كوابيس ملونة
نديم جرجوره
الدم غزيرٌ. هذه حرب. الحرب محتاجة إلى وقود. الوقود متمثّلة بجثث أبرياء ودمائهم. بأكاذيب لا تنتهي. بأحقاد تتولّد من أحقاد. بجنون ينبثق من جنون. بعنف متأصّل في النفس والروح. الحرب محتاجة إلى خدع وفيرة. لكن الحرب هنا، في هذا البلد الممزّق والمنذور لموت دائم، تتحوّل إلى اختبارات جمّة لجنون الجغرافيا المحيطة، ولهوس تنانينها بالقتل والتدمير. الحرب محتاجة إلى إبداع دائم لاختراع الموت وبثّه في البيئات اللبنانية المنقسمة على نفسها لأسباب خارجية كثيرة، ولأسباب داخلية أكثر. لكن الذين يسقطون في الموت يتباهون ببراءة مسروقة منهم، أو يفتخرون بموت يليق بمتسلّط على شارع وحياة، أو ينكسرون وسط فوضى الخراب، والهوس بأنقاض ورماد وأجساد مرمية هنا وهناك.
الدم غزيرٌ. أزمنة كثيرة ومتتالية تمرّ، والدم ينهمر بغزارة. الوحش لا يموت. التنانين قادرة على ابتلاع الموسى من دون أن تُقتل. لا يستطيع الأبرياء أن يفعلوا ما تفعله التنانين. لا وحوش قائمة فيهم. لا تنانين تقودهم. لا دماء تُغذّي هلوساتهم. لا أموال تُضَخّ في خزائنهم. لا يستطيع الأبرياء ابتلاع الموسى والبقاء أحياء. هم يموتون، وكفى. لا الوحش ينتبه، ولا التنين يحزن، ولا أحد يُقيم جنازةً لهم أو حداداً عليهم. الوحش منشغلٌ باختراع وسائل حديثة لقتل دائم، والتنين متعطّش أبداً إلى جثث يلتهمها بشغف الباحث عن خلاص أكيد، والقاتل منتش بما يفعله الوحش والتنين الكامِنَين فيه. ومع أن أناساً عديدين يذهبون إلى حتفهم كي يرضى بهم متسلّط على شارع وحياة، إلاّ أن وفرة الموت لا تُحتَمل، وقوّة الدم لا تليق بغياب ملتبس.
الدم غزيرٌ. له بداية معروفة، لكن نهاياته معلّقة على أضرحة مفتوحة، وانهيارات لا تنتهي. له مقدّمات جمّة، لكن خواتيمه ملتبسة وغامضة ومشتّتة وتائهة. له حكايات مزروعة في تاريخ قديم لشعوب مقهورة، ما إن بدأ صوتها يعلو، وحماستها تغيّب الخوف من القاتل، حتّى اتُّهمت بعمالة وتخريب. حتّى انقضّ عليها تكفيرٌ وأصوليات. شعوب لا تريد خنوعاً بعد اليوم، لكن رفضها الخنوع ألهب الجغرافيا العربية بتمزّقات. ألهب الروح أيضاً، دافعاً إياها إلى التخوم المجهولة لعبث ملوّث بأسئلة الدم والهذيان.
الدم غزيرٌ. لا أحد قادرٌ على إيقاف غزارته التي تصنع جغرافيا جديدة لتاريخ جديد. لا أحد يمتلك ما يحول دون استكمالٍ وحشيٍّ لتدمير ممنهج، وقتل مقصود.
الدم غزيرٌ. الصُوَر المنقولة من هنا وهناك تفقد جمالية الأسود والأبيض، وتضع الملوّن في ذروة البشاعة. الصُوَر قاسية. مُقبلة هي من أعماق الوحش، ومن اشتغالات التنين، ومن كوابيس القاتل الذي يمنحها رونق التوهان في أحلام الضحايا. الصُوَر قاسية. لكن الدم غزيرٌ. بات خبزاً يومياً لمن قَتَل ولمن قُتِل. بات عنواناً لا يتبدّل، واختزالاً دائماً لوقائع وحالات. بات حكاية تُصاغ بثقل مفردات مجرّدة من أشيائها ومعانيها.
كم هو غزيرٌ هذا الدم. كم هو بريء.
نديم جرجوره
السفير