كيس نايلون طائر/ غطفان غنوم
بينما كان دون كيشوت يهاجم طواحين الهواء برمحه الطويل، كان سانشو بانزا يقف قرب حماره منتظراً، وكنت أنا أراقبهما من مقعدي في صالة المسرح. يومها فقط عرفتُ أنني أحب أن أكون ممثلاً. هكذا تغيّرت حياتي تماماً، ومنذ ذلك اليوم ابتعدتُ عن كل ما قد يعيق حلمي. هجرتُ كتبي المدرسية كي لا أحقق نجاحاً يضمن لي أن أصبح طبيباً، كما كان يتمنى لي أهلي، ونسيت اسم إديسون مخترع المصباح الكهربائي، وابن النفيس مكتشف الدورة الدموية، ويوسف العظمة قائد معركة ميسلون. كنت أعرف أن العرب يحبون الأطباء ويكرهون المرض، وأنهم يحبون الممثلين ويكرهون التمثيل.
قررتُ أن أكون وسيماً مثل عمر الشريف في فيلمه “دكتور جيفاغو” ـ ولن أمانع في تقبيل جوليا روبيرتس نفسها وأنهي ما يشاع عن العرب بأنهم متطرفون ومنغلقون ـ وقوياً مثل بروس لي في “قبضة التنين” ـ ولن أرفض أن أنازل نتنياهو نفسه في تل أبيب، لو شاء، وأريح العرب من شره إلى الأبد ـ وحقيراً وسافلاً مثل أسعد فضة في مسلسل “هجرة القلوب إلى القلوب”.
ولذلك باشرتُ بتدريبات الخيال الخاصة بعلم التمثيل، وأصبحتُ قادراً على أن أكون أي شيء، فصرتُ ذات يوم كيساً من النايلون وطرتُ فوق سماء دمشق عالياً ورأيتُ كيف تزدحم الطرقات ويختنق السير، كما لو أن مسيرة عفوية مؤيدة للنظام انطلقت في كل مكان في ساعة محددة. شاهدتُ كيف يتلوى نهر بردى تحت وطأة النفايات بينما تملأ الطرقات شاحنات القمامة المعطلة كراتب والدي التقاعدي، علقت تحت حدائد “جسر الرئيس” الشهير الذي يقع في منطقة البرامكة بعد أن اشتدت الرياح، فرأيتُ عبارة “يسفط النظام” التي بخّها على الجسر شاب من شباب سوريا الذين انتفضوا ضد الحكم فأسقط نقطة من حرف القاف.
وقعتُ فدهستني سيارات موكب الوزير الفارهة حين كان متوجهاً إلى وزارته في سيارة مسوّدة الشبابيك، فمتُّ وتمزّقتُ وعرفتُ كيف يعاني المهملون من وطأة اللامبالين بهم. بُعِثتُ مجدداً في يد سيدة جميلة كانت تشتري من سوق الصالحية الدمشقي خضارها، فعبّأتني بالبصل والثوم ونفضتني مرتين ثم قلبتني إلى الخارج فسقط قلبي تحت أحذية جنود مكانهم الجبهات لا المدن، لكنني لم أكترث لكل ذلك فأنا كيس رائع وصناعة محلية، وجلدي النايلوني يضاهي بجودته جلد “التنين الأم” في الفيلم الصيني الشهير.
تخيّلتُ كيف يمكن لكيس أن يعيش وقلبه في مكان آخر، أدركتُ كيف لكيس أن يعيش وفوق جلده أرقام الهاتف والعنوان وتاريخ انتهاء الصلاحية، كيف يمكن أن يحشر في سجن ضيق ريثما يحتاجه صاحبه لتعبئة الزبالة. حينها صحوتُ من تمريني وقررتُ ألا أجرب أن أكون كيساً بل كاميرا فوتوغرافية سوداء لمّاعة كساعة الـ”رولكس” التي رأيتها في يد “الخليفة” أبي بكر البغدادي.
وفرحتُ حين صوّرتُ رجلاً في الحديقة نائماً فوق العشب بهناء وراحة، وحزنتُ حين انتبهتُ أنه ميت لا نائم، وأن الرصاصة غير الطائشة قد استقرت في قلبه قرب صورة زوجته وطفليه. صوّرتُ مظاهرات ملأت الشوارع وأناساً يركضون هنا وهناك. صوّرتُ ركبتَي فتاة تتأمل واجهة محل ألبسة كما لو أنها خرجت من فيلم صوِّر في ستينيات القرن الماضي في الشام. صوّرتُ ذلك البناء الذي سيرفع رأسنا عالياً، عشرة طوابق أو أكثر، لأنه سيدخل قريبا سجل غينيس للأرقام القياسية لعدم إنهاء بنائه منذ سنين طويلة في “ساحة المرجة” بدمشق.
وصوّرتُ حقول الصبار في المزة قبل أن تجرفها الجرافات كي لا يحتمي بها الإرهابيون، كما يسميهم النظام السوري، فبقي منها طعم المرارة والشوك، غير أنني تعطلتُ فجاةً من شدة خوفي حين رأيتُ بندقية توجّهت نحو عين عدستي وقالت فوهتها: “ممنوع الاقتراب والتصوير”.
وهكذا وجدتُ نفسي في عيادة مليئة بالقطع المستعملة للأجهزة الكهربائية. فحصوا عدستي وبطاريتي، ثم فكّكوني ومجدداً ركّبوني، قبل أن يلفّوني ويضعوني في كرتونة عتيقة متّسخة كتبوا فوقها “مستعمل للبيع”.
العربي الجديد