كوابيس نصر أبو زيد/ وائل عبد الفتاح
كانت مصر تزوره في الكوابيس الليلية.
استوقفتني العبارة في مقال قديم عن غياب الدكتور نصر أبو زيد… صاحب «مفهوم النص» و«نقد العقل الديني»، وبسببهما تعرض لمحكمة تفتيش هددت حياته ودفعته الى الحياة في منفى هولندي.
خرج نصر ابو زيد من مصر في يوليو… وعاد في يوليو… وعيد ميلاده في يوليو… «انه شهر خطير… ومهم في العالم العربي كله… شهر ثورات وانقلابات». ضحك وهو يعلق على ملاحظتي في التلفون… وهو يردد الاسم الاسطوري لشهر يوليو: «تموز»، والذي يعني إله الخصوبة عند الاغريق.
نصر ابو زيد حكى عن كوابيسه في الغربة حين اضطر الى منفى اجباري في ليدن في هولندا لأنه خرج عن قانون «تجارة الشنطة» في الجامعة التي كانت حلم جيله و حلمه الشخصي.
في «قحافة» (قريته المحشورة بين مدن دلتا النيل) عرف نصر ابو زيد المسؤولية في سن مبكرة بعد موت الاب حيث اصبح المسؤول عن العائلة. اكتفى وقتها بنصيب متوسط من التعليم وبدأ في البحث عن عمل (كانت مطافئ طنطا هي اكثر هذه الاعمال استقراراً). تعرف الى الاخوان المسلمين وبدأ يخطب الجمعة وظل يعرف هناك حتى وقت قريب باسم: «الشيخ نصر».
الجامعة كانت بالنسبة لنصر ابو زيد ملعباً من ملاعب انتصاره في الحياة والحرية. دخلها في سن كبيرة وكان عمره 25 عاماً عندما بدأ الدراسة بها في العام 1968. تفوّق وتخرج بامتياز ومرتبة الشرف وكاد يضيع حقه في التعيين بالسلك الجامعي (بسبب احلام رشاد رشدي في بسط هيمنة قسم الانكليزي على الجامعة) لكنه قابل رئيس الجامعة وظل يلح في الدفاع عن حقه حتى ناله هو وزملاء دفعته… ثم عندما اختار فرع الدراسات الاسلامية ليكون محور دراساته العليا، اعترض مجلس القسم (كانت بداية سيطرة الوعاظ وعمائم ضيق الأفق)، وخرج نصر من المعارك باحثاً متميزاً، يؤمن بحرية البحث العلمي… ورغم انه لم يخرج عن حدود الايمان، إلى درجة انه وصف احياناً بأنه اصولي و«شيخ»، الا ان تصديقه فكرة الجامعة وانحيازه إلى قيمة التفكير، جعلته يتجاوز الخطوط الحمراء في عصر لا تهتم الجامعة الا بتخريج جيوش من الجهلة الحاملين لشهادات علمية.
الجامعة لم تعد مصدر علم وتحريض للعقل، لكنها مصدر اعادة انتاج الجهل والتطرف، في ظل دولة استبداد لم تعد حتى مهتمة بتخريج جيش موظفين.
دفع نصر ثمن ايمانه بحرية البحث، ومنع من الترقي، لتنتقل معركة الحرية حول بحثه/كتابه (مفهوم النص) الى الواقع وتتحول الى حكم محكمة (في القضاء الحديث) بانه مرتد عن الاسلام ويجب تطليقه من زوجته. هنا قامت الدنيا ولم تقعد، فالدولة تواجه شيزوفرانيتها من جديد. هل تدافع عن الحرية ام تحمي الثقافة التقليدية؟ هل تروض الباحث فتفقد صورتها الحديثة ام تواجه الشيخ المعمم بسلطة التحريم فتفقد بركته؟
احتارت الدولة ووصل حراسها الايديولوجيون الى «الحيلة» (هذا هو مجال براعتهم )… وخرج نصر ابو زيد من مصر الى هولندا «لاجئاً ثقافياً او جامعياً».
خروج نصر كان حلاً سياسياً، وبدت الجامعة مجرد ادارة حكومية تنفذ ما يطلبه الالهة في السلطة والكهنة من الحراس الايديولوجيون والامنيون.
