“كما لو أننا نمسك كوبرا”
نضال أيوب
امرأة تتجوّل بين القبور. تبحث في عالم الأموات عن شيء ما مات داخلها لحظة غادرت دمشق. تصف الجثث كأنها قوارب عائمة على صفحة قلبها. تقضي وقتها في المقبرة الباريسيّة، هناك فقط تشعر بأنها أقرب إلى سوريا، بعدما صار الموت متدفقاً من كل صوب.
لعله المشهد الأقوى في الفيلم التسجيلي “كما لو أننا نمسك كوبرا” لهالة العبدالله، والذي عرض مساء الخميس في سينما ميتروبوليس- صوفيل، على هامش مهرجان أيام بيروت السينمائيّة.
الكوبرا هنا ليست مجرّد ثعبان خطير، بل هي الأنظمة العربيّة التي تمتلك السموم ذاتها، لذا عليك أن تتعلّم جيداً كيفيّة التعامل معها والالتفاف حولها. كيف تتحايل عليها وتسدد لها ضربات غير مباشرة لأنها تستطيع قتلك بلسعة واحدة.
بدأ تصوير الفيلم العام 2010، أي قبل أن تلوح في الأفق ظلال الثورات العربيّة. هالة، المستقرة في باريس منذ ثلاثين عاماً، قررت أن تصنع فيلماً عن الكاريكاتير النقدي وحريّة التعبير، واختارت مصر وسوريا للتصوير نظراً إلى التشابه في نوع الرقابة المفروضة في البلدين.
شخصيات الفيلم اختيرت من جيلين: جيل الستينات يمثله السوري علي فرزات، والمصري محي الدين اللبّاد، ومن جيل الشباب، حازم الحموي من سوريا وشابين من تلامذة اللبّاد في مصر هما “مخلوف” (اسمه الفني) ودعاء العدل – أول فتاة تخوض غمار فن الكاريكاتير في مصر. أمّا الشخصيّة التي بدأت بها المخرجة فيلمها، فلا تمت إلى هذا العالم الفني، وهي الروائية السوريّة سمر يزبك التي ترافقنا بشهاداتها طوال الفيلم. تعلّل هالة أن الفن والكتابة مرتبطان، فالإثنان يسخران من الديكتاتور ويحاربان القبح.
في ظل الثورات، وجدت هالة نفسها ممزقة بين باريس، المدينة التي هاجرت إليها، وبين العالم الافتراضي الذي يربطها بسوريا لم تفارقها يوماً وعاشت في قلبها رغم البُعد وتستقي منها مواد فيلمها الذي قررت أن تكمله. عادت هالة إلى مصر، بعد سقوط حسني مبارك، لتصوّر مع الأشخاص ذاتهم، ما عدا اللبّاد الذي توفي قبل بدء الثورة. لم تتغير مواقف الفنانَين المصريَين أثناء الثورة، لكنهما منعا حينها من الرسم في الصحف، فنزل “مخلوف” إلى ميدان التحرير وعبّر عن موقفه بعبارة “أنا بالميدان”. أما في سوريا فتعرّض علي فرزات إلى اعتداء شنيع أصيب على إثره بكسور في مختلف انحاء جسده وكانت الرسالة: سنكسر لك تلك الأصابع التي تتجرأ على النقد. لم تتمكن هالة من العودة إلى سوريا، والتصوير مع فرزات فاكتفت بالتواصل معه عبر “سكايب”. هكذا ايضاً، عاشت أخبار دمشق، لحظة بلحظة، عبر رسائل سمر يزبك التي مكثت في سوريا خلال الشهور الثلاثة الأولى من الثورة، قبل أن تغادر بدورها إلى باريس.
أثناء مشاهدة الفيلم، تدرك أنك أمام عمل متكامل، يجمع بين لغة السينما، أي صورتها وحركة كاميرتها و”كادراتها”، وبين الأدب الذي تجلى في نصوص يزبك إذ رافقت الصور بصوتها، إضافة إلى الأغاني السوريّة والمصريّة التي كانت كفيلة بنقل المُشاهد بين حالات متعددة من الغربة والثورة والحب الخالص.
الفيلم الذي يعرض للمرة الأولى في بيروت، المدينة القريبة من قلب هالة بحسب وصفها، لاقى إقبالاً لافتاً. ساعتان من الزمن زخرتا بتفاعل مباشر من الجمهور، مشاعر وردات فعل واضحة، من ضحك وتنهدات وأحياناً دموع. لم يخرج أحد من الصالة قبل انتهاء الفيلم، رغم أن البعض بدا بعيداً من الحدث المصري نوعاً ما، ربما لأنه أقل دموية وربما أيضاً للارتباط العضوي التاريخي والجغرافي بين لبنان وسوريا ووجود العديد من اللاجئين والمثقفين السوريين في بيروت راهناً.
لا نعرف إذا كانت هالة قصدت أن تبيّن في فيلمها الفوارق بين الثورتين السورية والمصرية. لكن المؤكد أن إحساساً بتلك الفوارق بلغ الجمهور. فلـ”كوبرا” مصر شكل واحد الآن هو “الإخوان”، وكان قبل ذلك نظام واضح المعالم في اذهان معارضيه. في حين أنّ كوبرا سوريا ذات رؤوس متعددة وسموم مختلفة، تبدأ بالنظام ولا تنتهي بجبهة النصرة. في سوريا تقتل الكوبرا كل من يمسك بها، والموت بات على علاقة وطيدة بالسوريين، فهو كما تقول يزبك في الفيلم: “لم يعد سؤالاً بل نافذة مطلّة على الكثير من الاستفهامات”.
المدن