صفحات سوريةميشيل كيلو

كيف اننا كلنا في السجن ؟

 

ميشيل كيلو

والآن، وقد غاب غبطته والتحق بالرفيق الأعلى، يصير بالإمكان الحديث عنه من زاوية ليست معروفة تتصل بآرائه وخبراته السياسية حول شؤون مختلفة أهمها النظام السوري.

كانت المرة الاولى التي زرته فيها بطلب من الصديق الراحل أديب غنم، الذي حدثني عن خطورة ما يجري في البوسنة والهرسك من مذابح منظمة ضد المسلمين، واقترح زيارة أقوم بها الى البطريرك لمطالبته بأخذ موقف مما يجري هناك، سيحتسب للكنيسة وللمسيحيين العرب، اليوم وفي مقبلات الأيام. هاتفت مكتبه طالباً موعداً لزيارة، فحدد لي سكرتيره موعداً فورياً، بعد أن غاب عني لدقيقة، لكنني شكرته واقترحت موعداً في اليوم التالي. تلك كانت لفتة كريمة منه، شجعتني على الحديث معه بصراحة حول ما اقترح الصديق الراحل قوله له. في اليوم التالي، كان بانتظاري في مكتب متواضع. صافحته من دون أن أقبل يده، وبدأت بعد كلمات الترحيب أتحدث عما أتيت من أجله. تركني اتحدث لدقائق ثم قال فجأة: هذه من مخلفات الجرائم التي ارتكبتها الشيوعية في كل مكان. قلت إنني لا أفهم مناسبة هذا التعليق واقترحت عليه مقارنة جرائم الشيوعية بالجرائم التي ارتكبتها المذاهب المسيحية ضد بعضها البعض وضد البشرية جمعاء، فرفع يديه عن حضنه وقال مبتسماً وكأنه يستسلم: أنا لا ادخل في حوار أعرف أنني سأخسره. هذه الجملة كانت كافية لتغيير أجواء الحديث، ولجعله ودياً وعطوفاً. وبعد أن طلب لي فنجان قهوة آخر فهمت منه أنه يعطيني وقتاً مفتوحاً للزيارة. اتفقنا يومها أن يزور بيروت ويقيم وليمة لرجال دين مسيحيين ومسلمين من مختلف المذاهب، وأن يلقي كلمة يحدد فيها موقف الكنيسة من جرائم البوسنة والهرسك ضد المسلمين. وهكذا كان، فقد قام غبطته بالفعل بزيارة إلى بيروت وألقى في وليمة حضرها عشرات رجال الدين كلمة ناصعة ميّزها ذلك البيان العربي الذي كان يتقنه ويتفرّد فيه. قبل أن أنسى، في نهاية الزيارة، ودّعني غبطته عند باب المريمية وهو يقول لي: تعال لزيارتي كلما كان لديك وقت. عندئذ، قبلت يده وأنا أودعه.

بعد شهرين جئت لزيارته بموعد. كان بانتظاري عند أسفل سلم الطابق الثاني في مقره الداخلي، وعندما صافحته وهممت بتقبيل يده سحبها، ثم وضع ذراعه تحت إبطي واستعان بي خلال صعود الدرج في الطريق إلى غرفته، حيث جلسنا بمفردنا وتحدثنا خلال نيف وساعتين عن شتى الشؤون، بما في ذلك وضع سوريا. كنت أتحدث وكان يستمع، وحين كنت أتوقف كان يدلي بتعليقات ذكية ودقيقة، من دون أن يناقشني في ما كنت أقول. في النهاية، قال لي وهو يودعني: الحزب الواحد موت أكيد والقائد الواحد كارثة مقيمة. ثم أردف: يبدو انك لم تسمع بما جرى معي قبل أيام، فقد جاء شخص إليّ وقال: يريد المعلم أن يراك، سألته من هو المعلم، فأجاب بلغة استنكارية: هو رئيس فرع الأمن السياسي. قلت: يا بني، أنا رئيس الكنيسة ولا أقبل أن أرى غير رئيس الدولة. قل لمعلمك إنني لن أراه إلا وأصفاده في يدي. توقف عن الكلام قبل أن يقول بصوت هامس: كان الله في عون الشعب!

