كيف فتحت لا مبالاة أمريكا باب الانتصار لبشار الأسد؟/ يك روبرتسون
لدى سويسرا تاريخ طويل من عزل نفسها عن الخلافات والصراعات، ولكن ذلك لم يحل دون تحول ضفاف بحيرة جنيف الساحرة إلى مكان يجتمع فيه الخصوم على أمل التوصل إلى حلول سلمية. وللأسف، في الحالة السورية، فإن نسيم سويسرا العليل لم ينجح بعد في بث الروح بمباحثات السلام الجارية منذ أكثر من أربع سنوات بين المتحاربين.
ممثلو النظام السوري، الذي احتشدوا في فنادق فاخرة بالمدينة السويسرية، لم يجلسوا حتى الآن وجها لوجه مع ممثلي المعارضة، أقصى ما وصلت إليه المفاوضات هو التواصل من خلال وسطاء يجولون بين الوفود التي جلس كل منها في غرفة منفصلة.
هذا الأسبوع، تقول المعارضة السورية إنها مستعدة لإجراء لقاءات مباشرة مع ممثلي الأسد، ما يعني أن سنوات الفشل ربما تقترب من نهايتها. المعارك الرئيسية في المدن السورية الكبرى انتهت. تنظيم داعش اقترب من الهزيمة النهائية. ويبدو أن الدول المرتبطة بالملف السوري، أي إيران وروسيا والسعودية وأمريكا وتركيا، قد اتفقت على بعض النقاط الأساسية المشتركة.
لقد سبق لنا أن كنا هنا، ولكن الأمور مختلفة هذه المرة، فروسيا تستخدم كل ما في جعبتها لجعل الأمور تسير لصالح الأسد. الولايات المتحدة أخرجت نفسها نوعا من هذه المعمعة، وهي متصالحة مع هذا القرار تحت إدارة الرئيس دونالد ترامب، أما المعارضة السورية، التي تلقت في السابق دعما أمريكيا، فهي منهكة جدا وبالكاد يمكنها التحرك.
المعارضة كانت في السابق قد تمسكت بشرط مسبق للتفاوض، وهو رحيل الرئيس السوري، بشار الأسد، عن السلطة، وقد كان الرئيس السابق، باراك أوباما، يدعم هذا التوجه، ولكن خلفه ترامب عكس ذلك التوجه، وظهر ذلك عبر حديث وزير خارجيته، ريكس تيلرسون، الذي اعتبر أن التفاوض يجب أن ينصب على آلية رحيل الأسد لا أن يكون ذلك شرطا مسبقا.
ويبدو أن الأسد يُحسن الاستفادة من هذا الدعم الضمني المقدم من ترامب، فوفد الحكومة السورية تأخر في الوصول إلى المفاوضات، معلنا رفضه لبعض مطالب المعارضة حول طبيعة المشاركة في الحكومة الانتقالية. ومع تزايد التراجع الأمريكي يضعف تأثير الوسيط الدولي الذي أصدر عشية المفاوضات بيانا يطلب فيه من الطرفين الامتناع عن وضع شروط مسبقة.
تيلرسون كان واضحا في عرض وجهة النظر الأمريكية حيال جولة المفاوضات الحالية، فواشنطن ترى أنها قد تكون بداية للنهاية في سوريا، وقد قال الوزير الأمريكي أن بلاده يمكنها بعد ذلك سحب قواتها التي وصل عددها إلى ألفي جندي.
بناء على تجاربي السابقة في تغطية جولات التفاوض بالسنوات الماضية فلدي شعور حول الطريقة التي ستجري عبرها الأمور، الأطراف السورية ستتبادل الاتهامات عبر وسائل الإعلام، أما روسيا وأمريكا فستتعهدان بالعمل من أجل التوصل لتسوية، ولكن في كل مرة تعود المفاوضات لتنهار بسبب تصعيد قوات الأسد لعملياتها الهجومية أو تشديدها لحصار بعض المناطق.
المعارضة من جانبها تتمسك بموقف محق، وهو أنها لا يمكنها الدخول في مفاوضات بينما يتعرض سكان المناطق الخاضعة لسيطرتها إلى التجويع والقتل. يتبع ذلك عادة إعلان الوسيط الدولي عن تجميد المفاوضات لفترة تمتد لأشهر، ولا تنقضي عادة إلا بعد انتهاء الأسد من المعركة التي كان يخوضها والتي أدت لتوقف المفاوضات. هذا المسار تكرر في حمص والبلدات المحيطة بدمشق ومن ثم في حلب.