بدت الجامعة هنا مستسلمة لمصير عودتها الى «مستعمرات تأهيل المواطن الصالح»، بعدما كان أحد بواعث السعي إلى تأسيس الجامعة كمؤسسة مستقلة للفكر والثقافة العصريين، هو حالة الفشل الذريع التي منيت بها كل محاولات تحديث المؤسسات التقليدية، وعلى رأسها مؤسسة الأزهر. هذا على الرغم من محاولات التوفيق بإنشاء مؤسسات تعليم تجمع بين الأصالة والمعاصرة مثل مدرسة دار العلوم التي أسسها علي باشا مبارك 1823 ـ 1893، وكما تم إنشاء مدرسة دار العلوم سنة 1872 لتلافي ما امتنع شيوخ الأزهر عن قبوله من إدخال بعض العلوم الحديثة ضمن البرنامج الدراسي إلى جانب العلوم الدينية التقليدية، تم ايضاً سنة 1907، بعد عامين من رحيل الإمام محمد عبده، انشاء مدرسة القضاء الشرعي التي كان الإمام قد وضع مشروعها قبل وفاته «للاستغناء بها عن الأزهر» ـ حسب عبارة رشيد رضا ـ من أجل تخريج قضاة مدربين وفقاً للأساليب الحديثة».
الملاحظة السابقة كتبها نصر ابو زيد في بحث له عن «الرقابة على الحريات البحثية» (قدم الي المؤتمر الدولي لحرية التعبير في مكتبة الاسكندرية/تشرين الأول 2004) واشار فيها ما ذكره دونالد مالكوم ريد في دراسته المهمة «جامعة القاهرة وصناعة مصر الحديثة» من وقائع تدل على قوة مؤسسة الجامعة وقدرتها على التصدي للتحديات التي فرضتها المؤسسات التقليدية.
الواقعة الأولى: هي واقعة اختيار الجامعة للكاتب والصحافي المؤرخ جرجي زيدان لتدريس التاريخ الإسلامي. وهو اختيار أثار اعتراضات في شكل مقالات في الصحف، خاصة في صحيفة «المؤيد» لصاحبها الشيخ علي يوسف تعترض على اختيار «مسيحي» لتدريس التاريخ الإسلامي. وكان رد فعل الجامعة التي كانت تستأجر أساتذة أجانب من أوروبا لتدريس «الأدب العربي» و«الفلسفة الإسلامية» فيها، ان استسلمت للابتزاز الرخيص فأرسلت خطاب اعتذار للأستاذ جرجي زيدان مصحوباً بشيك قدره مئة جنيه مصري تعويضاً عن فسخ العقد الذي كان قد وقع بينه وبين الجامعة.
الواقعة الثانية: تتصل بحالة منصور فهمي الذي حاز درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون العام 1913 على رسالته «أحوال المرأة في الإسلام». كان منصور فهمي قد سافر إلى فرنسا مبعوثاً من قبل الجامعة الوليدة (الجامعة المصرية) ولكن بعض التقارير السرية وردت إلى الجامعة تتهم منصور فهمي بأنه يكتب رسالة مضادة للإسلام ونبيّه، وذلك تحت إشراف «أستاذ يهودي». وبناء على هذه التقارير حاولت الجامعة أن تقنع المسؤولين في جامعة السوربون بإرسال الرسالة للجامعة المصرية قبل إقرارها لترى فيها رأيها، وتقرر صلاحيتها أو عدم صلاحيتها. وبالطبع لم تلق السوربون أدنى التفاتة لهذا الطلب الغريب والشاذ وحصل الشاب منصور فهمي على درجة الدكتوراه… وكان القرار هو عدم توظيفه بوظيفة رسمية في الجامعة أو بغير الجامعة. وظل الدكتور خريج السوربون عاطلاً حتى وضعت الحرب أوزارها وهدأت الضجة فتم تعيينه في الجامعة… وجدير بالذكر أن الرسالة التي طبعت مرتين باللغة الفرنسية ثانيتهما في العام 1990 لم تترجم إلا العام 1997 ونشرتها منشورات دار الجمل وهي مؤسسة نشر عربية موطنها مدينة كولون في المانيا!
