كورتاثر لأليخاندرا بيثارنيك: لن ترحلي أبدًا !
أحمد عبد اللطيف
في فبراير/ شباط الجاري تحل ذكرى رحيل خوليو كورتاثر، أحد أكثر الكُتّاب المؤثرين في اللغة الإسبانية وأكثرهم شهرة، لكن صاحب “لعبة الحجلة” لا يتوقف عن مفاجأة قرائه حتى بعد رحيله بسنوات. صندوق كورتاثر الأدبي لا يزال مليئًا، بالإضافة لقصص وروايات، بأشعار ومراسلات، وإن كان لم يكتب سيرة ذاتية (هي بالفعل موزعة في أعماله السردية) إلا أن مراسلاته تكشف عن وجه آخر للكاتب المشغول بالفن وتكنيكاته، كما ينشغل بأصدقائه المقربين وقراءة أعمالهم، بل وتتضمن الرسائل عروضًا لكتب وانطباعات شخصية شديدة الجمال والعمق عن تأثير كتاب ما عليه.
في الرسالتين اللتين نقدم لهما ترجمة هنا، نكتشف عمق العلاقة بين كورتاثر وأليخاندرا بيثارنيك (1936-1972)، شاعرة الأرجنتين الأبرز في النصف الثاني من القرن الماضي، وواحدة من الشاعرات اللاتي لم يجدن مكانًا لهن في العالم فقررن الانتحار. لن نعثر في سيرة بيثارنيك إلا على نجاحات متوالية منذ ظهرت كشاعرة رحبت بها الأوساط الثقافية في بوينوس آيرس أولًا ثم في باريس، لقد ذاع صيتها منذ ديوانها الأول “الأرض الأبعد” (1955) ومثّلت خطوة جديدة في الشعرية اللاتينية، وتمجيدًا للسوريالية كرؤية للعالم والموت والطفولة كثيمات ثابتة ومتكررة. لكن ألم بيثارنيك كان وجوديًا، لم تستطع رغم كل نجاحاتها أن تؤمن بنفسها ليس فقط كشاعرة، بل أيضًا كإنسانة جديرة بالحياة، وعجزت عن التصدي لسؤال الموت الملّح حتى انتصر عليها وهي ابنة السادسة والثلاثين. لذلك عانت صاحبة “البراءة الأخيرة” من المرض النفسي، وكانت نزيلة شبه دائمة في مستشفيات الأمراض النفسية لمحاولاتها الانتحار المتكرر. محاولات باءت بالفشل لمرات حتى أصابتها نوبة اكتئاب عارمة في سبتمبر 1972 فتناولت خمسين قرصًا من السيكونال، وودعت الحياة في صمت.
نختار هنا رسالتين أرسلهما لها خوليو كورتاثر، تعكس كل واحدة فيهما مدى تقديره لفنها العظيم ولقصيدتها المميزة والمنفردة، كما تعكس مدى قلقه عليها وتحذيره (في الرسالة الثانية) من الإقدام على الانتحار.
باريس، 14 يوليو 1965
أليخاندرا الغالية
لا تغضبي مني لهذا الصمت الطويل. الصمت أيضًا يربطنا كما يربط أربع علب حلوى رباط أسود، ويكفي فك الفيونكة لتظهر قطع الميرينج والباتيه والبيتي فور، دون أن أعد لك العرائس الحلوى. وهذه الأشياء كل يوم.
حبيبتي البعيدة، رحنا الأسبوع الماضي لنتعشى في مونتماشو مع لور وفيليب، وكل العالم تحدث عنك كثيرًا ما اضطرني لسحب كرسي آخر لك. وبفضل جهاز تجسسي عرفت أيضًا أن صاحبات “كلوب دي لاس بيناتاداس” يجتمعن في البارات ليتذكرن صديقتي بشارع مونتدسديوكا. لقد طغت شعبيتك على شرفات الحي اللاتيني. ثمة رسام يوقّع باسم “بيثا”، ورسام آخر يوقّع بـ “أرنيك”. هناك كوكتيل يسمونه بـ أليكساندرا، ومنتحل سيئ السمعة يدعى إسيودو نشر كتابًا عنوانه “الأعمال والأيام” (عنوان كتاب لها). وفي ممر البيت، تحت نبتة الباولونيا، يلعب قط أسود ويقلدك في طريقة فتح العينين على اتساعهما.
كما ترين لن ترحلي أبدًا.
