“كوباني”.. “عقدة” تركيا الكبرى؟/ هوشنك بروكا
لا شكّ أنّ “كوباني” المدينة الكردية السورية، التي كتب العالم سيرتها وكان شاهداً على “عصرها” طيلة ال133 يوماً، قد تحوّلت إلى رمز “أممي” للحرب على “داعش”، ناهيك عن كونها رمزاً للمقاومة ووحدة الإستراتيجية والحلم الكرديين للعبور من بوابة نصرها إلى “كردستان الكبرى”، الحلم القومي الذي طالما راود الأكراد في جهاتهم الأربعة.
لم تكمن أهمية “كوباني” الإستراتيجية التي تتبعها أكثر من 380 قرية، بالنسبة لأطراف النزاع، فقط في أنها ثالث أكبر مدينة كردية على الحدود مع تركيا، وأكبر حاضنة شعبية ومركز ثقل وخزان مقاومة ل”وحدات حماية الشعب” (YPG)، ناهيك عن كونها تشكّل شريان المواصلات، الذي يربط سمال سوريا بجنوبها وشرقها بغربها، ما يعني أن سيطرة تنظيم “داعش” عليها كان سيعني سيطرته على كامل الشريط الحدودي ما بين سوريا وتركيا، الممتد من “كوباني” إلى بلدة إعزاز الإستراتيجية بريف حلب، وبالتالي تأمين ممّر آمن للإمدادات بمسافة 140 كم تقريباً. وإنما ما زاد من أهميتها هو تحوّل معركة “كوباني”، بعد التعاطف الدولي خصوصاً بعد التغيّر المفاجئ في الموقف الأميركي، إلى “معركة كسر عظم” بين “داعش” من جهة، والأكراد وقوات التحالف الدولي من جهة أخرى.
دخول “كوباني” ومعركتها المصيرية ضد “داعش” في صلب أولويات الإستراتيجية الأميركية في سوريا، أضاف إليها بعداً رمزياً، وضع المجتمع الدولي بقيادة “قوات التحالف” أمام “معركة كسر إرادة”: إما أن تنكسر إرادة العالم وتكون أميركا أول المنكسرين، أو ينهزم داعش. الأمر الذي دفع العالم إلى نصرة “كوباني” ضد تمدد “داعش”، لتصبح أرادة أكرادها من إرادته، ويصبح صمود “كوباني” من صموده، ونصر “كوباني” من نصره.
وإذا كان كان العالم قد ربح الحرب، بحسب المنطق العسكري، لأول مرّة منذ نشوب الصراع في سوريا عام 2011، في معركة ال133 يوماً ضد المجموعات التكفيرية الإرهابية المسلحة بعامة، و”داعش” بخاصة، بدءاً من “كوباني”، فإن الخاسر الأكبر فيها إلى جانب “داعش” هو تركيا، التي كشفت “كوباني” للعالم الكثير من أوراقها، بإعتبارها دولة “متهمة” بدعم “داعش” و”جبهة النصرة” وجماعات متطرفة وتكفيرية أخرى. ويتراوح الدعم التركي لهذه المنظمات الإرهابية، بحسب قادة المعارضة التركية، وصحف عالمية مثل نيويورك تايمز، واشنطن بوست، غارديان، ديلي ميل، بي بي سي، سي إن إن، سكاي نيوز، دير شبيغل، فوكوس إلى جانب مصادر تركية مثل سي ان ان تركيا، حرييت ديلي نيوز، طَرَف، وراديكال، وصحف أخرى، ما بين التعاون العسكري ونقل الأسلحة والإمدادات، إلى الدعم اللوجيستي والمادي وتقديم الخدمات والمساعدات الطبية، فضلاً عن تحوّل تركيا، بحسب تقارير الإستخبارات الغربية إلى “ممر سهل وآمن” للإرهابين من وإلى سوريا. الأمر الذي دفع الدول الأوروبية، بعد “غزوة شارلي إيبدو”، إلى إعلان حالة “الإستنفار” والتأهب الأمني إلى أقصى درجاتها، خوفاً من أن تتحول القارة الأوروبية إلى ساحة مفتوحة أمام التطرف الإسلامي والإرهابيين القادمين من العراق وسوريا عبر تركيا. ولعلّ المفاجأة الكبرى والمزلزلة في هذا المنحى، كانت في كشف قناة “ARD” الألمانية عن وجود معسكر تدريب لمسلحي داعش في جنوب تركيا قرب مدينة غازي عينتاب، والذي يعدّ مركز استقبال وتأهيل لهم قبل نقلهم إلى سوريا والعراق.