هناك وقائع أخرى معروفة أكثر مثل طه حسين والشعر الجاهلي… ومحمد احمد خلف الله ورسالته المرفوضة حول «الفن القصصي في القرآن الكريم» 1947، ثم قرارات استبعاد الشيخ أمين الخولي ولويس عوض ومحمود أمين العالم من الجامعة بعد ثورة يوليو… وأخيراً «سحب كتب نصر أبو زيد نفسه من مكتبة الجامعة من دون قرار قضائي أو نيابي أو أمني أو فتوى من الأزهر بمصادرة الكتب».
ويتوقف الدكتور نصر أبو زيد في شهادته عند رد وزير التعليم العالي على سؤال وجه إليه في احتفال بالدكتور احمد زويل. السؤال كان عن «الكتب المصادرة» والإجابة كانت: «أنا أتحدث كأستاذ قانون» ثم قال: «إذا جاء كتاب بما يخالف رواسخ المعتقدات الدينية فسوف أوقفه، فالرقابة في الجامعة لاحقة على ما هو مخالف لمعتقدات المجتمع، ولكن لا يمكن في البداية أن أقول لكل أستاذ هات كتبك لكي أراها لأن هذا ضد حرية البحث العلمي… أنام وبعد صدور الكتاب نقرأه ونفحصه وهل هو مناسب للتدريس أم لا؟ فإذا كنت تريد أن تكتب فأهلاً وسهلاً ولكن لا تخل بقيم المجتمع».
ويقول الدكتور نصر: «هل نتساءل عن الرقابة تلك هي من خلال خبرتي الشخصية، أشد أنواع الرقابة وحشية، لأنها لا تحمي المجتمع بل تسد الضوء والشمس عن مستقبلنا عن الشباب في الجامعة».
هكذا انتقلت الجامعة من كونها ملعباً مفتوحاً للأفكار الجديدة التي لا تستوعبها المؤسسات الثقافية التقليدية. وأنشئت كمؤسسة مستقلة ترعى الخروج عن حزام العفة الذي يضع الثقافة في مجال الدين فقط.
الحاجة إلى الجامعة كانت أكبر من محاولات السيطرة عليها. لكن الأزمة المالية بعد الحرب العالمية الأولى ساقت الجامعة إلى يد الحكومة وتحولت من الجامعة الأهلية إلى جامعة فؤاد الأول. أصبحت حكومية. وحين قامت ثورة الضباط كانت الجامعة هي مصنع من مصانع الحشد وتخريج جيوش موظفين من الطبقة الوسطى. تأممت الجامعة تماماً. وأصبحت مع هزيمة مشروع الجنرالات مجرد مستودع للبطالة المتوقعة.
الآن؟ الجامعة تتحول في مزاجها العام إلى ما يشبه سوق تجار «الشنط» الأستاذ لا يعرف شيئاً عن المادة التي يدرسها هو يدير فقط موهبته في الحفظ لينال شهادة تظل في طريقها المتصاعد ليصبح عضواً في هيئة التدريس. هو لا يفكر ولا يقدم بحثاً جديداً انه يعيد إنتاج الموجود. يدور في نفس الفلك ويبحث عن رضا القيادات ومال الطلاب.
هكذا إلى أن وصلنا إلى وضعية أستاذ الجامعة الذي يفكر بعقلية مقاول وسمسار قديم. وهذه هي الحكاية كما حدثت في اجتماع يناقش مصير فرع جامعة عريقة في بلد عربي مجاور. أعضاء هيئة التدريس في الفرع احتجوا فهم من القاهرة منذ سنوات لا تتحرك أوضاعهم ويريدون الالتحاق بكليات أخرى. وكان رد رئيس الجامعة الذي كان حريصاً على وقاره حتى لحظة خروجه من المنصب… شرح الرئيس الوقور خطته: «الفرع ميزانيته 50 مليون جنيه… تحبوا نرجعها للحكومة… حد يرجع فلوس للحكومة».
ماذا سيفعل بالأموال؟!
ظهر السؤال على وجه الحاضرين، فكان الرد بفخر لا يحسد عليه: «هانفتح جامعة خاصة»… ولم تذهب الدهشة الى الآن.
السفير