حينئذ، بينما كنا في ركننا بـ سيجونو (وكل الناس تنطقها سايجون حتى يهينونا ويحتقرونا)، وصل كتابك إلى باريس وعثرنا عليه منذ عشرة أيام حين اضطررنا للعودة للعمل في اليونسكو. قرأته أورورا مرة واحدة، وأنا قرأته ليلة أمس على مهل، مع كونياك وبايب، والآن أكتب لك. بوسعك أن تقدري الجدارة التي تستحقينها بكل هذه الأداءات.
من الصعب بمكان ألا نكون بلهاء عند كتابة خطاب، حين يكون المرء على طبيعته فحسب. منذ سنوات ويشغلني تحويل الرسائل إلى نوع من عروض كتب لاستخدام المؤلف الخاص. لعل من الأفضل أن ألمّح بكلمات مفردة أو برسومات لما يمنحه لي كتابك. لا أعرف الرسم، لكن الكلمات ستكون هكذا:
صرصور
يبروح
فانوس
حصان وحيد القرن
فراشة
فراغ (ممتلئ جدًا، ممتلئ جدًا)
كتابك أثار آلامي، إنه كتابك جدًا، وأنتِ موجودة جدًا في كل سطر من سطوره، واضحة جدًا بتذبذب، من تحت السطور وبداخلها. أتعرفين نظام تصفح كتاب والتخطيط تحت أسطر منه أو فقرات وكتابة تعليق أو مديح أو اعتراض؟ أنا لا أحب هذه الطريقة، غير أني أقولها لك: ما شعرت به هو نفس ما أشعر به أمام بعض اللوحات أو الرسومات السوريالية (قليلة جدًا): أني في لحظة على الجانب الآخر، أني عبرت إليها، أني أنتِ، أني معلق بطرف القماشة كأحد العناكب الحمراء الموجودة في لا بروفنزا وأن لها، أو تبدو، علاقة اتحاد بالظلام. الآن أعرف (وكنت أعرف ذلك من قبل غير أني الآن أعرفه عن شخص حي، شخص قبّلت وجنته ذات مرة) أن كل شيء أو أغلبه يمكن أن يُقال بكلمات قليلة جدًا. كل قصيدة لك تمثل جوهر عجلة ضخمة. ثمة من يصنعون العجلة كاملة، وينبغي أن نرى كيف تتهاوى في الحفر، وأنتِ تسمحين للعجلة بأن تكون شيئًا آخر، شيئًا يستطيع القليلون أن يرسموها بعيدًا عن الصفحة. وحينئذ يفوز “بن هور” بعجلاتك الهوائية التي تخلّف وراءها كل العجلات الخشبية والبرونزية. تبدو لي قصائدك نقوشًا صغيرة جدًا، أو الأفضل تشبيهها باسطوانات بابلية، وذات يوم، حين تأتين لتشغلي الكرسي الذي وضعته لك وسأضعه لك للأبد في بيتي وفي كل البيوت بل وحتى في الباصات وموانع الصواعق، حينها سأصطحبك إلى اللوفر لأطلعك على اسطوانة اكتشفتها منذ قليل، في الصالة الإتروسكانية، وليست أسطوانة إتروسكانية على الإطلاق لأسباب كثيرة من بينها أن الإتروسكانيين المتخلفين لم يعرفوا الأسطوانات أبدًا، لكن اللوفر المحافظ أو الراديكالي وضعها في الصالة الإتروسكانية بسذاجة صافية، أو ربما لم يجدوا لها مكانًا بين الأسطوانات البابلية. سأطلعك عليها وستطيرين من الفرح.
تلقيت منذ عدة أشهر خطابًا منك ضاع مني بعد ذلك بسبب حدث جلل قد أخفق، وكنتِ تطلبين مني تعاونًا لمجلة متخصصة في الطيور أو الأسماك (كوموران أو دلفين؟ تيا بيثنتي؟). بالطبع ليس لديّ ما أرسله، إذ تضطرني الديون التي يجب سدادها للبنّاء الذي أضاف قطعة في بيتنا بـ سيجونو أن نعمل لشهور، هذا الحرفي الماهر. إن كانوا سيدفعون لي مكافأة لسد الديون سأسمح لهم بنشر ما لديكِ، ثمة أخطاء إملائية بسيطة جدًا، لكنه بشكل ما كتاب أدبي…
منذ زمن لم أقرأ قصيدة شديدة الدقة، وشديدة الرفعة.
وطباعة الكتاب جميلة جدًا. أذهلني الغلاف، أنتِ من رسمته؟ ليس معتادًا في بوينوس آيرس أن تخرج الكتب بهذا الاهتمام وبورق وحبر عالي الجودة. الأزرق لون شديد الجمال، والصورة الإيروتيكية (أعرف، أعرف، لكني هكذا، وكل واحد يرى ما يستطيع) تبدو لي مبهرة. أتجادل معك قليلًا في العنوان، لم يعجبني. ربما لأن أي إشارة للعمل ترجفني.
