كيف غيرت نهاية الحرب الباردة مضمون روايات الجاسوسية/ جين سياباتاري
عندما هوى جدار برلين، لم تعد روايات الجاسوسية كما كانت من قبل. فقد آن الأوان لكتابها ليبحثوا عن أعداء جدد، كما تقول الكاتبة الصحفية جين سياباتاري.
وفرت الحرب الباردة خلفية مناسبة لروايات الجاسوسية. فأعلام الأعمال الفنية حول الجاسوسية، أمثال جيمز بوند، وجورج سمايلي، وهاري بالمر، واجهوا خصومهم الشيوعيين في لعبة شطرنج دولية في خطوات محسوبة بدقة، وأهداف شديدة الوضوح، انطوت على مخاطر وانجازات.
أضفى الخداع والخيانات مزيداً من التعقيد على الموضوع، لكن الأعداء كانوا واضحين ومحددين. فهناك ضابط الاستخبارات البريطاني “سمايلي” في مواجهة نظيرته كارلا من جهاز الاستخبارات السوفيتي الكي جي بي. ويتمثل ذلك في فكرة “نحن” مقابل “هم”.
يقول كاتب روايات الجاسوسية أولين ستاينهاور: “خلال الحرب الباردة، أي قاريء لرواية عن الجاسوسية كان يفهم ما يدور فيها من صراعات على تنوعها، فهي تكون في العادة الشرق مقابل الغرب، أو أن البطل في مواجهة الفساد السياسي، أو الغربيون الجشعون يدمرون نظامهم بأيديهم.”
كما تمكن قراء روايات الجاسوسية إبان الحرب الباردة من التعرف على العملاء المزدوجين كما ورد في رواية فريدريك فورسيث (البروتوكول الرابع)، والشعور بالذهول من عمليات غسيل الدماغ كما في رواية ملف ابكريس لدايتون.
لقد قدم لنا أعمال الجاسوسية في صورة الجاسوس البشري، دون استعمال الأقمار الصناعية وأنظمة التعقب المزودة بها أجهزة الهاتف النقال، كما نراه في أفلام رعب التكنولوجيا المتقدمة. وفي روايات الماضي، عانت الشخصيات التي أوردها الكتاب والمؤلفون من الضغط النفسي والجسدي.
فكان جيمس بوند على شفير الانهيار العصبي عندما قتلت عروسه الجديدة في فيلم “أنت تعيش فقط مرتين”.
و تنتهي رواية (الجاسوس الذي أتى من البرد) بصورة مدمرة لما تتركه السنون من أثر على العملاء المزدوجين الذين يبررون أفعالهم التي تتعارض مع قيمهم الأخلاقية.
بيد أن هناك ما يثير البهجة أيضاً، كالعشاء في مطاعم فاخرة، وبعض المواقف الرومانسية، والزيارات الطويلة إلى أقاصي الأرض، بما في ذلك بلدان خلف الستار الحديدي.
وقد فرض انتهاء الحرب الباردة ضرورة أن يجد الروائيون أعداءً جدداً. يقول كاتب روايات الجاسوسية جوزيف كانون: “عندما انتهت الحرب الباردة فقدنا خصماً مثالياً”.
لم يعد بإمكان الكتاب الاعتماد على مسألة القطبية السهلة في الرواية، مع وضد، بريء ومظلوم، معتد ومحب للسلام… إلى آخره.”
ويقول ستاينهاور الذي تركز روايته الثلاثية “ميلو ويفر” على العلاقات بين الولايات المتحدة والصين: “تبقى روسيا قائمة ولكنها دولة قائمة على الاختلاسات”.
ومن أوجه انتهاء الحرب الباردة ظهورعدد من الصراعات الوجودية. ويضيف ستاينهاور: “الارهاب وجد كموضوع خلال الحرب الباردة، ولكن الآن، بالطبع أصبح مصدراً أساسياً لرواية الصراع. كما أن العلاقات المعقدة بين دول الشرق الأوسط والمتشددين الدينيين تشكل مادة للرواية. الفساد السياسي الداخلي لا يتلاشى، لكن العلاقات الأمريكية مع الدول الأوروبية باتت أكثر تعقيداً.”
ويضيف: “إن بروز المسح والمراقبة الإلكترونية وخلع صفة البطل على من يقرع جرس الإنذار، أو يوصل معلومة تنذر بحدوث أمر ما قبل وقوعه، كل هذه الأشياء تشكل مواضيع مميزة.”
لقد أرخ ستاينهاور في روايته “كايرو أفير” (أو علاقة القاهرة) التي نشرها عام 2014 للأحداث في كل من مصر ما بعد مبارك وليبيا بشكل مواكب للأحداث تقريباً، خلال الربيع العربي.
النظام العالمي الجديد
بعد عام 1989 كان الوقت قد حان لإعادة التفكير بالكامل في لعبة الجاسوسية كما ترد في الروايات. بعد انهيار سور برلين قال جون لا كاريه للنيويورك تايمز: “كتبت دائماً عن أناس يئنون تحت وطأة الثقل الأخلاقي للحرب الباردة، ويتوسلون للتخلص من هذه المعاناة”.
وأضاف: “أنا في غاية السعادة مع وجود حزمة جديدة من المواضيع”.
وقد تعامل مع هذه الحزمة الجديدة في كتاباته متعرضاً لتجارة المخدرات الدولية، والمافيا الروسية، وغسيل الأموال، وفساد الشركات. رواية “البستاني الدائم” (أو The Constant Gardener) التي كتبها عام 2001 تدور أحداثها عن الفساد والتحلل والنهب فيما كان يعرف بكينيا البريطانية.
وتناول فيها شركات الأدوية التي تستخدم المواطنين في البلدان النامية كفئران تجارب لاختبار ما تصنعه من أدوية.
سرعان ما كتب لا كاريه عن الحرب العالمية على الإرهاب وعن عملاء أمريكا وحلفائهم البريطانيين الذين يبررون التعذيب والتسليم القسري غير المعتاد للمشتبه بهم، كما ورد في روايته لعام 2008 بعنوان “المطلوب الأول الأكثر أهمية”.
وتحمل شخصيته الرئيسية توبي بيل، النجم الصاعد في السلك الديبلوماسي البريطاني الذي يبحث عن “الهوية الحقيقية لبلده في مرحلة ما بعد الحرب الباردة وانتهاء عصر الاستعمار”، تشابهاً مع ادوارد سنودن.
فريدريك فورسيث كذلك اتبع عناوين الصحف، وما يتداول في وسائل الاعلام، فقد كتب روايته “قبضة الحرب” عام 1994 أثناء حرب الخليج الأولى.
المخابرات المركزية الأمريكية CIA والبريطانية MI6 والباكستانية ISI حاربوا جميعهم تنظيم القاعدة في روايته (الأفغان) لعام 2006.
وهناك رواية (قائمة قتل) لعام 2013 التي تتناول “داعية” يعظ عبر الإنترنت ويدعو المتشددين المسلمين إلى اغتيال قادة بريطانيا والولايات المتحدة.
بعض الكتاب اختاروا أن يؤلفوا رواياتهم عن الأحداث اليقينية التي جرت في الماضي، إبان فترة الحرب الباردة، أو حتى إبان مراحل تاريخية سبقت الحرب الباردة، بدلاً من تحديثها لتتناول أحداث الوقت الحاضر التي لا يزال يغلفها الغموض.
أفلام الرعب التي يكتبها ألان فارست عن الغلاف الجوي (بلغت 12 حتى الآن، أحدثها فيلم منتصف الليل في أوروبا) تدور أحداثه خلال الثلاثينيات والأربعينيات، عندما وحد العملاء السوفيت والغربيون جهودهم لصد تصاعد الطاغوت النازي.
ويركز جوزيف كانون على الفترة التي تلت الحرب الباردة مباشرة، من خلال روايته (الجاسوس الضال) عام 1998، ورواية “الألماني الطيب” (ذا جود جيرمان) عام 2001، معتبراً أن عام 1945 “وقت مفصلي، يشكل بداية العالم الذي نعيش فيه الآن”.
وشهدت رواية “من أجل عبور اسطنبول” لعام 2012 تحولا إلى مدينة محايدة قرب منطقة البلقان، وهي مكان مثالي للتنصت، وتعد قبلة للجواسيس ومنطقة انطلاق رئيسية لعمل المخابرات الإسرائيلية الموساد للمساعدة على إنقاذ اليهود الأوروبيين المحاصرين.
قد تكون الحرب الباردة مصدر إلهام لا مثيل له لروايات التجسس. لكن جوهر روايات التجسس لم يتغير. القراء يتوقعون أبطالا واضحين يتصدون لأعداء خارجيين. لكن ما تغير للأبد هو وضوح اللونين الأبيض والأسود في طبيعة الحرب الباردة. بمعنى أن تفاصيل الصراعات الدائرة على الساحة العالمية باتت أكثر تداخلاً واختلاطاً.
يقول ستاينهاور: “جواسيس اليوم أكثر تناقضاً، إذ يقومون بعملهم بقدر من القلق المحسوب، ويتعاملون مع العبء الأخلاقي، أي مع الحيلة والكذب التي تتطلبها الوظيفة.”
القراء أصبحوا معتادين على رؤية العيوب في نظامنا، وفي أنفسنا، بفضل الصور المتشككة التي رسمها كتاب روايات الجاسوسية إبان الحرب الباردة.
هذه الحقبة التي حددت بوضوح من هم “الأبطال” ومن هم “الأوغاد” أفسحت الطريق لما نراه اليوم من الخطوط غير الواضحة، وتغير الولاءات، والغموض.
كاتبة صحفية