منذ ذلك التاريخ، دأبت على زيارته مرة كل شهر. كانت أحاديثنا تأخذ طابعاً عاماً بعد كلام سريع عن السياسة أخبره فيه ببعض المعلومات ووجهات النظر. ذات يوم، سألته عن دوره السياسي في استقلال سوريا والقضية الفلسطينية، فقال بكل بساطة: أنا اعتبر نفسي فلسطينياً، لأن الفلسطيني هو مسيح عصرنا الذي يجب أن نؤمن به وبقضيته، والذي لا يحق لنا إيمانياً وأخلاقياً وإنسانياً التخلي عنه وعنها. عرجت على سر ثقافته العامة المتنوعة والواسعة، فابتسم بخجل وأخبرني أنه دكتور في الرياضيات والفلسفة، فضلاً عن اللاهوت، ثم اضاف بتواضع: لكن الحياة هي مدرستنا الكبرى، ومن يفتح عينيه يتعلم.

بعد دخولي السجن، طالب الرئيس بإخلاء سبيلي فقال له بجلافة: هذا متآمر ولا يجوز لغبطتك معرفته أو المطالبة بحريته. حين زارته زوجتي بعد أيام بطلب منه كان حزيناً ويائساً وودّعها بالقول: اخبري الأستاذ انه ليس وحده في السجن، فنحن سنبقى جميعنا سجناء إلى أن ننال حريتنا.

عندما خرجت من السجن زرته، فرحّب بي بصوت مرتفع وسُرّ برؤيتي وفرح، وفي ختام الزيارة طلب مني ان ازوره بانتظام، وودعني بعد استقبال قصير عند باب المريمية، وهو يعبر بصوت جهير عن غبطته بحريتي المستعادة.

رحم الله الرجل الكبير، صاحب القلب الواسع والنظرة الإنسانية الشاملة، الذي كان الأسد الأب قد طلب منه العام 1980 رسالة ضد «عصابة الاخوان»، فقال له: لن تجد في كنيستنا من يقبل أن يرسل لك رسالة كهذه، ليس لأننا مع «الاخوان»، بل لأن إرسالها سيلغي ميثاق العيش المشترك بيننا وبين إخوتنا المسلمين، القائم منذ الف وخمسمئة عام ونيف. لن تصلك هذه الرسالة حتى إن علقت مشانقنا.

كم ستفتقدك المسيحية يا صاحب الغبطة؟ وكم سأفتقدك شخصياً وأتذكر لقاءاتنا التي رسخت في ذاكرتي وداخل روحي، التي أحبتك؟

بعد البطريرك هزيم، ثمة مشكلتان تواجهان كنيستنا الأرثوذكسية، هما: تقدم مطارنتنا في السن، ووجود ثلاثة قائمين بأعمال البطريريكية هم لوقا الخوري وموسى الخوري وغطاس هزيم، مدير البلمند وابن شقيق الراحل الكبير. هاتان المشكلتان تنضويان في إطار مشكلة أكبر لا علاقة للكنيسة بها، لكنها تنعكس عليها كما تنعكس على كل شيء عندنا، هي معضلة سوريا الراهنة، التي طرحت وتطرح تحديات مصيرية بكل معنى الكلمة على الكنيسة، وتسببت في شروخ عميقة داخل صفوف أرثوذكس سوريا، الذين يمثلون أغلبية المسيحيين السوريين، واعتبرت كنيستهم على مر التاريخ الأقرب إلى الشعب بفئاته كافة، وبالتالي إلى مواطنيه المسلمين، الذين لطالما رأتهم في ضوء هويتهم القومية كعرب، وتاريخهم كمسيحيين سابقين اعتبرت نفسها مسؤولة أيضاً عنهم. انقسم المسيحيون حول المجريات السورية واتخذت كنيستهم الارثوذكسية مواقف رخوة او مؤيدة من بطش النظام بالشعب، فبدت غريبة عن تاريخ ذكرت نموذجاً عنه هو رد البطريريك هزيم على الاسد الاب. ومع ان شيئاً من التصحيح وقع في الآونة الاخيرة من خلال بيان البلمند، الذي ذكر المسيحيين ببعض أسس علاقتهم مع أخوتهم المسلمين، وأكدوا على حقيقة انهم يشكلون معهم شعباً واحداً فلا بد ان يظل موحداً، فإن موقف الكنيسة أثار المخاوف من نتائجه الكارثية، التي ستشكل منعطفاً غير مسبوق في صلاتهم مع مواطنيهم المسلمين، وستضع حدا لتاريخ طويل من الشراكة والتسامح والعيش الواحد، وستمزق الأواصر الداخلية للمسيحيين، بعد ان تعاطف قسم واسع منهم مع ثورة الشعب وانحاز إليها وتبنى مطالبها.

في هذه الظروف، غاب البطريرك هزيم، تاركا وراءه اسئلة خطيرة وجماعة مسيحية منقسمة على نفسها، يقتلها الخوف من صعود تطرف مذهبي وعنيف يهدد بطي صفحة الإسلام المتسامح وفتح صفحة جديدة على المسلمين أنفسهم، ويخشون ان يكون قسم كبير منهم بين ضحاياه، بينما ينتشر القتل ويعم وينضم فريق من الشباب المسيحي المتحمس للنظام او المغرر به إلى شبيحته بينما يغرق بدماء شعبه، التي توشك أن تكتم انفاسه وتخنقه، ولا يعرف أحد بدقة الى اين تمضي البلاد، وما مصير السوريات والسوريين بعده، في ظل التدخلات الدولية في شؤون سوريا، المفتوحة على جميع الاحتمالات، السيئة منها قبل الجيدة.

ماذا ستفعل الكنيسة الارثوذكسية في أجواء متأزمة داخلها وخارجها؟ هل ستواصل انحيازها إلى النظام، الذي سيكون مؤكداً في حال تم إطلاق يد لوقا وموسى الخوري في شؤونها وسمح لهما بتولي أمورها خلال الفترة التي تفصلنا عن انتخاب بطريرك جديد، علماً بأنهما على صلة بالمخابرات المعروفين وبمخابرات دولة أجنبية أيضاً؟ وماذا سيجري في حال تم انتخاب لوقا بطريركاً جديداً، علماً بأن من المؤكد انه سيقف إلى جانب الأسد، وموقف لوقا سيلحق ضرراً لا يمكن إصلاحه بالكنيسة والمسيحيين؟ أم أن المطارنة سيقفون ضد الخوري، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولو لبعض الوقت، ريثما يكون هناك، بعد رحيل النظام، عمل إصلاحي جدي يخرج الكنيسة من مأزقها المخيف، ويتجاوز في أهميته وخطورته الموقف من النظام، الذي ليس غير عرض وحسب من أعراض أزمتها العميقة التي تعصف بها منذ زمن طويل، ونجح البطريرك هزيم في التغطية عليها وفي جعل الكنيسة تتعايش معها، بقوة شخصيته وعلمه، وقدرته على جسر الهوة بين الكنيسة والشعب؟

لا شك عندي في أن صعود لوقا إلى السدة البطريركية سيطلق ثورة مسيحية ضده في الكنيسة، تشبه ثورة الشعب ضد النظام، ما دام من غير المعقول أن يوالي نظاماً آيلاً للسقوط وان يبقى على موقفه الموالي له بعد سقوطه، علماً بأن اختياره سيستفز كتلاً مسيحية كبيرة وسيدفع بها إلى الانخراط في الثورة الوطنية الجامعة. بينما لن يعني صعود غيره شيئاً غير كسب بعض الوقت بانتظار تغير الظروف السياسية في البلاد، وخلق شروط ضرورية للإصلاح المطلوب.

ماذا ستختار كنيسة لم يعد أحد قادراً على منعها من مغادرة موقعها الراهن الخطير؟ هل تختار شخصاً يتخطاه الزمن والواقع، أم تختار الخروج من حال وضعها لفترة غير قصيرة على هامش حياة الشعب، وجعلها تساير وتخدم نظاماً معادياً له ولرسالتها؟ ماذا سيختار المسيحيون من الآن فصاعداً: الغرق مع نظام الشبيحة، ام النجاة والتجدد مع الشعب الذاهب بتصميم لن يُكسَر إلى مستقبله وحريته؟

 كاتب سياسي ـ سوريا

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى