كيف دمر نظام الأسد سوريا؟
د.خالد الحروب
سلسلة الكوارث التاريخية التي جلبها نظام الأسد الأب لسوريا والعرب خلال العقود الماضية يتوجها نظام الأسد الابن بإضافات كارثية ستدخله الصفحات السوداء في التاريخ. أبواق النظام وآلته الدعائية يطبلون ويزمرون على وتر “الممانعة” و”المقاومة” وشعارات استغباء الناس ويعيدون تدوير الكوارث والجرائم التي ارتكبها النظام، ثم يتهمون بها الشعب السوري نفسه وثواره. والنظام يخلق الكارثة ويقوم بتصنيع الجريمة المادية والسياسية والأخلاقية ثم يتصايح ضد معارضيه متهماً إياهم باختلاقها، ويبدأ بالنواح والندب الحاراتي والتجييشي مدعياً البراءة والطهر. وليست هذه عبقرية في الأداء، بل هو انحطاط أخلاقي مطلق ومستنسخ في تكرار يستدعي الاشمئزاز أكثر من أي شيء آخر. ولكن “العبقرية” التي يُشهد للنظام بها هي استمراره في التلاعب بتوظيف أصوات كثيرة ما زالت مخدوعة بقصة “ممانعة النظام” و”المخطط الاستراتيجي” الذي يستهدف إسقاطه. ولنتأمل جردة الكوارث التي “أبدع” الأسد الابن في جرها على سوريا والعرب في زمن قياسي ويصر مناصروه على إدارة ظهورهم لها وغض النظر عنها، وهي حقائق سجلها الواقع ولا يزال.
الكارثة أو الجريمة الأولى التي ارتكبها النظام تتمثل في عسكرة الثورة السورية ودفعها دفعاً إلى السلاح. لا أحد يمكن أن يجادل في إصرار الثورة وعلى مدار أشهر طويلة على سلمية الأداء وسلمية الأدوات. كان السوريون وببساطة يستلهمون التجربتين التونسية والمصرية حيث أسقطت الثورتان هناك النظامين الديكتاتوريين عبر الاحتجاج السلمي والمظاهرات ومن دون اللجوء إلى السلاح. والحس الشعبي العام، فضلاً عن الوعي النخبوي، كان يدرك في كل هذه الحالات، وعلى رأسها الحالة السورية، أن استخدام السلاح هو ما يتمناه النظام والأجهزة الأمنية، وهو ما تريد هذه الأجهزة توريط الناس فيه. فما أن يتم استخدام قطعة سلاح واحدة حتى تنطلق فيالق وفرق الأمن والجيش والدبابات لتسحق “العصابات الإرهابية المسلحة”. ومرة أخرى تنسخ الديكتاتوريات عن بعضها بعضاً إذ تستفزها حركات الاحتجاج السلمي لأنها تكبل يدها الأمنية المتوحشة وتسحب منها مسوغ “الضرب بيد من حديد”. ولهذا فإن الممارسة التقليدية هي توفير السلاح في الشارع وإغراء أية عناصر باستخدامه وسط الاحتجاجات السلمية، وإن لم ينجح هذا فلا بأس من قتل بعض عناصر الأمن هنا أو هناك واتهام “العناصر الإرهابية” و”المتسللين” بذلك، وبهذا يتم قمع الثورة السلمية بأعتى قدر من البطش المسلح. والنظام السوري اتبع هذا النص حرفاً بحرف، وعلى مدار أشهر طويلة من الاحتجاج السلمي أمعن في القتل والبطش وفي عسكرة الاحتجاجات، حتى صارت الثورة مسلحة فعلًا. وهنا دخلت سوريا والشعب السوري نفقاً مظلماً لأن فتح الساحة السورية للعمل المسلح كما هو الوضع حالياً يعني خروج السيطرة عليه من يد الدولة الباطشة نفسها، ومن يد الثوار. ونظام الأسد هو الذي يتحمل هذه الجريمة الكبرى، وهو الآن وأبواقه يتصايحون بأن هناك جماعات مسلحة و”قاعدة” وسلفيين جهاديين يقاتلونه في سوريا. والنظام ولا أحد غير النظام هو الذي تسبب في الوضع الراهن.
والكارثة أو الجريمة التاريخية الثانية التي ارتكبها نظام الأسد الابن هي إعادة إنتاج جريمة من ذات الصنف ارتكبها الأسد الأب، وهي تكريس الطائفية وتدمير النسيج الوطني السوري. ومرة أخرى ستسجل الوقائع التاريخية على الأرض كيف أن الثورة والناس العاديين كانوا يضعون أيديهم على قلبهم في كل خطوة يخطونها في الشهور الأولى، نافين عنها أي شعار طائفي. كان الجميع منشغلاً بالتركيز على سوريا والسوريين وبأن الثورة فيها الكل وتعبر عن الكل، وهو ما كان ولا يزال الواقع، وكل ذلك هروباً إلى آخر الشوط من أية تصنيفات طائفية. ولكن النظام الذي ترعرع على سياسة “فرق تسد” وتوظيف هذا الطرف السياسي أو الطائفي ضد ذاك، سواء في سوريا أو لبنان، سحب من الرف وسيلة التسعير الطائفي والاحتماء بالطائفة. وهكذا ومرة أخرى بدت العقلانية والحرص الشديد النابع من حس السوريين وخشيتهم على بلدهم في واد لا علاقة له بواد الرداءة السياسية التي يرتع فيها النظام. فقد شغل النظام “شبيحته” لإمعان القتل والتقتيل الطائفي في المدن والقرى المختلطة طائفياً، وسرعان ما برزت وتجذرت خطوط التماس الطائفي. وبطبيعة الحال تفاقم الخطاب الطائفي لأن هناك جماعات أصولية تقف على الحدود الجغرافية والفكرية تفرك يديها كي تنزلق الأمور في سوريا على ذلك النحو لأنها وإن كانت تختلف مع النظام طائفياً وإيديولوجياً، إلا أنها تلتقي معه في البعد الطائفي وتقسيم الناس والأوطان بحسب الاستقطابات الطائفية. ونظام الأسد مسؤول تاريخياً عن مستنقع الطائفية الذي يدفع الجميع إليه في سوريا، ومع ذلك يتصايح هو وأبواقه متهمين الآخرين بالطائفية واستخدامها.
والكارثة أو الجريمة التاريخية الثالثة التي يرتكبها نظام الأسد الابن هي استدعاء التدخل الخارجي بهذه الصورة أو تلك. لم يستمع النظام للاحتجاجات السلمية، ولم يلق بالاً لأية مبادرات سياسية إن من قبل الجامعة العربية أو الأمم المتحدة، ولم ينظر بأي قدر من الجدية للمعارضين والثورة بملايينها واعتبرهم عملاء للغرب وإرهابيين وسوى ذلك. وكان رده الوحيد على مطالب الحرية والكرامة هو المزيد من الدماء وسلسلة لا تنتهي من المجازر والاستئساد على الأطفال الرضع وذبحهم في أسرّتهم. ولكن الاحتماء بالخارج لا يمكنه بطبيعة الحال منع سيل الصور اليومية التي تنقل مستوى الجرائم والمجازر التي يرتكبها النظام، ولا يأبه لها. وعدم الاكتراث بأثر الإعلام يدلل على فشل إضافي عند النظام إذ يظن أن بإمكانه النجاة من الثورة والبقاء في الحكم على رغم كل الدم الذي أريق. ثم يظن أن الرأي العام العربي والعالمي سيظل صامتاً أمام هذه الجرائم بسبب الحماية الروسية. إن العالم لا يعيش في زمن الحرب الباردة حيث يستطيع دكتاتور مثل “بول بوت” أن يقتل مليوناً أو اثنين من شعبه فيما العالم مشلول الحركة يراقب ولا يستطيع التدخل. ستنتهي الأمور في سوريا بتدخل خارجي بسبب تعنت النظام ورفضه لكل الحلول والمبادرات السلمية. وهو المتسبب في ذلك، ولكن يدور إعلامه وأبواقه في كل مكان ويتهم الآخرين بما اقترف.
الاتحاد