المختارون لقراءة كتابك قليلون، أخشى ذلك. قليلون من سيعيشون في البعد الذي يسمح لهم، كثيرًا أو قليلًا- ظاهريًا- بالعثور على ترابطات فعلية. الحال ليس أني ضد القصيدة الطويلة (قصائد أولجا، مثلًا، قصائد مذهلة، ويجب أن أكتب لها ذلك خلال هذه الأشهر، سأفعل ذلك من سيجونو، قولي لها إن رأيتِها إني تأخرت كثيرًا في قراءة كتابها بسبب هذه الأشياء، لكن الآن نعم قرأته، الآن هو كتابي ومنحني كل ما فيه، أظن ذلك، وجعلني سعيدًا جدًا، على طريقتي في السعادة، وعلى طريقتها فيها بالطبع، إذ نتفاهم) أكمل: الحال أني لست ضد القصيدة الطويلة، لكن ثمة معجزة دائمًا في القصيدة القصيرة العظيمة. (في الهايكو أحيانًا، في ناتاليا كران أو تشار أحيانًا، أو في خواروث).
حفرت أورورا لنفسها طريقًا، وبلسمها وصلني حتى بيتي. ألا يبدو خبراً مثيراً؟ القطة السوداء رأت في التو حمامة عند الباتالونيا فتسلقت النبتة كمجنونة لربما تقبّلها. يجب أن أسلم بأنها لا تشبهك في هذه اللحظة. يمكن أن أراك في أحسن حال وأنتِ تطاردين الحمام لكن المؤكد أنك ستضعين سلمًا على جذع الشجرة أو ستنزلين عليها بباراشوت. الحمامة تعلمت الطيران، كما يقولون الآن بفضل ما دفعتِه.
لا تغضبي مني (وكيف تستطيعين؟ مستحيل!) واكتبي لي. صمتي، كما تقول بينيتي، عملية كونية تستحيل فيها البيجونيا عسلًا. لكني أفكر الآن أني لم أر نحلة أبدًا على البيجونيا، لا بد أنها تكره النحل.
أحبك جدًا
خوليو
————-
باريس، 9 ديسمبر 1971
عزيزتي، رسالتك من شهر يوليو وصلتني في سبتمبر، أتمنى أن تكوني قد رجعتِ إلى بيتك أثناء ذلك. لقد تقاسمنا المستشفيات معًا، رغم أن الأسباب مختلفة. أنا دخلت المستشفى لأسباب عادية جدًا، مجرد حادثة سيارة كانت على وشك أن تقع. لكن أنتِ، أنتِ، هل تقصدين حقيقًة ما تكتبينه؟ نعم، بالطبع تقصدينه، مع ذلك لا أقبل بك هكذا، لا أحبك هكذا، أنا أريدك حية، حمارة، وانتبهي للغة التي أحدثك بها، إنها لغة العاطفة والثقة- وكل هذا، بالفعل، يقف في جانب الحياة وليس في جانب الموت. أريد خطابًا آخر منك، وبسرعة، أريد خطابًا. هذا “الآخر” هو أنتِ أيضًا، أعرف ذلك، لكنه ليس كل شيء وبالإضافة لذلك ليس أفضل ما فيكِ. الخروج من هذا الباب ليس إلا محض شيء زائف في حالتك، وأشعر كأنه يخصني أنا نفسي. أنتِ من تملكين سلطان الشعر، تعرفين ذلك، وكل من يقرأ لك يعرفه، غير أننا لا نعيش في زمن كان هذا السلطان يواجه هذه الحياة كبطل مضاد، فالحياة مغتالة للشاعر. والمغتالون، اليوم، باتوا يقتلون شيئًا آخر غير الشعراء، حتى هذه المزية الإمبريالية لم تعد موجودة، يا عزيزتي. أطلب منك: لا تواضع ولا ضعف، بل إقامة تواصل مع هذا الذي يطوّقنا جميعًا، سمِّه نورًا أو ثيسر باييخو أو السينما اليابانية: هذه الدفعة في هذه الأرض، السعيدة أو التعيسة، لكن لا تستسلمي لصمت التخلي الإرادي عن الحياة. فقط لا أقبل بك إلا حية فحسب، فقط أحبك يا أليخاندرا.
اكتبي لي، يا كلبة، واعذريني على نبرتي، لكني أقولها برغبة في إخلاعك لباسك (الوردي أم الأخضر؟) لأضربك على مؤخرتك وكل ضربة تقول لك أحبك.
ضفة ثالثة