كيف مات بائعو الفول.. أصدقائي؟/ هزار الحرك
عبثاً ذهبت توسلات أمي وتحذيراتها أدراج الرياح، فما كان لرعود الخوف التي أطلقتها صوبي أن تقطع حبل الرائحة الشهيّ الذي شبك قلبي، إذ مررت بعربة الفول الصامدة في صقيع مدينتي الحارق.
وعبثاً راحت تحذيراتها عن التلوث والأوساخ العالقة في صحون لا يعرف سوى الله أيّ أيد لامستها قبلي، كان البخار المتصاعد من حلة الفول الغارقة بسواد خارجي وداخلي، تغلي في دمي، لا شيء ولا أحد يمكنه ثنيي عن التهام حبيبات الفول، ولا حتى توسلات أمي بأننا سنفوت الباص الذي سيقلّنا هذا العصر إلى منزلنا إن أضعت الوقت في التهامها.
راضخةً كعادتها دفعت ثمن الصحن، الركاب ركضوا خلف الباص، راقبتهم وهم ينحشرون داخله “كقطرميز المكدوس” ويتعلقون على أبوابه، أما أنا فكنت أبتلع الحبيبات الساحرة وأرشف مرقتها وسط سيل من الشتائم والقرصات الحاقدة على زند “الحسن صبي” كما اعتادت أمي أن تناديني إذا انتصر عنادي عليها.
كانت تلك حكاية الحب الأولى والمبكّرة لعربة الفول، وبداية صداقة أزلية مع البائع الجوال، الذي ما فتئ بتواطؤ حذر، يزيد الحبيبات في صحني كلما أوشك أن يفرغ، ويبادلني ابتسامة سخرية متواطئة، للانتصار الذي حققته لتوي. وبعكس الأطفال الصغار، يبدو أنني كنت أمتلك إدراكاً فطرياً بالطريقة المُثلى لتناولها، أحدثت فتحةً في جسدها ودفعتها بإصبعيّ لتزلق كالحرير في فمي… كنت مستعدة للعودة مشياً على الأقدام في سبيل ذلك.
الحب في الصغر.. كالنقش في الحجر
بعد عشرة أعوام وأكثر، ماعدت مضطرةً لتحمل تحذيرات أمي وقرصاتها وشتائمها، كبرت وذهبت إلى العاصمة لأدرس، وصار بوسعي الاستمتاع بحريتي المطلقة، فطاردت عربات الفول في شوارع دمشق وساحاتها، من كراجات صحنايا، إلى كراج العباسيين، من دوار كفر سوسة، ساحة باب توما، سوق الصالحية، التنابل في الشعلان، آخر خط مزة جبل، وحتى إلى أبو رمانة وصولاً إلى كراجات الست زينب. لم تتناسب مشاعري طرداً مع المنطقة التي تقف فيها عربة الفول، فما لمع حبي وبرق مع لمعة الحلة في المناطق الراقية، وما اسودّ مع تفحمها في المناطق الشعبية، النظافة، الإطلالة، نوعية من يشاركونني الوقوف والتهام الفول، وأياً كانت الخدمة المقدمة، وقوفاً جلوساً أو اتكاءً، كان الحب في داخلي يفيض.
بائعو الفول… أصدقائي
لا تتحدثي إلى الغرباء، كانت تلك وصية أمي التي فشلت على الدوام في اتباعها، إذ لم يكن أسهل عندي من عقد الصداقات مع الغرباء، بائعو الفول كانوا بعضهم، ولمواظبتي عليهم، كانوا جميعهم دون استثناء يستقبلونني بابتسامة ساخرة متواطئة، كابتسامة صديقي الأول، الحميمية التي فرضتها أنفاسهم الدافئة في برد الشتاء، والمشبعة ليموناً و كموناً، أفقدتني الحذر في الحديث إليهم وأمامهم، لدرجة أنهم قد يتدخلون في لحظة لإبداء رأي أو نصيحة، أو حتى لفضّ خلاف يقع بيني وبين صديق أو صديقة.
لكل قصة حب.. نهاية حزينة
بينما كان يغرف من الحلّة الهائلة ليملأ صحنينا، لكزتني صديقتي في خاصرتي وغمزت لي بطرف عينها إلى أصابعه، التوقيت الذي اختارته لتنبيهي كان غايةً في السوء، فقد وضعت للتو حبة الفول في فمي كما اعتدت، لكنها استحالت “كبكوبة” شوك واخزة، عندما وقع نظري على أصابع البائع المتسلخة، كانت متماهيةً مع حبات الفول التي أخرج المرق المغلي لبّها من قشرتها، موحلةً في لونها.
أصابعه حبات فول موجعة، أتحضر لمضغ واحدة منها الآن، وبتلذذ مفتعل تابعت، لئلا أجرح مشاعره، أحمق من يظن أن الفقراء لا يملكون حساً مرهفاً، أخفى أصابعه التي سلخ الماء المغلي جلدها عن لحمها في جيوبه سريعاً، لكنها عادت للظهور ثانية عندما رن هاتفه المحمول، بضع كلمات فحسب، وبعدها بدأ بسيل من السباب والشتائم على المحافظ والبلدية والأمن: “عم أدفش عرباتي كل يوم 5 كيلو متر من داريا لهون منشان يجي حضرة الضابط تبعك يمص دمي، قلو خمسية ورقة مافي غيرها، عجبو أهلا وسهلا، ماعجبو للجهنم، حتى لو بيكلفني هالحكي مصادرة العرباية، أنا عندي خمس ولاد بدي طعميهم، إذا بدي إعطي حضرتو ألف واللي فوق حضرتو ألف واللي فوق فوق حضرتو ألف شو طعمي ولادي، خ….؟؟” قالها لمحدثه وأغلق السماعة في وجهه، اعتذر منا وطلب استعجالنا في تناول الفول قبل أن تأتي البلدية وينفذ الضابط المبتزّ تهديده، بجسده النحيل دفع عربة الفول بسرعة، وتركنا تحت سماء دمشق التي بدأت تمطر..
بائعو الفول، أصدقائي، غالبيتهم كانوا من ريف دمشق، من حزام خصرها المهمش والمقهور، من داريا، والمعضمية والحجر الأسود، والمخيم، في ما مضى شاركتهم البلدية والمحافظ ووزير الإدارة المحلية، وربما حتى رئيس الدولة، في لقمة عيشهم، اليوم لا أعرف كيف ماتوا؟ ..تحت قصف البراميل المتفجرة، أم في المذبحة المتجولة، أم في السجون!!.. إن كان أحدهم قد نجا من جهنم تلك، فلا بدّ أنّه مات متجمداً بالعاصفة.
العربي الجديد