هذه المرة تدور الأحداث في الغوطة الغربية، وهي المنطقة المجاورة لدمشق والتي يهدف الأسد للسيطرة عليها. المراقبون الدوليون ينظرون إلى الأحداث عن كثب لكن ليس بوسعهم القيام بشيء لتغيير الواقع بحال قرر الأسد استغلال فرصة المباحثات من أجل تصعيد هجومه الميداني.
في كل مرة كان الأسد يتسبب في توقف المحادثات كانت روسيا تسارع إلى توفير الغطاء له عوض الضغط عليه ليتوقف. هذا رغم أن هذا السلوك كان النقطة الرئيسية التي اتفق عليها أوباما خلال ولايته مع نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، وهو العمل لدفع الأسد إلى وقف القتال. وحتى عندما وافقت روسيا على قرار مجلس الأمن رقم 2254 الذي يحض على انهاء الحرب بالوسائل السياسية اعتقد الجميع أن روسيا لن تتراجع عن تنفيذ واجباتها.. ولكن فعلت ذلك.
وحتى لو أن روسيا طلبت من الأسد التفاوض بإيجابية، فلن يكون لدى الرئيس السوري ما يدفعه لفعل ذلك لسبب بسيط، الرجل يحقق مكاسب ميدانية وانتصارات. طبعا بالنسبة لأي رئيس ديمقراطي فإن الانتصار في حرب كالحرب السوري، التي أدت حتى الآن لتهجير خمسة ملايين شخص وقتل مئات الآلاف ونزوح نصف الشعب وسط دماع واسع، هو انتصار فارغ، ولكن ليس للأسد وحليفه بوتين.
كم كان بوتين حذرا في تعامله مع حسابات الوضع في سوريا، فقد حاول نقل مفاوضات جنيف إلى منتج سوتشي الروسي، وانتظر اللحظة المناسبة التي تخلى فيها الرئيس السابق أوباما عن “الخطوط الحمر” التي رسمها في سوريا من أجل أن يتدخل ويمسك بالوضع.
الرئيس الروسي أراد أن يُظهر للعالم أن قادر على دعم حلفائه بصرف النظر عن بشاعة سلوكهم، كما أنه في الوقت نفسه استرد مكانة روسيا كقوة عظمى في العالم، وقد أدت خطواته مثل ضم القرم واجتياح أوكرانيا إلى طرد بلاده من على طاولة مجموعة الثمان.
كم تبدو الأمور مختلفة اليوم! لقد جمع بوتين قادة الإقليم في روسيا قبل بدء مفاوضات جنيف، وجاء ذلك بعدما أقنع الأسد بمغادرة مكانة الآمن في دمشق لزيارته في روسيا، ليخرج بذلك من بلاده لأول مرة منذ سنوات، ما يدل على مدى النفوذ الذي يمتلكه بوتين على الرئيس السوري.
وجلب بوتين الرئيس الإيراني، حسن روحاني، ونظيره التركي، رجب طيب أردوغان، إلى روسيا من أجل إطلاق عبارة رئيسية، وهي أن داعش قد هُزم. وترجمة ذلك هي: هل القوات الأمريكية أن تنسحب من سوريا. طبعا هذا لا يعني أن تركيا وإيران ستواصلان قبول ما تقدمه روسيا لهما، فلكل منهما مصالحه الخاصة وأولوياته الإقليمية، ولكن هذا هو الوضع حاليا.
الأجواء الحالية في جنيف تشير إلى أن بعض التقدم قد يحصل في المفاوضات، ولكن النصوص تبدو معروفة، فترامب كان قد قابل بوتين خلال جولته الآسيوية الأخيرة وخرجا ببيان مشترك حول سوريا يدعو للحل السياسي بناء على قرار مجلس الأمن رقم 2254، مع التنويه بإعلان الأسد مؤخرا التزامه بمسار مفاوضات جنيف.
نعم. لقد سمعنا هذا الكلام من قبل، فحتى روسيا تريد إنهاء الفوضى العارمة السائدة في سوريا، ومع غياب معارضة ترامب فهي ستسعى لفعل ذلك بناء على شروطها الخاصة.
جنيف، سويسرا (CNN)