تركيا حسمت موقفها النهائي من المشاركة في “التحالف الدولي” ضد داعش، انطلاقاً من قاعدة “عدو عدوي صديقي”. الإستراتيجية التركية في سوريا قائمة بالدرجة الأساس على “معاداة” تشكيل أي كيان كردي، أو منع قيام “كردستان ثانية” جارة تمتد الحدود معها لحوالي 800 كم. الواضح أنها وجدت في حرب “التحالف الدولي” ضد الإرهاب، “حرباً ضد استراتيجيتها”، بإعتبار أنّ أيّ تحالف دولي يشترك فيه الكرد في المنطقة، سيعني اعترافاً ضمنياً بهم بإعتبارهم “شعب وقضية”، ما يمهّد الطريق أمامهم لإعلان دولتهم المستقلة.
ذات الإستراتيجية سارت عليها تركيا عشية غزو العراق عام 2003، إذ رفضت المشاركة مع قوات التحالف، آنذاك، لذات الأسباب وذات الهواجس والتخوفات، لأنها وجدت في الحرب
“إستعماراً” ليس لها في نتائجه وتداعياته ناقة ولا جمل. تركيا لم ترَ في الحربين؛ حرب “الحلفاء في العراق 2003، وحرب “الحلفاء” في كوباني 2014/2015، إلا بإعتبارهما “مقلباً غربياً” أو “فخاً إستعمارياً” لجرّ تركيا إليه، مرّة “بحجة إسقاط الديكتاتور”، وأخرى “بحجة إسقاط الإرهاب”. لكنّ تركيا على خلاف توقعات مهندسي نظريتي “العمق الإستراتيجي” و”صفر أعداء”، خسرت في الحالين؛ في الأولى خسرت العراق الجار كعمق استراتيجي لها على دول الخليج، ناهيك عن قيام كردستان ضد إرادتها ك”شبه دولة” على حدودها، وفي الثانية خسرت دورها كلاعب إقليمي في المنطقة، وفقدت مكانتها في المجتمع الغربي كدولة عضو في حلف الناتو، وعضو مرشح إلى منظومة الإتحاد الأوروبي، فضلاً عن خسارتها في كوباني أمام الأكراد الذين يلوّحون على الطرف الآخر من الحدود بقيام “كردستان ثانية” جارة لها.
ربما ربحت تركيا “داعش” في كوباني، لكنها خسرت العالم. أما السبب فهو دائماً واحد، وهو أنّ أي محاولة، في أي جهة كردية مجاورة لها، في سوريا، أو العراق أو إيران، أو حتى في آخر مكان في العالم، لإنشاء “إقليم كردي” أو “دولة كردية”، تشكل بالنسبة للإستراتيجية التركية، تجاوزاً للخط الأحمر التركي، و”نموذجاً سيئاً” لحل القصية الكردية، التي عانتها ولا تزال الحكومات التركية المتعاقبة منذ قيام الجمهورية التركية على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1923.
ليس من قبيل الصدفة أن يعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بعد ساعات من تحرير كوباني، أن “تركيا لا تريد منطقة كردية خاضعة لحكم ذاتي في سوريا على غرار تلك القائمة في العراق”، مؤكداً من جديد دفاعه عن فكرة إقامة “منطقة حظر جوي” و”منطقة أمنية” على الحدود السورية.
في “كوباني” انهزم “داعش” أمام القوات الكردية المدعومة من “التحالف الدولي”، لكن من السابق لأوانه، القول بأن الكرد انتصروا.
في كوباني تدوّلت القضية الكردية، بإعتبارها قضية أكبر شعب في العالم بلا كيان قومي، لكن من المبكّر القول، بأنّ القضية الكردية انتصرَت.
في حدود “كوباني” انتهى كابوس “داعش”، كما جاء في تقرير للسي إن إن، لكن من السابق لأوانه القول، بأنّ “داعش” الذي لا حدود لكابوسه قد انتهى.
في “كوباني”، “انهزمت” تركيا، لكن من المبكّر جداً القول، بأنّ كردستان انتصرت.
في “كوباني” من السهل الحديث، الآن، عن نجاح القوات الكردية مع قوات “التحالف” في طرد “داعش” وإخراجه منها، لكن من الصعب جداً الحديث فيها عن “نجاح مدينة”.
والأهم من كل هذا وذاك، ربما من السهل، الآن، الحديث في “كوباني” عن انتصار “إرادة العالم” ضد “إرادة الإرهاب”، لكنّ من الصعب جداً وجداً الحديث عن “انتصار مدينة” دُمرت بالكامل وتحوّلت إلى “مدينة أشباح”.
في منطق الحرب على الإرهاب، انتصرت “كوباني” على داعش مرّتين؛ مرّة لكردستان نيابةً عن كل أكرادها، وأخرى لأميركا وحلفائها نيابةً عن كلّ العالم، إلاّ أنها ستبقى مع أختيها “قامشلو” و”عفرين” المرشحات في القادم من فوضى “داعش” للمزيد من الخراب، “عقدة” تركيا الكبرى، التي لن تجد طريقها للحل قريباً.
ايلاف