمريكية طيلة الأشهر الأولى للانتفاضة السورية، قد تكون بالفعل دافعت عن وجهة النظر هذه؛ مثلما فعل روبرت فورد، السفير الأمريكي لدى النظام السوري، ثمّ مبعوث البيت الأبيض إلى مؤتمرات ومؤسسات المعارضة السورية الخارجية، المجلس الوطني والائتلاف معاً؛ وفعل عدد من كبار مستشاري أوباما في مجلس الأمن القومي الأمريكي، أواسط العام 2012، حين اقترحوا تزويد المعارضة السورية «المعتدلة» بأسلحة نوعية ومتطورة. لكنّ كلنتون، أيضاً، وفي الممارسة المباشرة، لم تكن تنفّذ سياسات نقيضة قضى بها رئيسها (وهذا أمر منطقي، بالطبع)، فحسب؛ بل كانت تضيف إلى ذلك التنفيذ لمسات خاصة بها، هيهات أن تخطر في بال أوباما نفسه!
وهكذا، مجدداً، وقبل أن يشرع أوباما في ولايته الثانية، ويتولى جون كيري ملفات «الربيع العربي»؛ كان عدد من ممثلي البيت الأبيض ـ وزير الدفاع روبرت غيتس، رئيس أركان القوات المسلحة الأدميرال مايكل مولن، مساعد وزيرة الخارجية جيفري فلتمان، المدير في مجلس الأمن القومي الأمريكي دافيد لبتون، والمبعوث الشخصي فرانك وايزنر… ـ قد لعبوا، في تونسومصر واليمن والبحرين، ثمّ في سوريا لاحقاً، الأدوار الأسوأ والأشدّ ضرراً. كلنتون كانت على رأس اللائحة، غنيّ عن القول، ولعلّ من الصواب القول إنها لم تكن المديرة التنفيذية لسياسات أوباما في هذه الملفات، بل قائدة أوركسترا عالية الاندماج في العزف، ومبدعة فيه أيضاً!
وليس جديداً التذكير بأنّ البيت الأبيض بدأ، وهكذا يظلّ اليوم أيضاً، غير حاسم بصدد، أو غير مستقرّ تماماً على، تحديد سياسة مفصلة وملموسة وقابلة للتطبيق المرحلي، بصدد الانتفاضة السورية. هنالك أسباب وجيهة، سورية داخلية صرفة وإقليمية دولية أيضاً، جيو ـ سياسية وعسكرية واجتماعية واقتصادية وثقافية؛ جعلت الملفّ السوري أشدّ تعقيداً، وإنذاراً بالمخاطر والمزالق، من أن يدفع أوباما إلى اتخاذ قرارات تسير على نقيض فلسفته الرئاسية، حول إغلاق حروب أمريكا الخارجية التي خلّفتها له إدارات سابقة، وعدم الانخراط في أية حروب جديدة.
من جانبها كانت كلنتون، في موقع وزيرة الخارجية، خلال أسابيع الانتفاضة الأولى، هي التي وصفت الأسد بـ»الرئيس الإصلاحي»؛ وهي التي اعتبرت أنّ الإدارة سمعت من الأسد الكثير من الأمور التي لم تسمعها من زعماء آخرين في المنطقة، حول نوع التغييرات التي يريدها البيت الأبيض في سوريا. وحول «بناء معارضة سورية معتدلة»، كانت عبقرية كلنتون قد تمثلت في تقزيم «المجلس الوطني السوري»، والتشهير به علانية (وتكفّل السفير فورد، بمعونة زميله السفير الفرنسي إريك شوفالييه، بتفريغ المجلس وإحالته إلى الهوامش)؛ بهدف تمهيد الأرض أمام وليد جديد يُدعى «الائتلاف الوطني السوري لقوى الثورة والمعارضة»، لم تثبت الأيام أنه أردأ من أخيه، المجلس، فحسب؛ بل اتضح أنه مفرخة فساد وحاضنة أضراب شتى من العفونة السياسية والأخلاقية.
هنا، كما في الماضي البعيد والقريب، وكما في كلّ مرّة تشهد ارتفاع عقيرة معارض سوري يتشهى التدخل العسكري الأمريكي؛ يتوجب التذكير بأنّ إكمال الانتفاضة حتى انتصارها الختامي هو مسؤولية الشعب السوري، وحده أوّلاً، وثانياً وعاشراً. هذا شعب انتفض من أجل الحرّية والكرامة والعدل والمستقبل الديمقراطي والتعددي الأفضل، وخاض معارك مشرّفة قرابة أربع سنوات، ودفع الأثمان الباهظة من دماء أبنائه وخراب بلده الجميل العريق؛ لا لكي يتسوّل الخلاص عبر بوّابة التدخل الأجنبي الخارجي. وذاك تدخّل لا يتعارض مع معمار أخلاقي يتوجب أن تنهض عليه سوريا الجديدة، فقط؛ بل يتناقض، أيضاً مع الدروس التي خلّفها التاريخ، ساطعة وجلية وأليمة، من كلّ تجارب التدخّل الخارجي في الجوار. وكيف للشعب السوري أن يدين التدخل الإيراني والروسي، وكتائب «حزب الله» و»أبو فضل العباس» والحوثيين على أرضه… ويقبل أية عملية عسكرية تستهدف عقاب النظام، لا إسقاطه أو تبديله؛ أو يعلّق الآمال على واشنطن، كي تبني له «معارضة معتدلة ذات مصداقية»؟
وكيف، مجدداً، إذا كان «الخلاص» منعقداً على الولايات المتحدة، دون سواها، صاحبة أربعة عقود ونيف من عمر علاقات مع آل الأسد، الأب قبل الابن، نهضت على الدعم والمساندة والتعاون والتفاهم والشراكة: في لبنان أوّلاً، منذ دخول قوّات النظام بإذن أمريكي سنة 1976، وضرب تحالف القوى الوطنية والمقاومة الفلسطينية في ذلك البلد، وشنّ حرب المخيمات على الفلسطينيين؛ وصولاً إلى «عاصفة الصحراء»، حين انخرطت وحدات من جيش النظام في تحالف «حفر الباطن»؛ دون إغفال الرضا الإسرائيلي الغامر، بصدد نظام ظلّ حارس حدود للاحتلال الإسرائيلي للجولان، تحت مسمّى «دولة مواجهة».
نبيذ جديد، قد يبدو هذا النقد الذي تبديه كلنتون، اليوم، إزاء سياسات رئيسها، وخصمها السابق في المنافسة على البيت الأبيض؛ ما خلا أنّ النبيذ معبأ في دنان مثقوبة، فلا يمتلىء بأيّ معنى، لأنّ دلالاته محكومة بالاندلاق من الثقوب.
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس