صفحات المستقبل

كم هزمنا الموت يا بلدي !


منذ الصباح الباكر, هرب السكر من دمي !

كنت في الشهرين الماضيين قد حبسته بإحكام في خلاياي ,واليوم صباحا حين عاود محاولاته الملحة في الهرب ..نجح ..

الدوار يطغى على جسدي, وصورة أمي في رأسي تطغى على كل شيء..

فهي التي كلما اعتراني هذا الدوار تقول لي: لا تغمضي عينيك !

وتشربني رغما عني الماء والسكر, وتحرص كل يوم في الصباح الباكر أن تضع السكاكر والشوكولا في حقيبتي

لأشعر أني طفلة في المريول الأزرق وفي طريقي إلى المدرسة!

إذا ..هي من حبست السكر في دمي الشهريين الماضيين !

وفي سفرها الذي طال أسبوع وقد يطول للأبد  اختل توازن كل شيء حتى جسدي ..

كنت أفكر كم اشتقت لأمي ..الوسائل الالكترونية كلها  لا تحمل الرائحة ولا الدفء ولا تروي الطمع !

و كلما اشتد الدوار يتردد صدى صوتها.. أبقي عينيك مفتوحتين !

ثبت نظري على النافذة ..

الطائرة تظهر في السماء, أصوات الرصاص تعلو وتنخفض..

عامل النظافة في الحارة يكنس الشارع بإتقان,

الجارة في البناء المقابل تسقي أصيص الزرع وتكنس سجادة وتعود لتوزع الماء هنا وهناك..

ثلاثة أطفال يجلسون على الأرض ويلاحقون سربا من النمل ويضحكون بصوت مرتفع , وحين تقترب الطائرة يقول أحدهم ”  أنا بقول هاد صوت صاروخ ” ..وتعلو الضحكات

الدوار يزيد هذياني, فتأخذني ضحكاتهم للضحكات التي عشتها في الأيام الماضية ..

حين أتى صديقي يرتدي معطفا لشخص لا يعرفه, حين خرج من بيته على عجل و”نزح” لبيت أقرباء أقربائه !

هطل المطر , يضحك وهو يخبرني ” الله وكيلك مابعرفه للزلمة يادوب بينا مرحبا وألح آخد هالجاكيت “

تذكرت كل النكات التي بتنا نوزعها على قصص نزوحنا وشوقنا لبيوتنا..

مرت ببالي قريبتي التي اختفى ابنها منذ أشهر , وتلك التي توفي ابنها, وتلك التي خطف وعاد ..

وتلك التي لم يعد.. جميعهن اليوم يبتسمن بين الحين والآخر !

اليوم في سورية, كلما رأيت الازدحام في الشوارع, كلما رأيت طفلا يلعب, كلما رأيت امرأة أو رجل يذهب للعمل بتصميم وارادة, كلما رأيت زملائي في العمل يصرون على النجاح, ,كلما رأيت تلميذا يقرأ بكتاب, كلما سافر أحد بحزن, كلما سافر أحد وعاد ليقول رغم كل الموت فقط هنا أدرك معنى الحياة, كلما رأيت بسمة على شفاه ما, كلما ألقى أحد نكتة, كلما عشق أحد ما, كلما أرسل رسالة غزل.. كلما اشتاق.. كلما فعلنا شيئا ما..

أدرك أننا هزمنا الموت !

هزمناه..!!

كم علمتنا سورية الحياة من رحم الموت..

 كم هزمنا الموت يا بلدي .. كم هزمنا الموت..

كم هزمنا الموت يا بلدي !

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى