كيف تحمي الديموقراطية نفسها في العالم العربي؟
وجيه قانصو
أثار تصدُّرُ الإسلاميين نتائجَ الانتخابات في تونس ثم المغرب ثم مصر، قلقاً مُرفقاً بصدمة عند البعض، وخيبة أمل عند البعض الآخر مقروناً بيأس من ربيع الثورات العربية، الذي حمل معه وعود التعددية والحرية وانعتاق الفرد من كل أشكال الوصاية، فإذا بهذا الربيع، وفق هؤلاء، يطوي صفحة سلطة فاسدة، ويُدخل البلاد في شتاء قاس تَهُبُّ فيه رياح الشمولية، التي تحني الرقاب وتخنق الديموقراطية في مهدها، بصياغات دينية ناعمة وماكرة في آن.
قد يحمل هذا القلق واليأس ما يسوغه. فالحركات الإسلامية، على رغم رسائل التطمين التي ما فتئت تطلقها منذ الانتخابات وبعدها، لم تنتج ثقافة داخلية وخطاباً سياسياً يتطابق أو ينسجم مع فكرة الديموقراطية. إلا أن نتائج الانتخابات الأخيرة ليست مشهد «الربيع العربي» الأخير، بل هي صورة جديدة تعكس مواجهة المجتمع العربي مع نفسه، بعدما كان في السابق يعيش حالة مواجهة مع سلطة تصادره وتلغيه. أي انتقل تحدي الديموقراطية من كونه مطلباً ينتزعه المجتمع من السلطة الجائرة، إلى العمل على تجذيره في النظام السياسي وصيرورته طريقة حياة عامة. وهذا لا يتحصل إلا بمسار جدالي طويل، يلين حيناً ويحتد حيناً آخر، يختبر المجتمع فيه قابليته الذاتية والبنيوية للتحول نحو الديموقراطية والاستقرار في أحضانها.
أزاحت النتائج الأخيرة الغطاء عن مشهد مجتمعي يحمل ذاكرة ديموقراطية ضعيفة، ومتخم بالتصورات الدينية التي تكاد تحصر الموقف السياسي بنصرة الدين والداعين إليه، هذا إضافة إلى عدم التزام أكثر القوى المتنافسة بأصول التنافس الانتخابي وقواعده. على رغم كل هذه السلبيات، فإن ما حصل يعتبر خطوة في الاتجاه الصحيح، إذ إن مهمة الديموقراطية الحقيقية، الكشف الشفاف عن تكوين المجتمع واتجاهاته، وانبثاق النظام بمبادئه الناظمة من إرادة الشعب مهما كانت طبيعة هذه الإرادة ووجهتها ومزاجها، واستناد الجهة الحاكمة إلى التمثيل الشعبي، حتى لو كانت هذه الجهة معادية أو مجافية، في تكوينها الثقافي أو الأيديولوجي، لمبادئ الديموقراطية وقيمها ومقتضياتها المنطقية.
في المقابل، أظهرت نتائج الانتخابات الأخيرة، طبيعة البدايات الأولى والأرضية المجتمعية الصعبة والمعقدة التي تتحرك فوقها عملية التحول الديموقراطي في العالم العربي. كما أنها وضعتنا أمام مأزق عميق يتجلى في إمكانية إلغاء خصوم الديموقراطية للديموقراطية نفسها بأدوات ديموقراطية، الأمر الذي يؤدي إلى إجهاض المسار الديموقراطي من بداياته الأولى. ما يدفعنا إلى التساؤل: هل من سبيل لحماية الديموقراطية من نقاط ضعفها التي يتسلل خصومها من خلالها للقضاء عليها؟ وهل من سبيل لحماية الديموقراطية من الديموقراطية نفسها؟
مشكلة الديموقراطية، أن التصويت عبر صناديق الاقتراع أو الاستفتاء، هو الطريق الشرعي الوحيد لتحديد ممثلي الشعب، والمدخل الحصري لاكتساب صلاحية ممارسة السلطة. وهي عملية تشترط بذاتها إعطاء كل فرد الحق في الإدلاء بصوته مع قطع النظر عن نياته أو قناعاته، وهو حق لا يمكن حرمان أحد منه، حتى لو ظهرت علامات أو إمارات، تكشف أن هدف أحد من التصويت هو تقويض الديموقراطية نفسها والانقلاب عليها.
هذا يعني أن الديموقراطية تفتقر إلى عناصر حماية خاصة بها، ومعرضة دائماً للإطاحة بها من داخلها وعبر أدواتها ووسائلها. وهو ما جعل صناديق الاقتراع مصدر زخم ودفع هائلين لمشاريع الاستبداد والمركزيات الحادة والشموليات الكبرى، من خلال استنادها إلى الإرادة الشعبية في تفكيك مؤسسات الديموقراطية وإزالة معالمها ومسخ مفهومها، وهذا ما حصل فعلاً في التجارب الفاشية في إيطاليا، والنازية في ألمانيا، والروسية زمن الاتحاد السوفياتي وبعده، والإيرانية قبل الثورة وبعدها، هذا إضافة إلى التجارب الحديثة الحاصلة في أكثر دول أفريقيا وآسيا الوسطى وأميركا الجنوبية وبالطبع دول الشرق الأوسط.
المفارقة في الديموقراطية أن تحققها يكون في إشراك الجميع بالتساوي في عملياتها الإجرائية، فشرطها هو عدم إقصاء أحد بمن فيهم المتآمرون عليها، كما أن منح خصومها ومناوئيها – الظاهرين والمبطنين – كامل حقوقهم السياسية، علامة على نجاح العملية الديموقراطية حتى لو ان في ذلك خطر موتها ومحو آثارها. إذ إن مجرد فرز الناس إلى مؤيد للديموقراطية ومناوئ لها، معناه الانتقال مباشرة إلى المعسكر المناقض لها. فالديموقراطية لا تشرط في قواعدها الإجرائية الولاء لها، ولا توجد أحزاب خاصة تنطق باسمها، وليست عصبية خاصة داخل المجتمع، بل تقوم على مبدأ الشمول، الذي ينص على إشراك الجميع في العملية الانتخابية والسياسية، من دون استثناء ومن دون شروط ولاء لها أو ثقافة أو تربية خاصة ومُسبقة.
إن نجاح الديموقراطية لا يكون في تفوق أو انتصار المؤيدين لها على خصومها، بل في تساوي الجميع في ممارسة حقهم السياسي والاقتراعي. وهو ما يجعلها تحمل بذور فنائها من داخلها، ويفقدها أية ميكانزمات دفاعية ضد ما يهدد وجودها وبقائها. فبقاء الديموقراطية واستمراريتها ليس داخلاً في مفهومها، بحكم أنها عملية تقوم على مبدأ قيمي وأخلاقي لا مبدأ بقاء ووجود Survival. بل إن صرامة مبدئها في إِشراك الجميع بالتساوي في عملياتها الإجرائية، يبقي إمكانية الإطاحة بها عالية، حتى في أكثر البلدان المعروفة بعراقتها وتجذرها الديموقراطيين.
هذا يفسر حذر وتوجس الفكر اليوناني ثم النظام الروماني، من اعتماد مبادئ الديموقراطية بالمطلق، والتخوف الدائم من تحولها إلى حكم الغوغاء. وهو الأمر الذي دفعهم إلى ترجيح حكم النخبة، أي حكم الوصاية، الذي تكون فيه النخبة العالمة أو القيادة المستنيرة ذات الصلاحيات الواسعة، بمثابة صمام أمان ضد تفلت العامة التي تعوزها الحكمة وتنقصها المعرفة في ممارسة حقوقها وتشخيص مصالحها الحقيقية والجوهرية. وهي فكرة حافظت على جاذبيتها في التاريخ الغربي الحديث، عصر الأنوار على وجه الخصوص، من خلال مفهوم المستبد المستنير، ووجدت مريدين لها في فضاء الفكر الإصلاحي الإسلامي، الذي رأى في مبدأ المستبد العادل سبيلاً للنهضة.
بيد أنه مهما قيل في حُسن مقاصد فكرة الوصاية، إلا أنها مهدت الطريق لكل الأيديولوجيات الشمولية، التي تحصر تفسير المعنى وفهمه وتأويله وسبل تحقيقه بين أيدي قلة متميزة. وهي قلة سرعان ما استعانت بفائض صلاحياتها المدجج بهالات التبجيل والتقديس، لاقتلاع الديموقراطية من جذورها، عبر إلغاء الفرد وتهميش المجتمع، وتحول الشلة الحاكمة من نخبة يفترض بها الانشغال بتشخيص أو تأمين المصالح الحقيقية والجوهرية الخافية على الناس، إلى عصابة مصالح منشغلة بحماية نفسها.
خطورة فكرة الوصاية، وقابلية المجتمع الدائمة للانقلاب على الديموقراطية، دفعت البعض إلى اقتراح صمام أمان من خارج العملية السياسية أو جهاز السلطة، يملك قدرة التدخل لحماية الديموقراطية من دون أن يملك أية صلاحيات أو مشروعية في استلام السلطة وممارستها. وهذا ما يمكن تسميته بالنموذج التركي، الذي أوكل إلى القوة العسكرية، بصفتها غير ذات مصلحة، أو ذات طبيعة محايدة في موضوع تداول السلطة، تكون مهمتها الجوهرية حماية الوطن. فَلِمَ لا نُدرج حماية الديموقراطية ضمن مسلّمات الوطن وأسسه التي لا تمس، بحيث يتساوى أمر حفظها مع حماية حدود الوطن من أي عدو خارجي، وهي مهمة محصورة بالجيش. فإذا كانت الديموقراطية عاجزة عن حماية نفسها فلتحمها جهة محايدة سياسياً – كالجيش – تكون مؤتمنة على مصير الوطن كله. وهو طرح تجد تحمساً واضحاً له من جانب المجلس العسكري في مصر، ويتردد صداها في تونس واليمن والجزائر.
هذا الطرح هو شكل مبطن من أشكال الوصاية. إذ بالإضافة إلى مناقضة الديموقراطية لأي سلطة أو صلاحيات أو إجراء خارج إطار التفويض والتمثيل الشعبيين، فإن منح القوة العسكرية حقاً مستقلاً وصلاحية ذاتية في تصويب مسار الحياة السياسية، يحولها إلى قوة سياسية ذات مصالح وغير محايدة، ويخلق فيها تطلعاً خاصاً بها لاستلام السلطة، وهو ما حصل في كل الانقلابات العسكرية، التي سوغت فعلتها بأهداف سامية وغايات مقدسة. هذا فضلاً عن أن النموذج التركي لم يوضع لحماية الديموقراطية بل كان لحماية العلمانية ولو بأدوات غير ديموقراطية. فالتجربة الديموقراطية في تركيا لم تنجح إلا حين تم لجم القوة العسكرية وإرغامها على الانكفاء داخل ثكناتها. فإذا كانت الديموقراطية بحاجة إلى من يحميها من انقلاب المجتمع عليها، فمن يحميها من انقلاب القوة العسكرية عليها، وهو انقلاب أكثر احتمالاً وأشد فتكاً. بهذا، فإن الحديث عن ضمانات من خارج العملية الديموقراطية، يقوي المخاطر ضد الديموقراطية ويضعها فوق كثبان رملية تبتلعها ببطء عند أدنى حركة تصدر منها.
يبقى القول، إن ضمانة الديموقراطية الوحيدة هي المجتمع نفسه، وذلك حين تضيق المسافة بينها وبينه، ولا تعود الديموقراطية في نظر المجتمع مجرد صندوق اقتراع، بل تصبح طريقة حياة وانضباط وممارسة يومية، مزاجاً عاماً، وطبعاً فردياً، وجِبِلَّة اجتماعية، وحساسية عالية تستنفر في شكل آلي ميكانيزماتها الدفاعية ضد كل ما يهددها. الديموقراطية خيار يعتمده المجتمع طوعاً، لا يملى عليه خارجه، ولا ينجح فيه إلا حين يصمم على تمثل أو اعتماد رهاناته القصوى، التي لا تستدعي الإدلاء بالاصوات فحسب، بل تعديل منظومات الولاء وأطر التضامن الخاصة والعامة وقواعد وأصول تداول السلطة وممارستها، بما يتلاءم مع منطقها ومقتضياتها. بذلك تحمي الديموقراطية نفسها وتملك حظوظاً عالية بالاستمرار، حين يصبح المجتمع نفسه، في ثقافته وتضامناته، ديموقراطياً، لا بصفتها فضيلة خارجية يكتسبها وتضاف إليه، بل بصفتها ذاته وهويته، التي لا يخرجها منها إلا الموت.
صعود الحركات الإسلامية، بمعتدليها وسلفييها وحتى متطرفيها، إلى السلطة بأصوات أكثرية الشعب، هو نتيجة يجب احترامها والالتزام بها، ونعتبرها علامة على نجاح أولى خطوات الديموقراطية في الكشف الحقيقي لا المزيف عن إرادة المجتمع. بيد أن التحدي الأهم لنجاح تجربة الديموقراطية هو في استمراريتها، وفي ألا تكون الانتخابات الأخيرة المشهد الأول والأخير لها. وهذا هو اختبار المجتمعات العربية، وامتحان «الربيع العربي» الفعلي، لجهة وضوح رؤيته، وجديته في التغيير، وامتلاكه الطاقة وقوة الدفع اللازمتين للانتقال بالمجتمع العربي: من مُطالبٍ بالحرية إلى صانعٍ لها، ومن طامح إلى الديموقراطية إلى مُنتِجٍ لها.
الحياة