كوميديا الجثث السوداء
مُناف الفتيّح
كمومياء متحجرة أو جثة متفحمة ظهر علي عبد الله صالح بالأمس و هو ما زال متشبثاً بمقعد السلطة اللعينة ! شعرت بمزيج من الذهول و الشفقة و الازدراء و الغثيان ، و تساءلت عن سبب استفحال هذه الظاهرة الصنمية في الوطن العربي أكثر من غيره حيث فاق حكامنا الفراعنة و القياصرة و الأكاسرة عنجهيةً و استبداداً و يا ليتهم فعلوا أو أنجزوا شيئاً مما أنجز هؤلاء رغم فظائعهم ، لكنهم مع ذلك على أتم استعداد ليملؤوا الشوارع جثثاً لكي يلتصقوا بالعروش و لو شبه جثث كما ظهر الطاغية اليمني ، و المثال ينسحب على الحالة الليبية كما على الحالة السورية مع فارق ( الأناقة ) الصنمية و شباب الطاغية الذي لم يمنع شيخوخة العقل و موت الضمير .
في الحالة العربية استثناءٌ يأتينا من أقصى المغرب حيث تدارك الملك الأمر هناك و ( فهم ) مبكراً عكس ابن علي و مبارك أن وضع العصا في دولاب التغيير الحتمي محال و أن مصلحة بقائه قبل مصلحة شعبه تقتضي المبادرة إلى تقديم ( حوافز إصلاحية ) و إن كانت غير كافية للتحول إلى ملكية دستورية فهي على الأقل لا تفتح الباب لتكرار كوميديا الجثث السوداء التي جسدها صالح بالأمس شكلاً و مضموناً و ما زال صدى كلماته و هو ينعق كالبوم فاتكم القطار تتردد في خلفية المشهد الهزلي .
ربما فات القطاران اليمني و الليبي التوقف في المحطة المناسبة و خرجا عن سكة الإصلاح و التغيير ، و لكن المفجع في المشهد السوري أن الطاغية الأكثر شباباً في الشكل لم يجرب حتى أن يقدم عرضاً غير لفظي لمشروع إصلاحي يتضمن خطوات حقيقية و يبدأ قبل كل شيء بإعادة بناء الثقة المفقودة تماماً مع الشارع ، بل لعل الفجيعة الأكبر تتجلى فيما حدث أمس بدخول السفيرين الأمريكي و الفرنسي مدينة حماة رغم أنها محاصرة ! و لسنا سذجاً لتنطلي علينا خرعبلات بثينة شعبان و الإعلام السوري من ترويج لمزاعم التدخل الأمريكي و الغربي فالنظام رفض حتى الآن أن يسمح لأحد بدخول درعا و حوران مع أن الفظائع التي حدثت هناك لا تقارن بما حدث في حماة أو غيرها حتى الآن فلماذا جاءت هذه المغامرة الجيمس بوندية الأمريكية الآن فقط و من يصدق أنها حدثت دون إرادة السلطة !؟
الفشل الرسمي السوري بلغ درجةً من الانحطاط و العجز في إدارة الأزمة – و حتى في وقف تدهورها – حداً جعل القوى العظمى تتدخل بهذا الشكل الفج لتبدأ هي بالإشراف على الأمور ميدانياً و محاولة التقاط أي خيط يمنع انهيار هذا النظام الذي بلغ من الغباء ما فاجأ عرابيه الذين أدركوا أن الذي على العرش جثة أخرى خرقاء لا تفقه شيئاً في ألف باء السياسة و أن ترك الأمور تدار بهذه الرعونة و العنف الأعمى يهدد بسقوط قريب للنظام أو فوضى عارمة و كان هذا الحضور لضبط إيقاع العنف الذي يمارسه النظام و إحساس القوى العظمى بالخطر الشديد على مصالحها التي كانت تعتقد أن وجود هذا النظام يجعلها بمأمن من تجاوز الخطوط الحمراء المتفق عليها منذ عقود و لا ريب أنها الآن تحس بحرج الموقف و لا تجد بداً من التدخل لإنقاذ النظام من ورطته أو البدء بالبحث عن بديل مناسب .
ما يقلق الغرب عموماً أنه نجح حتى الآن في تحقيق اختراقات بدرجةٍ أو بأخرى في كل الأزمات العربية و استطاع الخروج بأقل الخسائر في مصر و تونس و وضع يده على الملفين الليبي و اليمني و تطويق انتفاضة البحرين ، لكن الحالة السورية هي الأكثر بعداً عن هيمنته و تأثيره و أظن أ ن هذه ” اللحظة الحموية ” تمثل انقضاضاً لمحاولة الإمساك بالزمام المنفلت و الحد من رعونة نظام بشار و إفهامه أن ” الفهم المغربي ” هو الحد الأدنى للخروج بأقل الخسائر له و الأهم لأمريكا و الغرب و من المؤكد أن هذه الزيارة قد فرضت على النظام رغم أنفه و سمعه و بصره و أن متاجرته بها محاولة لصرف النظر عن هذه ( البهدلة ) الدبلوماسية التي تعرض لها و قلبها إلى تشويه لصورة الحراك الشعبي و المعارضة التي يجب أن يأتي ردها سريعاً و حازماً للتبرؤ من هذه الغزوة البراغماتية الأمريكية الباحثة عن موطئ قدم لها في الأزمة و لا يمكن للخصم أن يكون هو الحكم بل إننا في هذه الحالة أمام خصمين بينهما تنافس شديد في مستوى العهر و الخبث و لا بد من توخي أقصى درجات الحذر من طرف لجان التنسيق و المعارضة الوطنية ، فالآن هناك من ينوي أن يرغم بشار الأسد أن ( يفهم ) و علينا نحن أيضاً أن نفهم ( بفتح الهاء ) و نُفهِم الجميع ( بكسر الهاء ) أننا شيعنا جثة الطاغية و لا نقبل بمومياء محنطة على العرش من جديد .
الصدفة الجميلة أن هذه الزيارة جاءت في جمعة لا حوار و يجب أن يقال نفس الكلام للسفيرين الأمريكي و الفرنسي .. لا حوار معهما أيضاً ، فالرسالة التي يجب أن تصل للسفيرين الفهيمين أننا نفهم هذه الكوميديا السوداء و لن ينطلي علينا هذا الكرم الميكيافيلي .. فاتكم القطار .
08/07/2011