مراجعات كتب

«كنت في الرقة» كتاب يقتحم حصون «داعش» … وسرابه

 

 

تونس – رويترز

من جديد اختار الكاتب التونسي هادي يحمد أن يمشي بين الألغام حين اقتحم عالم تنظيم «داعش»، مفككاً حصونه، ومحطماً مقولة أسطورة التنظيم المتماسك القوي عبر شهادة مؤثرة من عنصر تونسي هرب منه لأنه أكثر تطرفاً وراديكالية من التنظيم نفسه.

شهادة الهارب من التنظيم كانت محور كتاب «كنت في الرقة» الذي صدر نهاية الشهر الماضي، وجاء في 268 صفحة وتوسطت غلافه صورة لعنصر سابق في «داعش» يرتدي بزة عسكرية.

وحقق الكتاب مبيعات كبيرة تزامناً مع معرض الكتاب في تونس، وفجّر الجدل من جديد في بلد يعاني من هجرة نحو ثلاثة آلاف من مواطنيه للقتال ضمن تنظيمات ارهابية في سورية والعراق وليبيا. ويتعطش كثير من التونسيين لفهم هذه الظاهرة التي تؤرقهم وتؤرق السلطات في بلادهم.

يستعرض الكتاب شهادة لارهابي تونسي اسمه محمد الفاهم ويومياته المثيرة، من بينها غزوات وحروب ومشي على بقايا الأشلاء الآدمية وأصوات مفخخات ورائحة البارود والدماء. ويمضي الكتاب في سبر أغوار عناصر التنظيم فرادى وجماعات ليخلص باعتراف الفاهم نفسه بأن حلم «داعش» ليس سوى وهم تخلى عنه بمحض إرادته.

لكن المثير في شهادة هذا العنصر أن هروبه من «داعش» لم يكن فقط بسبب ما قال إنه دفع قادة التنظيم للمهاجرين من المسلحين في الصفوف الأمامية للمعركة كوقود حرب ولا بسبب البطش الدموي للتنظيم ولا بسبب جلده 20 جلدة.

السبب الرئيسي لهروبه أن هذا التونسي كان يحمل أفكاراً أكثر تشدداً من التنظيم نفسه، ويرى أن الصورة التي رسمها للتنظيم لم تكن تلك الصورة التي كان يحلم بها والتي من أجلها قطع الصحراء التونسية هرباً نحو ليبيا قبل الوصول إلى تركيا وبدء رحلة أخرى للوصول إلى «دولة الشام».

الفاهم لم يكن يفهم مثلاً كيف يقبل قادة «داعش» مقولة «يعذر الجاهل بجهله في الدين» في التعامل والتساهل أحياناً مع من يسميهم عامة الناس في الرقة وهو الذي قطع آلاف الكيلومترات لتطبيق الشريعة بكل قوة وصرامة تحت راية التنظيم.

ولد الفاهم لعائلة ميسورة الحال في دورتموند الألمانية في نيسان (أبريل) 1990 ولم يدم بقاؤه هناك سوى خمس سنوات بسبب عودة العائلة إلى تونس خوفاً عليه من السقوط في ما قالت أمه إنه انحلال أخلاقي، ليسقط بعد نحو 20 عاماً في براثن التطرف.

الكاتب هادي يحمد لم يشأ أن يروي شهادة الفاهم بالشكل التقليدي بل ترك الشهادة تتكلم على لسان محمد الفاهم نفسه في صيغة «أنا»، فجاءت مثيرة مشوقة تنتقل من مرحلة زمنية إلى أخرى في حياته. ولم يخش يحمد انتقادات بأنه قد يسقط في «تبييض الإرهاب» حين يمنح الفاهم فرصة للحديث عن رحلته في صفوف التنظيم.

وقال يحمد الذي طالما عرف بانتقاده الشرس للإسلاميين متحدثاً لـ «رويترز»: «لا أخشى هذه الاتهامات لأني لا أسعى إلى إظهاره في مظهر الضحية ولا أحمّله هو فقط المسؤولية بل أحمّل المسؤولية لنمط ثقافي اجتماعي كامل».

ويعي يحمد أن الأسلوب المعتمد «هو مخاطرة ولكنها واعية ومقصودة على رغم أنها أشبه بالمشي على الألغام».

ويروي الفاهم تفاصيل عاشها في الرقة ومدن سورية ويلقي الضوء على صورة داخلية لتنظيم يرى كثيرون أنه متماسك وعلى قلب رجل واحد، لكنه يراها هو دولة تعيش صراعات وتصفيات وأيضاً خلافات عميقة بين شق متشددين وآخر أقل تشدداً.

الكاتب اختار أن يقلب الأحداث الزمنية لرحلة الفاهم المثيرة، فبدأ من بلدة منبج السورية في نهاية كانون الثاني (يناير) 2016 حين باع الفاهم بندقيته الكلاشنيكوف وبدأ رحلة الهروب من التنظيم باتجاه تركيا ليلقي بنفسه في «مرحلة ما بعد داعش».

بعد ذلك عاد الكاتب ليروي على لسان الفاهم حلم الشام وكيف وصل إلى تركيا في 2015 وهناك لم يلق أي صعوبات للوصول إلى حلم «تنظيم الدولة» ليكتشف انه لم يكن سوى سراب لا يلبي رؤيته المتشددة للإسلام أحياناً ويضحي بعناصره ممن لا يقولون على الدوام «السمع والطاعة».

وروى الفاهم تفاصيل «غزوات» تدمر وتعرضه للجلد بسبب تقاعسه عن معارك لضيقه وملله أسلوب قادة التنظيم الذين لا يريدون أي مجادلة أيديولوجية. انتقل بعد ذلك الراوي في «فلاش باك» ليستعيد طفولته في دورتموند، ثم فترة مراهقته في تونس وبدء مسيرة شاب محافظ أصبح بعد الثورة متشدداً، واعتقل مرات عدة قبل أن يصبح ارهابياً يسفك الدماء في الرقة وتدمر وتل أبيض.

ويقول يحمد إن فكرة إصدار الكتاب كانت في البداية مواصلة للبحث في ظاهرة الارهابيين التونسيين بعد كتابه السابق «تحت راية العقاب»، لكن حصوله على هذه الشهادة المؤثرة كان كفيلاً بأن يغيّر خطته لتصبح الشهادة قلب الكتاب ومحوره، لأنها تصور التنظيم من الداخل وفكره ورعبه وجاذبيته ووعوده وإحباطاته من خلال رحلة أحد عناصره. ويحمد صحافي مختص في شؤون الحركات الإسلامية والأقليات، عرف أيضاً بتحقيقاته الصحافية ذات الطابع الاجتماعي والسياسي. وقد أحرز يحمد العديد من الجوائز من بينها جائزة أفضل تحقيق صحافي أسندتها له جمعية الصحافيين التونسيين عن تحقيقه حول «المحكوم عليهم بالإعدام في تونس».

واضطر يحمد للهجرة إلى فرنسا هرباً من المضايقات والملاحقات الأمنية بعد تحقيق جريء في 2002 عن أوضاع السجون في تونس، قبل أن يعود إلى بلده بعد انتفاضة 2011 التي أنهت حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى