كيف تشكل سوريا كارثة وهزيمة لأوروبا؟
نشرت صحيفة “الغارديان” مقالا للصحافية ناتالي نوغيريد، تقول فيه إن سوريا هي أزمة أوروبية، بالإضافة لكونها أزمة شرق أوسطية، واصفة إياها بأنها أسوأ كارثة حقوق إنسان منذ عقود.
وتقول الكاتبة: “قد يخبرنا المؤرخون يوما ما إلى أي درجة أضاع الغرب الفرصة لإجبار بشار الأسد على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، لو تم فرض الضغط الكافي على قواته، وبالذات من خلال ضربات موجهة، حيث كانت تلك هي الطريقة التي اضطرت سلوبودان ميلوسيفيتش للتوقيع على اتفاقية دايتون عام 1995، التي أوقفت الفظائع الجماعية في البوسنة”.
وتشير نوغيريد في مقالها إلى أن “فرصة أضيعت في صيف عام 2013 بسبب التردد الأمريكي، وإن تم فتح الأرشيف، قد ندرك أن فشل أمريكا في متابعة الخطوط الحمراء حول استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا كان سببا في تشجع فلاديمير بوتين ليطلق العنان لتدخله العسكري؛ دعما للديكتاتور الذي كان يقوم جيشه بذبح المدنيين منذ عام 2011”.
وتقول الكاتبة: “لا أقول هذا للتغطية على السياسات الأوروبية، فالتردد البريطاني، بل الامتناع في الشأن السوري سبق موقف أوباما، وفرنسا التي كانت مستعدة أن تطلق طائراتها المقاتلة في آب/ أغسطس 2013، كانت بالكاد يمكن أن تتصرف وحدها، لكن محاولة توصيل النقاط بين الشرق الأوسط وروسيا وأوروبا، وكيف اختارت أمريكا أن تتصرف أو لا تتصرف، يبقى أمرا مهما، فدمار الحرب بالقرب من أوروبا، وما يفيض من آثار الفوضى في الشرق الأوسط، هي تطورات لم يتم قياسها بشكل كامل بعد”.
وتستدرك نوغيريد قائلة: “قتل في سوريا أكثر من نصف مليون، ولا يزال العد مستمرا، وكان أول الضحايا في هذا المسلخ في الشرق الأوسط وليس في أوروبا، لكن نحن مرتبطون بهذه الفظائع أكثر من مجرد مقدرتنا على الغضب، الذي يأتي ويذهب في الوقت الذي نجلس فيه ونشاهد الأطفال يقصفون في المستشفيات في الغوطة الشرقية”.
وتجد الكاتبة أنه “في ذروة التفاؤل التي أعقبت الحرب الباردة، كان من المفروض أن يكون بإمكان أوروبا أن تصدر الاستقرار، لكن في السنوات الأخيرة فاض عدم الاستقرار والفوضى إلى أوروبا من الخارج، وولد المشروع الأوروبي من الحاجة إلى ألا يعيد الماضي نفسه، وتؤدي ألمانيا اليوم دور المهيمن المتردد في أوروبا، وهي أكثر ترددا عسكريا، أما بريطانيا وفرنسا فهما دولتان استعماريتان سابقتان في الشرق الأوسط، لكن تأثيرهما هناك يبدو اليوم ضئيلا”.
وتقول نوغيريد: “سيلاحقنا شبح سوريا لزمن طويل، فمنذ سقوط الرقة العام الماضي تحولت الأزمة تدريجيا إلى ما يشبه الحرب العالمية، مع أن القوى الكبيرة المشاركة فيها -روسيا وإيران وتركيا وأمريكا- ليست في حرب مفتوحة مع بعضها، لكنها كلها تحاول السيطرة على أراض، بعض الخبراء يحاول المقارنة مع الحرب الأهلية في لبنان، التي استمرت 15 عاما، التي بمقياسها تكون سوريا في منتصف الحرب بالوكالة التي تدور فيها”.
وتعترف الكاتبة قائلة: “الأوروبيون مهمشون بشكل كبير، بغض النظر عن مدى علو صوت قياداتنا السياسية أحيانا، فلم نستوعب بعد كيف أثرت كارثة سوريا على الطريقة التي ننظر فيها إلى العالم وإلى أنفسنا وإلى القيم التي نحب أن نعلن عنها بعد 1945، قلنا (لن يحدث مرة أخرى)، لكنه يحدث مرة أخرى أمام أعيننا، فأصبحت سوريا إثباتا مطلقا لعجزنا، وكلنا سمحنا لذلك بأن يحدث، وأصبحت سوريا هي الدوامة التي تفكك بسرعة نظاما عالميا يقوم على القانون، ويجب أن يهمنا ذلك كثيرا؛ لأن لأوروبا مصلحة في نظام الأمم المتحدة أكبر من أمريكا، فعندما تتداعى القوانين، كما حصل لعصبة الأمم في ثلاثينيات القرن الماضي، نعلم جيدا كيف يمكن للوحوش أن تخرج رؤوسها”.
وتؤكد نوغيريد أن من “يكسب في سوريا اليوم هم المستبدون والديكتاتوريون الجدد، بوتين ورجب طيب أردوغان والنظام العسكري الديني الإيراني، وفي الوقت ذاته فإن شخصية دونالد ترامب لا يمكن اعتبارها شخصية مطمئنة، وعندما يتحكم مثل هؤلاء في كثير مما يحصل، تحدث في أوروبا ظاهرتان متناقضتان، لكن تقوي كل منهما الأخرى”.
وتلفت الكاتبة إلى أن “الظاهرة الأولى: هي العودة للافتتان بالرجل القوي عديم الشفقة، ويشكل اليمين المتطرف وسرطانه في تيار السياسة الرئيسي حقلا خصبا لمثل هذا التفكير: مهما كان الثمن البشري لا شيء يوقف القائد الذي تبرر الغاية بالنسبة له الوسيلة، المدنيون ليسوا مدنيين: إنهم (إرهابيون)، وقرارات الأمم المتحدة ليست قوانين، لكن مجرد حبر على ورق، وهو مجرد أمر يساعد على تخفيف غضب الليبراليين قبل أن يقوم المفجرون بخلق صحراء ستسمى السلام”.
وتنوه نوغيريد إلى أن “الظاهرة الثانية: أيضا اللامبالاة لما يفترض أنه جدل عقيم مسالم، وتجد هذا لدى اليسار المتطرف في الطيف السياسي الأوروبي، من لندن إلى برلين إلى أثينا، وتكتسي النسبية الأخلاقية التي يؤمنون بها بـ(الدولية)، فمن البداية كانت أزمة سوريا أعقد من تحديد حلفاء بالنسبة لهذا التفكير، والغرب مذنب وانتهى الموضوع، وتغيير النظام سيئ حتى عندما تدعو إليه شعوب يائسة، والصراع يتعلق بحقول النفط، ويمكن إنهاء المشكلة بالمقاطعة ووقف تدفق المال، والحل من خلال المفاوضات، طيارونا على قدر إجرام طياري بوتين ذاته -بغض النظر عن الاستهداف المتعمد والمتكرر للمستشفيات في الغوطة الشرقية- احذروا التيار الرئيسي في الإعلام الغربي، إن توقفنا عن التدخل ستتحسن الأمور، إيران وروسيا تشكلان توازنا مع الإمبريالية الأمريكية”.
وتذهب الكاتبة إلى أن “النتيجة مسالمة أوروبية وعجز أوروبي في الحرب التي تتكشف على بعد ساعات منا، وطبعا هناك شجب وتصريحات من وزراء الخارجية، ودعوات (يجب أن يتم فعل شيء)، لكن مجتمعاتنا وقعت ضحية للكسل والحيرة”.
وتقول نوغيريد: “سنحتاج يوما ما للنظر إلى الوراء، ونتفحص عن كثب التسلسل الزمني للأحداث التي جعلت مكافحة الإرهاب، وليس مفهوم مسؤولية حماية المدنيين، الذي تدعمه الأمم المتحدة، هو أولويتنا الوحيدة، التي جعلت التدخل العسكري ضد تنظيم الدولة أكثر قبولا من ناحية سياسية عام 2014؛ ليس بسبب ضحاياه العرب أو الأزيديين الذين كانوا يذبحون، لكن بسبب قطعه لرؤوس الرهائن الغربيين. نحتاج أن نبحث كيف تحولت التساؤلات الضرورية للغرب إلى لامبالاة على نطاق واسع لما تقوم به قوى الاستبداد”.
وتختم الكاتبة مقالها بالقول: “سوريا كارثة لأوروبا، ليس لأنها أيقظت أحيانا غضبنا المحق (بكميات متواضعة)، ولا لأن سياسة قارتنا قلبت رأسا على عقب بسبب وصول اللاجئين، سوريا جزء منا؛ لأننا في الوقت الذي نحب فيه أن نظن أننا نظرنا إلى أنفسنا في المرآة بعد مذابح أوروبا في القرن العشرين، فإننا سمحنا لدرجة من العدمية أن تدخل في سياستنا للجحيم، التي فتحت غير بعيد عن حدودنا، لقد قمنا تقريبا بتطعيم أنفسنا ضد الخجل.. سوريا تشكل هزيمتنا الأخلاقية”.
(عربي 21)