كلُّنا تَمْبُكتو: يعيش “الأولياء”… يسقط أعداؤهم
جهاد الزين
ربما لا ينتبه كثيرون أن موجة تدمير أضرحة الأولياء المتجددة الآن في تمبكتو في جمهورية مالي، إحدى أعرق المدن المسلمة في إفريقيا وأعرقها داخل الصحراء، هي المُعادِل أو المُواكِب الدائم لدى التيارات السلفية المتشددة لموقف هذه التيارات ضد “عصمة الأئمة” في المذهب الشيعي الإثني عشري. تاريخياً ومنذ بدأت الحركةُ الوهابيةُ في منتصف القرن الثامن عشر في نجد في قلب الصحراء العربية كان هذا الموقف الرافض لتعظيم الأضرحة، والذي يعتبرها هرطقةً على “الدين الصحيح”، يسير من حيث تطبيقه بالقوة – أي هدم الأضرحة – ضد قبور الأولياء لدى الطوائف السنية ولا سيما الحنفية والشافعية والمالكية بالتوازي مع هجمات أتباع محمد بن عبد الوهاب على المقامات الشيعية في العراق ولاسيما في كربلاء والنجف، حيث بنظرهم توجد الهرطقة المقابلة.
إن فكرة “الوليّ” لدى الطوائف السنية انغرزت عميقا في تقاليد طقوس العديد من مناطق العالم الإسلامي وعرفت انتشاراً هائلاً جعل أي مدينة مسلمة عريقة والكثير من الدساكر والقرى في مصر وبلاد الشام والعراق وتركيا وإيران وشمال إفريقيا تعجّ بما يسمّيه معظم المسلمين “قبور الأولياء والصالحين”. كانت تلك الظاهرة في التاريخ الإسلامي ولا تزال، في اعتقادي، الخزّان العميق الذي تصب فيه ميول العامة وأحيانا الخاصة في اقاصي العالم الإسلامي للتعبير عن احترامها لشخصيات محلية منها وفيها أي عاشت معها خلال مسار القرون الاربعة عشر… لقد اختارتها، وفق عادات وتقاليد و”حاجات” كل بيئة، لـ”إختراق” المنظومة الكاملة التقديس للرموز الكبرى الأساسية للدين الإسلامي في صدر انطلاق الدعوة وعهد الخلفاء الراشدين… ورَفَعَتْها الى مرتبة القداسة. حتى أن بعض الفقهاء الكبار قارنوا بين “الولاية والنبوة” مثل محيي الدين ابن عربي الفقيه الذائع الصيت. ولعله من الأهمية بمكان أن نعرف أن شيخنا، شيخ الأزهر الحالي الدكتور أحمد الطيب قام بترجمة كتاب عن الفرنسية لباحث مسلم هو “علي شود كيفيتش” وقدم له تحت العنوان التالي: “الولاية والنبوة عند الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي” (دار الشروق – 2004) .
هدف هذا التعليق ليس العودة الى التراث إلا للدخول في الحاضر المتفاقم في بعض وقائعه ظلامياً رغم ازدهاره ديموقراطياً في وقائع أخرى.
فجريمة تمبكتو تضيء على مشكلة ثقافية سياسية عميقة تواكب صعود التيارات الاسلامية منذ الثورة الإيرانية الى “الربيع العربي” الإخواني الحالي وتجعل مسؤولية كبح التطرف مهمة هذه التيارات قبل غيرها:
تصوّروا مثلا مصر بلا “ضرائح أولياء”… فسيعني ذلك تدميراً ليس فقط لتراثٍ مميز في الحياة المصرية بل للسلم الأهلي المصري نفسه. كما في بلدان أخرى. في قريتي جبشيت في جبل عامل في جنوب لبنان أدّى العقل السلفي الشيعي في ثمانينات القرن الماضي وبهدف إعادة بناء الجامع القديم إلى إزالة مقام كان يُسمّى “مقام النبي شيت” وكان بداخله ضريح كبير … وتخيّلوا فقط بمعزل عن الصحة او عدم الصحة التاريخية للمقام أيَّ قيمة لاتُقدّر بثمنٍ ولا يمكن تعويضُها لِـ “الفكرة” نفسها إذا لم أقل لِـ “الأسطورة” نفسها.
لِيتحمّل الاسلاميون المتنورون والليبراليون مسؤوليتهم أمام هذا الإجرام الثقافي المتجدد.
عاش الأولياء… في كل مكان كمعبّرين، لا عن المخيلات الرائعة للشعوب فقط، بل عن “كراماتها” أيضاً. وهي التسمية الشعبية العميقة الدلالة التي تُطلَق على ضرائح الأولياء.
النهار